صنعاء نيوز/بقلم د غسان شحرور -
في صباح يوم عادي، دخلت إلى عيادتي سيدة في العقد الخامس من العمر، تدفع أمامها كرسيًا متحركًا جلس عليه رجل مسن. كان رأسه مائلاً إلى أحد الجانبين، وعيناه شاردتين كأنهما تبحثان عن شيء ضاع وسط خضم الذكريات. بدا عليه الوهن، بينما كانت هي خلفه، تمسك بالمقبضين بثبات، تنقل قدميها كمن يخشى كسر صمت هش يملأ الفراغ من حولهما.
ابتسمتُ لها وأشرت نحو الكرسي المخصص للفحص، محاولاً تقديم يد المساعدة مع الممرضة. لكنها أذهلتني عندما انحنت بخفة وسرعة واحتضنت الرجل بحنان لا تخطئه العين، كما لو كان قطعةً هشة من حياتها تخشى سقوطها، ثم أجلسته بلطف على الكرسي كأنها تفعل ذلك ألف مرة يوميًا.
راقبتها مندهشاً وأنا أشعر برغبة طاغية في فهم قصتها. بدأتُ بفحص والدها بصمت، لكن صمتها المرافق كان مثقلاً بحكايات مكتومة.
عندما فتحت حديثها، جاء صوتها متقطعًا بين تنهيدة وأخرى، يحمل نبرة غريبة تمزج بين الصبر والقوة.
"أصيب بالخرف منذ سنوات... لم يعد يعرفني. في بعض الأيام يناديني بأسماء غريبة، وفي أيام أخرى، يتهمني بأشياء غير مفهومة، ويصرخ في وجهي ويشتمُني." قالتها كأنها تُلقي جزءًا من العبء دون أن تنتظر شيئًا في المقابل.
نظرتُ إليها بدهشة لم أستطع إخفاءها. تابعت الحديث بابتسامة مكسورة: "يظن أنني غريبة... يعتقد أنه مسجون معي. يسألني عن والدتي الراحلة أحياناً، وكأنها ستظهر فجأة لتُنقذه مني." ثم قالت وفي عينيها ما يشبه الدمع: "لكني أعرفه، وأعرف أن حبي له أقوى من نسيانه لي"
كلماتها اخترقت قلبي؛ ليست مجرد أمور يومية، بل معركة تخوضها في صمت. تماسكت رغم ذلك وابتسمت باحترام وتقدير، أخبرتها عن حالات مشابهة، وعن مراكز متخصصة تقدم النصح والتدريب والمساعدة في مثل هذه الحالات. وأنه لا بد من الاستعانة بها، وكذلك لا بد من الاهتمام بصحتها وشؤون حياتها، لكنها تابعت: "أشقائي... تخلوا عنه. اتصلوا مرة وقالوا إن هذا قدري، لأني غير متزوجة. بعضهم يرسل المال، لكنه لا يشتري الأيام والليالي التي أقضيها بجانبه، ولا يمسح دموعي."
نظرتُ إلى الرجل؛ جسده الشاحب وعينيه الزائغتين، وبدأتُ أتخيل الساعات والليالي التي قضتها تسهر بجانبه، وترعاه في دقائق حياته الشخصية، واللحظات التي تعايشت فيها مع كلمات لم تكن تخصها، ومع ألم لم تختر حمله.
أنهيت الفحص الطبي وقمت بإجراء تنظيف للأذن المسدودة، وشكرتها على رعاية والدها، وطلبت من الممرضة مساعدتي في إعادة الرجل إلى كرسيه، لكنها سرعان ما تقدمت وبتلك القوة التي أبهرتني سابقاً رفعت والدها مرة أخرى إلى الكرسي المتحرك. وقبل أن تخرج، استدارت ونظرت إليّ بابتسامة متعبة تحمل في طياتها دروسًا لم أكن أتوقعها وقالت: "الحياة تضعنا في أماكن لا نختارها، لكننا نحاول أن نكون أقوياء، أليس كذلك؟ لا أقول إلا الحمد لله، نعم الحمد لله".
وقفت أراقبها وهي تختفي ببطء. جلستُ بعدها عاجزًا عن نسيانها، وأنا أفكر في الحمل الذي تحمله وحدها، ذاك الذي لا يراه أحد، أين الأبناء؟ وأين المجتمع؟، لم أشعر أنني قد غبت في كثافة اللحظة حتى سمعت الممرضة تنادي اسم المريض التالي.
|