صنعاء نيوز/جميل مفرِّح -
منذ الأيام الأولى لاحتدام وتأجيج الأزمة السياسية الراهنة في بلادنا، والخيّرون والعقلاء في الساحة الوطنية من سياسيين ومتخصصين وحتى مواطنين عاديين يؤكدون بثقة مطلقة على أن خيار التقارب والتحاور والتفاهم هو الخيار الفصل وطوق النجاة الفعلي للتخلص من البراثن المسمومة التي تدنو تارة وتنأى أخرى من جسد الوطن في مناورات تهديد بالفتك بما يمكن الفتك به من مصالح سواء أكانت سياسية واجتماعية وأمنية، أو كانت على شكل مقدرات ومنجزات بذل في سبيل تحقيقها الغالي والرخيص من الوقت والجهد والمال.
منذ البدايات الأولى وأولئك العقلاء الغيورون على الوطن يرفعون رايات الحكمة ويهتفون للعقل والمنطق، وينادون المحلقين عالياً جداً في الفضاءات المطلقة لخيالاتهم وأطماعهم، محذرين إياهم من تجاوز مدى الجاذبية الذي سيأخذهم بعيداً وبعيداً جداً عن أرض الواقع التي هم ونحن والجميع في أمس الحاجة إليها قصر الزمن أو طال، ومذكرين إياهم بأنه ما طار طير وارتفع إلا كما طار وقع.. منذ تلك البدايات والمناشدات والجميع يدرك أنه لابد من الحوار والتفاهم بأية صورة من صورهما وفي أي توقيت وأن المرجعية والرجعة أيضاً لن تكون إلى سواه الآن أو غداً أو بعد غد..
وها نحن من يوم لآخر ومن لحظة لأخرى نزداد يقيناً ونتشبع إيماناً بأن أية صورة من صور التعامل مع الأزمة الراهنة سوى خيار التحاور والتفاهم ما كانت ولن تكون فاعلة وذات جدوى، وأن المتشنجين والمتعصبين والإقصائيين من أي طرف أو غاية أو توجه كان، هم من لا يريدون لهذا الوطن أن ينجو مما يحاك له من غشاوات وكمامات وقيود مفرطة جداً في التحامل عليه وعلى بنيه.. وما يُرسم له من خرائط طرق ستودي به لا محالة، وستقوده إلى أقعار هاويات سحيقة ومظلمة، وكل ذلك من أجل تحقيق مقاصد ومكاسب، لا علاقة لها البتة بما يدعيه هؤلاء أو أولئك في شعاراتهم ووسائل جذبهم للعامة من مصالح وطنية أو شعبيه يدغدغون بها مشاعر وأحلام الطيبين من أبناء هذا الوطن..
ولكنه وبتوفيق من الله عز وجل الذي أطال أمد وعمر التناور في هذه الأزمة، قد بدا جلياً ومؤكداً أن هؤلاء المأزومين ومن خلال تصرفاتهم وتعاملهم مع الحرية والديمقراطية، والذي بدا أنه تعامل مأزوم أناني أيضاً، يلهثون وراء مطالبهم وحسب ويطأون خلال ذلك واجههم وإن يكن الوطن وأبناؤه، واتضح منذ البدايات ومنذ رفضهم لأي سبيل أو نهج ينحو منحى الحوار والتفاهم وتغليب مصلحة الوطن والشعب على أية مصلحة أخرى، أنهم يتصفون بالتشنج المطلق والأنانية المفرطة والجشع والإقصائية.. وصفات أخرى لا يمكن أن تندرج في صفات صانعي الثورات الإنسانية والمغيرين المثاليين الذين يفنون أعمارهم من أجل أوطانهم، وإنما هم ممن يسعون إلى فناء أوطانهم من أجل أعمارهم أو من أجل أنفسهم.
الذي يزعج بالفعل في أولئك كما أشرنا هو التشنج المطلق والإقصاء المخيف، إنهم يعتقدون، أو بالأصح يحاولون أن يعتقدوا أنهم لوحدهم المقبل وما سواهم الماضي، أنهم النهار وما سواهم الليل، أنهم الحقيقة وما سواهم الزيف، وأن كل ما يتعارض مع أهوائهم لا يمكن أن يكون حقيقة ولا يمكن حتى التعامل معه وإن كان حتى الحقيقة ذاتها.. وحين ندقق في الوقائع بعقلانية وحيادية وبسلامة تفكير وتدبر سنجد صفتهم لا تغادر رؤية شاعر اليمن الكبير ورائيها الراحل الأستاذ عبدالله البردوني وهو يقول "قالوا هم البشر الأرقى وما أكلوا.. شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا".
مجدداً نقول وسنظل نقول إن التشنج والمصادرة والإقصاء وسياسة أنا ومن بعدي الطوفان.. وهي السياسة التي امتطتها وتمتطيها بعض القوى السياسية في الساحة الوطنية، ما كانت ولن تكون على الإطلاق نهجاً سوياً للتعامل مع الأزمات ولا خطاباً سمحاً مع الشعوب وأن القبول بالآخر هو قبول بكل الآخر بي وبك وبنا وبهم دون استثناء أو إقصاء من أي نوع.. وما دمنا رضينا بالديمقراطية وانتهجناها وما زلنا نزايد بها في كل تقولاتنا ودعاوينا وندعيها في توجهاتنا ومآربنا، فعلينا أن نؤكد ذلك الإيمان إطلاقاً بالتصرفات والسلوك، وعلينا أن ندرب أنفسنا على الدوام على التعود على التعامل معها والتعامل عبرها مع الآخرين.. علينا أن نؤمن بمن نريده أن يؤمن بنا لئلا نكون فعلاً أنانيين وأن نبتعد ما استطعنا عن التشنج الفكري والعقلي لئلا نجد أنفسنا يوماً وقد تحولنا إلى صخور صماء مهملة على قارعة الحياة.. والله من وراء النية والمراد.
[email protected]