صنعاء نيوز/ إبراهيم محمد الهمداني -
لم يختلف تموضع الوسيط المصري عن سابقيه، فهو أول المنافقين المهرولين إلى التطبيع، وأول من حاصر غزة قبل إسرائيل، التزاماً باتفاقية (كامب ديفيد)، وأكثر من مارس الضغوطات الجائزة، على حركة حماس خلال الهدنة، لإرغامها على الخروج من غزة، وتسليم حكم غزة لطرف ثالث، وصولاً إلى الضغط العسكري، بحشد الجيش المصري على تخوم غزة، والتهديد باجتياحها ضمنا، وفرض سيطرته عليها، بوصفه طرفا محايدا، تحت مبرر الحفاظ على أهالي غزة، من حرب الإبادة الإسرائيلية، وتجنيبهم خطر المجازر العدوانية، وإسقاط ذريعة الكيان الإسرائيلي، وإيقاف هذه الحرب الوحشية، لكن حقيقة هذا الدور المصري، هي أنه يسعى لتحقيق ما عجزت عنه جحافل وترسانة إسرائيل وحلفائها، في ميدان المعركة، على مدى خمسة عشر شهرا.
إن عودة مصر إلى الوصاية على غزة، سينتج عنه فصلها عن جسد الدولة الفلسطينية، وتحييد فصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية، وفي مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية حماس، عن دورها في حماية غزة، وتبني فعل المقاومة والتحرير، وسيكون تهجير سكان غزة، هو الخطوة التالية، المطلوب من حاكمها الجديد – المصري المحايد – تنفيذها، خاصة وأن النظام المصري، قد سارع إلى بناء خمسمائة ألف وحدة سكنية في سيناء، استعداداً لاستقبال أهالي غزة، وكأن قرار تهجيرهم، قد أصبح قدراً مقدوراً، وهذا الفعل منقاض تماماً، لما تم تسويقه إعلامياً، في دور البطولة المزعوم، الذي أسفر عنه موقف (السيسي) الشجاع، الرافض لتهجير أهالي غزة إلى سيناء سلفاً.
ولكن.. كيف يمكن فهم تناقضات الموقف المصري؟، وكيف يمكن الموائمة بين القول والفعل؟، وهنا لابد من التنويه إلى السياق الزمني، الذي صدر فيه تصريح "السيسي"، حيث كان في بداية العدوان على غزة، حين طلبت منه حكومة الكيان الإسرائيلي، استقبال أهالي غزة في سيناء، ريثما يكمل الجيش الإسرائيلي، مهمة القضاء على حماس، دون تعريض حياة المدنيين للخطر، وعلى مستوى السياق النصي لرد "السيسي"، يتبين أنه لم يكن رافضاً للفكرة، من حيث المبدأ، لأنه اكتفى بتقديم مقترح بديل، وهو تهجيرهم إلى صحراء النقب، لأن ذلك سيصبح حافزاً قوياً، لإنجاز مهمة القضاء على حماس في أسرع وقت، وهنا أُسدل الستار على مشهد مفكك، بنهاية مبتورة، لموقف ليس فيه من البطولة، إلا ما ألبسه الإعلام الإمبريالي، بمقدار ما يكفي لجعل سيناء، هي المنفى الأصلح لأهالي غزة، بخلاف مقترح صحراء النقب، الذي بدا مقترحاً غير منطقي إطلاقاً، ولذلك لم يكلف الإسرائيلي نفسه، عناء الرد على تصريح (السيسي)، على الأقل استنكاراً لجرأته غير المعهودة، في الرد على حليفه الوجودي، تاركاً له هامش أداء دور بطوليٍ جريء، لتمكينه من أداء دوره المستقبلي، الذي يتكامل مع الدور الإجرامي الإسرائيلي، ويجسد فاعلية المجازر وحرب الإبادة الشاملة، التي لا نجاة منها، سوى بالنزوح الجماعي، والخروج من فضاء الموت (غزة)، وحينها ستتجه المناشدات إلى الشقيق المصري، لفتح معبر رفح، واستقبال أخوة الوطن والدين في سيناء، حفاظاً على حياة من تبقى منهم، ولن تتوانى ماكينة الإعلام المتصهين، عن طرح "التهجير" تحت قناع النزوح، بوصفه فعل الضرورة الوجودية، وتسويق المناشدات الفلسطينية والعربية، في صورة دعوات إنسانية جماعية، تناشد في "السيسي" الحمية والنخوة والأخوة، وبينما تناقش مخاطر ذلك، على اتفاقية (كامب ديفيد)، وتداعيات انهيار السلام بين مصر والكيان الإسرائيلي، على الشعب المصري، فإنها تعول على بطولة "السيسي"، الذي رفض الانصياع لإسرائيل سابقا، وما دام قد تجرأ على قول "لا" في وجه إسرائيل، في المرة الأولى، فلن يتردد في قولها مرة ثانية، لكنه سيقولها هذه المرة، وحشود جيشه على مشارف غزة، لتأمين حياة (النازحين) المهجرين، ومنع العدو الصهيوني من ارتكاب أي حماقة ضد مصر، أو القيام بأي انتقام ضد الفلسطينيين، وسيكون جيش مصر هو البطل التالي، المعوَّل عليه انقاذ غزة، وتولى حكمها وإدارتها، على شرط خروج المقاومة منها، وهذا الشرط على قسوته، إلا أنه أهون الضررين، مادام سيدفع عنها خطر التدمير والاحتلال، وهنا تحجب الرواية الإسرائيلية، دور البطل قبل اكتمال صورته.
رغم معرفة (السيسي ونظامه)، حقيقة المؤامرات التصاعدية، في رواية الكيان الصهيوني وحلفائه، عن "اليوم التالي لغزة بدون حماس"، إلا أنهم سرعان ما انخدعوا بعناوينها، وبريقها في الترويج الإعلامي، خاصة وأن المشهد السياسي والاجتماعي المصري، لم يذق طعم بطولة حقيقية منذ النكسة، التي مازال يتجرع مرارتها حتى اليوم، ولعل في ذلك ما يفسر اندفاعه الكبير، لتمثيل دور بطل غزة ومخلصها، متجاوزاً بنية الحبكة التصاعدية، وتسلسل الأحداث وترابطها، قافزاً من البداية إلى الوسط إلى النهاية، جامعا بين عدد من المتناقضات، مثل رفض التهجير وعدم إدانة العدوان، ودور البطل المخلص والقاتل بالشراكة، والوسيط المحايد وحليف إسرائيل، والمتمرد على الهيمنة والمستسلم لكامب ديفيد، وعلى هذا النحو من صراع المتناقضات، سقط محرر غزة، في قبح الاستبداد وحق الوصاية عليها، حالماً بهيلمان الزعامة العربية المفقودة، رغم يقينه أنه سيكون الهدف التالي، بعد غزة مباشرة، وأن صمود غزة وثبات حماس، بمثابة خط الدفاع الأول، عن مصر والأردن وما حولهما |