صنعاء نيوز/بقلم د غسان شحرور -
في زمنٍ باتت فيه المعرفة سلعةً عابرة، والوفاء للعلم مرهونًا بمنصبٍ أو لقب، يبرز نموذجٌ استثنائي اسمه فخر الدين القلا، (صفد – فلسطين، 1930 |
، 2 أيلول/سبتمبر 2018 )، ذلك الرجل الذي اقترن اسمه بالفعل لا بالقول، وبالعطاء لا بالادعاء، وظل ينادي بتعزيز التعليم والتعلم في عصر المعرفة والمعلومات، حتى غدا اسمه فخرًا حقيقيًا للتربية والثقافة والمعلومات في بلادنا.
معلم لا يتقاعد
منذ لقائي الأول به، أدركت أنني أمام أحد أولئك القلائل الذين لا يغادرون مواقعهم العلمية إلا ليواصلوا رسالتهم من موقعٍ أرحب: موقع الضمير والمسؤولية. التقينا في مؤتمرات علمية متنوّعة في دمشق وبيروت والشارقة والإسكندرية ومنها المؤتمرات الخاصة بحقوق وحاجات الأشخاص الصم العرب، وكان حضوره دائمًا يحمل قيمةً مضافة، ترفع منسوب الفكر وتغذّي الروح المهنية.
وقد لخّص رحلته الطويلة بعبارة ذات دلالة عميقة:
“مذكّراتي: مما تعلّمت وعلّمت”.
جعل من سيرته نافذةً مفتوحة على ستة عقود من التعلّم والتعليم، والعمل والابتكار، والبحث والتدريب. لم يقتصر أثره على القاعات الجامعية، بل امتدّ إلى ميادين الحياة بأسرها. بدأ بسرد ما تعلّمه من معلميه في التعليم الابتدائي والثانوي في صفد، ومن ثم من مدرسة حيفا الصناعية في فلسطين، مرورًا بمعاناته في حرب فلسطين وبدايات اللجوء إلى سورية، وما نهله من مدارس حماة وطرابلس، ومن حمص إلى القاهرة، وصولًا إلى كلية التربية في جامعة دمشق، حيث أسهم في تكوين أجيال لا تُعدّ ولا تُحصى من المعلمين والباحثين.
وقد حرص على إصدار كتاب يحمل هذا العنوان عام 2007، ووزّعه مجانًا على نطاق واسع، تعميمًا للفائدة، وحتى تصل رسائل حياته الغنية الطويلة إلى أبناء المجتمع.
جذور لا تغيب
لم يكن الدكتور فخر الدين القلا مجرد أكاديمي بارز، بل كان فلسطينيًا حمل صفد في قلبه ومسيرته. وظلّت فلسطين حاضرة في ذاكرته ومبادئه. وحين أجبره اللجوء على الرحيل، حوّل محنته إلى رسالة تربوية، وأسهم في بناء التعليم في سورية والعالم العربي. لم ينسَ الجرح، لكنه تجاوزه بالفعل والمعرفة، مؤمنًا أن بناء الإنسان هو أصدق أشكال العودة.
بين التجريب والتربية
لم تكن مسيرته العلمية تقليدية. فقد جمع بين التعليم المهني، والتربوي، والأكاديمي، وابتكر أساليب وتجارب غير مألوفة – وصلت حد تدريب الحمام والدجاج كمدخل لفهم السلوك الإنساني! وكان من أوائل من طبّقوا نظريات سكينر وسواها في بيئة عربية، جاعلًا من العلاقة بين الفكرة والتطبيق، وبين التراث والتقانة، ساحة عمله التربوي. وكان سبّاقًا في ميادين تقنيات التعليم، والتعلم الذاتي المبرمج، والتدريس بالحقائب التعليمية.
عاشقٌ للتعلُّم… حتى من طلابه
لم تغب عنه يومًا روح التعلُّم، ولا تعطّلت عنده آلة العطاء. ظلّ يسأل ويتعلّم، حتى من طلابه. وحمل في قلبه عرفانًا عميقًا لأولئك المعلمين الذين أثّروا في مسيرته. كتب مذكراته بروح الشاهد المسؤول، لا المتباهي.
وقد أحسنت كلية التربية في جامعة دمشق عندما نعتْه في جمعٍ مهيب، وأطلقت اسمه لاحقًا على إحدى قاعاتها؛ وفاءً لعطائه الطويل في خدمة التربية والتعليم.
ذاكرة المواقف
عرفته من خلال العديد من المناسبات الثقافية والعلمية والاجتماعية، وكان متميزًا في عطائه، دمثًا في تعامله، متواضعًا في حضوره. ورغم فارق العمر والتخصص، تبادلنا الزيارات والنزهات الفكرية. وقد اعتاد – مهما كانت طبيعة مشاركته في أي فعالية – أن يُدَوِّن ملاحظات دقيقة وملخصات عما يدور، حتى لو كان زائرًا فقط.
في أحد المؤتمرات العربية الصحية التربوية الاجتماعية في مدينة الشارقة، كنا حاضرين في إحدى الجلسات، وفوجئ رئيس الجلسة في نهايتها بغياب المقرّر، المسؤول عن تلخيص مداخلات المتحدثين والتوصيات. وبينما ساد التوتر، اقترح أحد الحضور الاستعانة بالدكتور القلا، الذي شوهد بين الحضور يدوّن ملاحظات. وما إن طُلبت مساعدته، حتى وقف بهدوء، قائلاً:
“نعم، سأقرأ عليكم ما كتبت، عسى أن تجدوه مناسبًا”.
فكانت خلاصة دقيقة مذهلة أبهرت الحضور والمتحدثين معًا.
وفي مناسبة أخرى، خلال مؤتمر عربي حول تكنولوجيا المعلومات في دمشق عام 2000، وبينما كنت أستعد لإلقاء ورقتي، لمحته بين الحضور. فجاء إليّ قائلًا:
“وجدت اسمك في قائمة المتحدثين، ما رأيك أن أقيّم منهجيًا أداءك في العرض وأقدّم لك تغذية راجعة بعد الجلسة؟”
كان اقتراحًا نادرًا، عميقًا، ومفيدًا، يعكس روح المربي الحقيقي.
وفي مناسبة أخرى، وأثناء حضوري ندوة طبية عن مرض السكري موجهة للمجتمع والإعلام، وجدته بين المتحدثين عن تجربته في مكافحة هذا المرض وقد عرض كتيباً عن خلاصة تجربته ألفه متطوعاً ووزعه مجاناً، أشاد فيه الأطباء المتخصصون وأثنوا على دوره في توعية أفراد المجتمع المصابين بالسكري .
إرث من ضوء
هناك مواقف وذكريات كثيرة يصعب حصرها في هذه العجالة، لكنها جميعًا تشير إلى عقلٍ تربويٍّ أصيل، ونفسٍ نبيلة تؤمن أن العلم رسالة، وأن الدعم لا يتقيد بمنصب، ولا بالعمر، ولا بمردود.
لقد آمن أن التربوي الحقيقي لا بد أن يضع خلاصة تجربته ومعرفته والدروس المستفادة في حياته بين يدي الجمهور الواسع، لذلك كتب عن ذلك كثيراً ، وله العديد من المؤلفات والمقالات والدراسات، وأجرى العديد من اللقاءات الإعلامية والثقافية ليصل إلى الجميع وفي كل مكان.
نعم، في زمن كثرت فيه الشهادات وقلّ أصحاب الرسالات، يبقى فخر الدين القلا شاهدًا على جيلٍ من الروّاد الذين آمنوا أن المعرفة التزام، وأن التعليم رسالة لا تتقاعد.
رحمك الله أيها المربي الحقيقي، فأمثالك لا يغادرون الذاكرة، بل يزدادون حضورًا كلما اشتدّت الحاجة إلى القدوة.
* "عرفتهم”: زاوية ثقافية دورية يكتبها د. غسان شحرور.
أ د فخر الدين القلا
|