صنعاء نيوز/ الدكتور اسعد جودة -
في هذا المقال، سأركّز على حركتي فتح وحماس، باعتبارهما القوتين اللتين مارستا الحكم وتحملتا مسؤولية السلطة.
في الذاكرة، يعود بنا المشهد إلى عام 1990 حين التقى السفير الفلسطيني حكم بلعاوي بنظيره الأمريكي روبرت بلترو في تونس. آنذاك، اعتبرت قيادة فتح ذلك اللقاء زلزالًا سياسيًا وبداية علاقة مباشرة وعلنية مع الولايات المتحدة.
اليوم، يتكرّر المشهد مع حركة حماس، التي اعتبرت لقاءها العلني مع مبعوث ترامب، جيسون غرينبلات، عام 2025، حدثًا استثنائيًا. وهو في جوهره إعادة تكرار لما فعلته فتح سابقًا، مع اختلاف الرايات والوجوه.
قد يتساءل البعض: ما العيب في أن تنفتح هذه الحركات على الأمريكان وغيرهم؟ أليسوا ثوارًا يبحثون عن حل عادل لقضية شعبهم؟
والحقيقة: نعم، من حقّهم الانفتاح والحوار، طالما أن ذلك يتم في دائرة "المتغيّرات" وليس "الثوابت".
لكن المعضلة تكمن في سوء تقدير خطورة الدور الأمريكي تجاه الكيان الصهيوني، وتجاه فلسطين كقضية وجود لا حدود. فبالنسبة لأمريكا، وجود "إسرائيل" هو ضرورة استراتيجية راسخة يتوافق عليها الحزبان، وتشاركهم فيها أوروبا ودول أخرى. إنها تجسيد عملي لفكرة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب" التي نادى بها هرتزل، وهي أداة غربية استعمارية تستهدف تمزيق المنطقة، تعطيل وحدتها، ونهب ثرواتها.
وإذا كانت الحركتان - فتح وحماس - تملكان قناعة مشابهة لتلك التي عبّر عنها أنور السادات بقوله: "99% من أوراق اللعبة بيد أمريكا"، فإن المسار الذي سلكتاه ليس مستغربًا.
أمريكا، في رؤيتها الاستراتيجية، لا تترك الأمور للمصادفة. فهي تبني طواقم خبيرة تتابع عن كثب بنية كل حركة، ثقافتها، رؤاها، وتعدّ سيناريوهات لتغيير مسارها السياسي، ولو تطلّب الأمر الاغتيالات والتصفيات الجسدية.
المتابع الدقيق يلاحظ أن السياسات الأمريكية والإسرائيلية لم تتغيّر قيد أنملة، بل ازدادت شراسة. والحركتان، للأسف، تعجّلتا ووقعتا في فخ الاعتقاد أن المبادرة يجب أن تبدأ منهما، بينما في الواقع، حين تفشل أمريكا في الاختراق، تكون هي من يبدأ ويعرض ويمهّد.
فتح: الكفاح المسلح تكتيك... والسياسة مرحلة
فتـح اعتمدت الكفاح المسلح كتكتيك، لكنها كانت واقعية في إقرارها باختلال موازين القوى لصالح العدو. لذا تبنّت منذ السبعينات فكرة التسوية السياسية، وسعت لعقد مؤتمر دولي للسلام. البرنامج المرحلي ذو العشر نقاط عام 1974 كان الترجمة الفعلية لهذا التوجّه.
أمريكا والغرب شجّعوا هذا المسار، والعرب لحقوا به. لكن عندما تحمّلت فتح عبء "التمثيل الشرعي الوحيد"، خذلوها. وقمة بيروت 2002 خير شاهد على تخليهم عن عرفات وتركه يواجه مصيره في فخ أوسلو.
حماس: من تحرير شامل إلى دولة مؤقتة
أما حماس، التي رفعت شعار "التحرير الكامل" وراهنَت على أن الأمة ستلتحق بها، فقد صدمها الواقع. الأمة في سبات، فبدأت الحركة تعيد حساباتها.
عام 2017، أصدرت وثيقة سياسية جديدة تقبل بدولة على حدود 1967، وفتحت خطوطًا للتقارب مع فتح عبر السجون والخارج والداخل ذلك في "وثيقة الوفاق الوطني" عام 2005، التي سبقتها وثيقة الأسرى.
هذا التقارب لم يرق للكيان الصهيوني ولا لأمريكا ولا لحلفائهم، فعملوا على إفشاله. أحداث الانقسام عام 2007 كانت الترجمة الحتمية لذلك: انقسام عمودي لا أفقي، أحرق الأخضر واليابس.
الضفة... مشروع استيطان، وغزة... مشروع حصار
العدو في الضفة التهم الأرض، والمستوطنون اليوم يقترب عددهم من مليون. أما العملية السياسية فقد أُجهضت تمامًا، لتحلّ محلها معادلة "الأمن مقابل المقاصة".
وفي غزة، التي تحكمها حماس، فُرض حصار بري وبحري وجوي خانق. تُركت وحيدة تطوّر سلاحها، مؤمنة بأن هذه الاستعدادات ستُفضي لزحف الجيوش العربية والمسلمة لتحرير فلسطين. لكنها، أيضًا، كانت تراهن على سراب.
الخاتمة: من الوهم إلى الحقيقة المرة
الذين ذهبوا باكرًا نحو "حل سياسي" دون تحرير، لم يحققوا لا سلامًا ولا حرية. والذين رفعوا لواء التحرير وراهنوا على الأمة، عادوا ليديروا سلطة محاصرة ومقسّمة.
المخرج؟
يجب على فتح وحماس، ومعهما سائر الفصائل، أن يُعيدوا الحسابات.
الشعب الفلسطيني استنزف فوق طاقته، والقدس تُهوّد، ومشاريع التهجير قائمة في العقل الصهيوني والغربي.
عليهم أن يستثمروا هذا الواقع المأساوي، وما خلّفه من دمار وأبعاد محلية ودولية، لبناء رؤية جديدة واضحة:
ماذا نريد؟ وكيف نصل؟
نريد تثبيت الشعب على أرضه، ورفض التهجير والترانسفير.
نريد توفير حياة كريمة لشعب ينزف منذ قرن.
نريد استراتيجية دفاع وطني تُشاغل العدو، وتبقي الصراع مفتوحًا حتى نيل الحقوق.
الحقيقة المؤلمة:
العالم لن يرحّب بهذا الاتفاق، بل سيحاول وأده قبل ولادته.
التحدي هو الإصرار على الشراكة الحقيقية، ورفض كل اختراق أو شق للصف، مهما كانت المغريات.
أما إعادة تدوير ذات المنتج السابق، تحت وهم "الشرعيات والمؤسسات"، فهو مدخل ساذج لاستكمال مخطط التصفية.
العدو قالها جهارًا: لا نريد لا فتحستان ولا حماستان.
والمتغير السياسي الواقعي يقول: إذا انتهت حماس، سيكون طي ملف المنظمة والسلطة أسهل وأسرع.
ولذلك، فالعدو وحده من يستمتع بهذا الواقع.
الخيار الوحيد:
الوحدة... الوحدة... الوحدة.
فهي ليست فقط ضرورة وطنية، بل فريضة شرعية.
والله من وراء القصد. |