صنعاء نيوز/ إيهاب مقبل -
في سابقة غير مألوفة، خرجت تل أبيب لتعلن جهارًا أنها تشن غارات في قلب محافظة السويداء السورية "دفاعًا عن الدروز".
العنوان وحده يكاد لا يُصدق: إسرائيل التي لم تَعهدها المنطقة إلا قوة هجومية، تلبس فجأة ثوب الحماية، وتتدخل عسكريًا ضد قوات سورية لا تحمل راية إيران ولا حزب الله. فما الذي يحدث فعلاً؟ ومن يحمي من؟ ولماذا الآن؟
من السذاجة تصديق الرواية الإسرائيلية عند حدودها الظاهرة. فالسياسة الإسرائيلية، التي لم تعرف يومًا العواطف في حساباتها، لا تتحرك لـ "حماية الأقليات" ولا لـ "إنصاف الشعوب"، بل وفق هندسة دقيقة تحفظ أمنها الاستراتيجي، وتبني على أساسها تفاهمات أو قصفًا أو تحالفات عابرة. وما يحصل في السويداء اليوم ليس استثناءً، بل تجسيد صارخ لتلك القاعدة.
خريطة جديدة تتشكل... وإسرائيل تريد مكانها فيها
تحوّلت محافظة السويداء، وهي ذات غالبية درزية، إلى ساحة توتر منذ سنوات. فصائل محلية مسلّحة، أبرزها "رجال الكرامة"، رفضت الانخراط في صراعات إقليمية، وواجهت محاولات دمشق للسيطرة الكاملة على المدينة بعد انهيار الجيش السوري المركزي.
إسرائيل، التي راقبت تطورات الجنوب السوري منذ العام 2011 بدقة، وجدت في هذه الفسيفساء المحلية فرصة. ومع غياب إيران عن المشهد بعد سقوط الأسد، وظهور حكم جديد في دمشق يبدو أكثر توازنًا واستقلالية، برزت مخاوفها من إمكانية إعادة توحيد سوريا تحت سلطة وطنية لا تساوم على ملف الجولان.
أهداف إسرائيل غير المعلنة في السويداء: ما وراء "الدفاع عن الدروز"
1. تفتيت سوريا مجددًا... ومنع التوحيد: كلما اقترب السوريون من إعادة بناء سلطة مركزية جديدة، تعمل إسرائيل على تعطيل هذا المسار عبر دعم قوى محلية أو تشجيع قطيعة مع المركز. مثال تاريخي: في العام 2018، مع بدء الجيش السوري استعادة السيطرة على الجنوب السوري بعد المصالحات في درعا، شنت إسرائيل سلسلة غارات جوية استهدفت مواقع الجيش السوري، رغم عدم وجود وجود إيراني مباشر في المنطقة. الهدف كان واضحًا: منع عودة الجيش السوري لتمارس السيطرة الكاملة على الجنوب، وهو ما يعزز موقف دمشق في إعادة توحيد البلاد.
2. خلق منطقة عازلة "ناعمة" بلا علم إسرائيلي: تسعى إسرائيل إلى إقامة مناطق عازلة يتم التحكم فيها عبر فصائل محلية موالية لها أو متحالفة، بحيث لا تحتاج إلى احتلال مباشر. مثال: في مناطق الجولان السوري المحتل، تعتمد إسرائيل على تحالفات مع بعض الفصائل المحلية الدرزية لضمان عدم نفوذ النظام. في السويداء، تكرار هذا النموذج عبر دعم فصائل محلية مسلحة تشكل منطقة عازلة بين دمشق وإسرائيل.
3. اختراق سياسي واجتماعي للطائفة الدرزية: تُستخدم الانقسامات داخل الطائفة الدرزية لصالح إسرائيل التي تحاول توظيف بعض المجموعات أو الشخصيات الدرزية لتمرير نفوذها. مثال: في لبنان، دعمت تل أبيب بعض القيادات الدرزية المناهضة لحزب الله في حقبة الثمانينات، كما أن داخل الجولان هناك توتر دائم بين الولاء للدولة السورية والولاء لإسرائيل، وقد استغلت إسرائيل هذه التوترات لصالحها.
4. تقويض أي تحرك دبلوماسي سوري بشأن الجولان: كلما استقرت سوريا وامتلكت موقفًا قويًا، تصبح قادرة على إعادة طرح ملف الجولان في المحافل الدولية. مثال: منذ اندلاع الثورة السورية، توقف طرح ملف الجولان بقوة، فالأزمة الداخلية أضعفت قدرة دمشق على التحرك دبلوماسيًا. إسرائيل حرصت على استمرار هذه الأزمة لمنع دمشق من استعادة شرعيتها القوية في الأمم المتحدة. وهذا يرتبط بشكل وثيق بفكرة عزل السويداء وقطع طريق دمشق إلى الجولان، وهو جزء من استراتيجية إسرائيل لمنع إعادة توحيد سوريا أو تعزيز موقفها السياسي في ملف الجولان.
5. فرض واقع "اللامركزية المنهارة": تجزئة سوريا إلى كانتونات ومناطق نفوذ طائفية وعرقية، مما يجعل من الصعب إقامة دولة مركزية قوية. مثال: في شمال سوريا، المناطق الكردية، مثال حي على تجزئة الواقع السوري التي تعمل تل أبيب على استغلالها في الجنوب، ومن بينها السويداء، لخلق واقع جديد يصعب تغييره.
إسرائيل لا تحمي الدروز... بل تستخدمهم
من المهم أن نقول بوضوح: إسرائيل لا تتحرك بدوافع إنسانية. التاريخ والميدان يثبتان ذلك. هي التي قصفت دروز لبنان في الثمانينات، واعتقلت شباب جبل العرب في الجولان، وضيّقت على كل صوت درزي رفض الخدمة العسكرية داخل حدودها. فكيف تصبح فجأة "الحامية"؟
إنها ببساطة تستخدم الخطاب الإنساني كسلاح إعلامي لإخفاء مشروع سياسي حقيقي: تحويل السويداء إلى خاصرة رخوة في الجسد السوري، وإدخالها في منظومة تحكمها المصالح الأمنية الإسرائيلية لا الوطنية السورية.
الحل: مركزية عادلة لا تُقصي ولا تُختطف
إذا كانت تل أبيب تراهن على الفراغ، فإن الحل يبدأ بملء هذا الفراغ الوطني من الداخل:
1. حوار مباشر بين السلطة المركزية والفصائل المحلية في السويداء، يعترف بخصوصية المنطقة ويحترم إرادة أهلها، دون تهديد ولا تهميش.
2. منح الدروز نظام إداري عادل في السويداء يتبع للحكومة المركزية، يتيح للمناطق إدارة شؤونها اليومية دون أن تتحول إلى كيانات مستقلة.
3. جيش وطني موحد، يعيد الانتشار في الجنوب ضمن تفاهم واضح مع القوى المحلية.
4. إغلاق الباب أمام أي دعم خارجي، خصوصًا العسكري، تحت مسمى الحماية.
5. إعادة فتح ملف الجولان دوليًا بعد تثبيت الاستقرار الداخلي، لأنه لا يمكن فصل حماية الأرض عن استعادة الأرض.
النهاية... من يحمي من؟
السويداء لا تحتاج إلى طائرات إسرائيلية، بل إلى عقد اجتماعي سوري جديد يحترمها ويشركها.
والدفاع الحقيقي عن الدروز لا يكون بالصواريخ، بل بضمان حقوقهم كمواطنين في دولة لا تتجزأ.
أما إسرائيل، فهي لا تحمي أحداً إلا أمنها. وكل ما تفعله اليوم، ليس أكثر من محاولة هندسة المستقبل السوري من السماء، قبل أن يكتبه السوريون بأنفسهم على الأرض.
انتهى
|