صنعاء نيوز/ إيهاب مقبل -
في عصر الخلافة العباسية (750–1258م)، ورغم اتساع الإمبراطورية الإسلامية وتنوع شعوبها، لم يكن هناك أي كيان سياسي موحد يُسمى "بلاد الأكراد" أو "كردستان". هذا المصطلح لم يظهر إلا كمفهوم جغرافي عام في كتابات الجغرافيين والمؤرخين، مثل المقدسي، وابن حوقل، والبلاذري، وياقوت الحموي، للدلالة على الجبال الواقعة شرق وشمال العراق وغرب إيران، وامتدادًا إلى جنوب شرق الأناضول. لم تكن "بلاد الأكراد" دولة، ولا إمارة، ولا حتى ولاية مستقلة عبر التاريخ.
حدود بلاد الأكراد في المصادر الإسلامية
وصف الجغرافيون المسلمون الأوائل "بلاد الأكراد" بأنها مناطق جبلية مأهولة بقبائل كردية، تمتد جغرافيًا وفقًا للتالي:
🔹شمالاً: حتى بحيرة وان وديار بكر (جنوب شرق الأناضول حاليًا – تركيا)
🔹جنوباً: إلى مناطق حلوان وخانقين وسهل ديالى (شمال شرقي العراق)
🔹شرقاً: نحو همذان وكرمنشاه ولورستان (غرب إيران)
🔹غرباً: إلى تخوم نصيبين وسنجار والعمادية (شمال العراق اليوم)
وكانت المناطق المذكورة مثل: أربيل، زوزان، هكاري، العمادية، حلوان، نصيبين، سنجار، ديار بكر تُدرج ضمن ما يُسمى "ديار الكرد"، وهي تسمية إثنو-جغرافية لا سياسية.
وهنا تبرز ملاحظة أساسية: سوريا التاريخية بمدنها مثل دمشق، حلب، الجزيرة الفراتية، وشمال وشرق سوريا لم تُذكر لدى الجغرافيين المسلمين كمواطن للكرد، لا في العصر العباسي ولا قبله. الوجود الكردي فيها، إن وجد، كان نادرًا ومتنقلًا، ولم يُصنف ضمن "بلاد الأكراد".
متى وصل الأكراد إلى شمال وشرق سوريا؟
الأكراد بدأوا بالانتقال بشكل أكثر وضوحًا إلى شمال وشرق سوريا بشكل تدريجي ابتداءً من القرن الـ12 وما بعده، مع توغل بعض القبائل الكردية في هذه المناطق لأسباب سياسية وعسكرية، خاصة في ظل ضعف الدولة الإسلامية المركزية في المنطقة. كما شهدت الفترة العثمانية توسعًا أكبر في استيطان الأكراد شمال وشرق سوريا، حيث جرى نقل بعض القبائل الكردية إلى هذه المناطق كجزء من سياسات الحكم العثماني الرامية إلى تأمين الحدود وموازنة القوى المحلية. لكن رغم ذلك، ظلت هذه المناطق خليطًا سكانيًا متعددًا من عرب، سريان، آشوريين، وغيرهم، مع وجود كردي محدود ولم يشكل أغلبية مطلقة حتى القرن العشرين.
صعوبة إقامة ولاية كردية مستقلة عبر التاريخ
رغم كثافة وجودهم السكاني في مناطق جبلية واسعة، فشل الكرد تاريخيًا في إقامة دولة أو ولاية مركزية موحدة. وتعود أسباب ذلك إلى عوامل متشابكة، منها:
1. الطبيعة الجغرافية الجبلية الصعبة، التي أدت إلى تفكك القبائل وعزلها عن بعضها.
2. النظام العشائري الصارم الذي عزز الولاءات الضيقة، ومنع ظهور قيادة كردية جامعة.
3. الصراعات الداخلية بين الزعامات الكردية ذات النزعة المحلية أو الإقطاعية.
4. غياب المراكز الحضرية الكبرى في قلب بلاد الكرد، مما أعاق تطور مؤسسات إدارية أو اقتصادية وطنية.
حتى الإمارات الكردية التي ظهرت في العصور الوسطى، مثل:
🔹الدولة الشدادية (في أرمينيا وأذربيجان، 951–1199م)
🔹الدولة الدوستكية (المرادسية) (في حكاري وديار بكر، 10م–12م)
🔹إمارة بهدينان، سوران، بوطان في العهد العثماني
كانت جميعها كيانات محلية محدودة جغرافيًا وضعيفة سياسيًا، غالبًا ما كانت تابعة شكليًا للقوى الكبرى مثل العباسيين، السلاجقة، العثمانيين أو الصفويين.
الأكراد لم يستقروا حضاريًا إلا في ظل الدولة الإسلامية
قبل الفتح الإسلامي، لم تُعرف للأكراد دولة، ولا حتى كيان قبلي كبير مسجل في المصادر الفارسية أو الرومانية أو السريانية. كانوا قبائل مشتتة في الجبال، يعيشون على الغارات أو الرعي، ويتأثرون بالحضارات المجاورة دون أن يشاركوا فيها فعليًا.
لكن مع مجيء الإسلام، بدأ الأكراد يندمجون في الحضارة الإسلامية تدريجيًا:
🔹دخلت قبائل كردية كثيرة في جيش الفتح، واندمجت في الحواضر الإسلامية.
🔹برز منهم علماء وفقهاء، مثل: ابن خلكان، وشرف خان البدليسي.
🔹بلغت مساهمتهم ذروتها في العهد الأيوبي، بقيادة صلاح الدين الأيوبي، الكردي الأصل، الذي أسس دولة قوية امتدت من مصر إلى الشام، لكنها لم تكن دولة كردية بالمعنى القومي، بل إسلامية الطابع والهوية.
وهكذا فإن الحضن الإسلامي هو الذي احتضن الأكراد فعليًا، وأتاح لهم الاستقرار والانخراط الحضاري. أما قبل الإسلام، فكانوا قبائل معزولة، بلا سجل واضح في بناء حضارة أو حكم.
لماذا لا يحق لـ"قسد" المطالبة بحكم ذاتي باسم التاريخ؟
في ضوء هذا السياق التاريخي، لا يمكن اعتبار مطالبة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد)، التي تهيمن عليها وحدات حماية الشعب الكردية (YPG)، بإقامة حكم ذاتي في شمال وشرق سوريا، امتدادًا لكيان تاريخي كردي سابق. لأن:
1. المنطقة تاريخيًا ليست جزءًا من "بلاد الأكراد" في المصادر الإسلامية أو حتى العثمانية؛ إنما كانت مناطق عربية وآرامية وسريانية، وبدأت هجرات كردية مكثفة إليها فقط منذ القرن العشرين.
2. الوجود الكردي في شمال شرق سوريا حديث نسبيًا، خصوصًا في الجزيرة السورية، حيث جاءت موجات اللاجئين بعد ثورات الأكراد في تركيا (1925، 1930، 1937) واستوطنوا هذه الأراضي بقبول مؤقت من السلطات الفرنسية.
3. قسد ليست ممثلاً جامعًا لسكان المنطقة، فالمناطق التي تديرها اليوم تضم العرب والآشوريين والتركمان إلى جانب الكرد، وفرض هوية أحادية بزعم التاريخ هو قفز على الوقائع.
صدى التاريخ في الحاضر: تجربة "قسد"
عند النظر إلى تجربة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) اليوم، نجد أن الكثير من علل الماضي الكردي تتكرر، وإن بلبوس معاصر:
🔹الانقسام المجتمعي: "قسد" تدّعي تمثيل شعوب المنطقة، لكنها واقعيًا تُقاد من حزب واحد ذو طابع أيديولوجي ضيق (PKK/YPG). هذه السيطرة الأحادية تعيد إنتاج عقلية الزعامة القبلية، ولكن في ثوب حزبي.
🔹رفض الاعتراف من الداخل: كما أن الإمارات الكردية قديمًا لم تكن معترفًا بها من المحيط، فإن مشروع "قسد" لا يحظى بشرعية وطنية سورية ولا بقبول عربي أو حتى كردي كامل (فالمجلس الوطني الكردي معارض لها).
🔹الاعتماد على الحماية الخارجية: كما لجأ أمراء الأكراد في السابق إلى العثمانيين أو الصفويين لحماية كياناتهم الصغيرة وفشلوا، فإن "قسد" اليوم تعتمد على الحماية الأميركية، وهي حماية غير مستقرة سياسيًا، بالغالب ستزيل واشنطن جميع قواعدها العسكرية في شمال وشرق سوريا في أواخر أكتوبر تشرين الأول 2025 مع الإبقاء فقط على قاعدة التنف على الحدود العراقية السورية الأردنية.
🔹الهوة بين القيادة والناس: لا تختلف تجربة "قسد" عن التجارب التاريخية التي فشلت في خلق هوية جامعة للكرد أنفسهم، ناهيك عن شعوب المنطقة الأخرى. وهذا يعكس تكرار فشل القيادة في تجاوز الانقسام العرقي والمناطقي.
حتى لو أقامت "قسد" حكمًا ذاتيًا… فالفشل حتمي
حتى في حال نجحت "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) أو مظلتها السياسية "الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا" في تثبيت أمر واقع بدعم خارجي، أو إعلان نوع من الكيان السياسي المنفصل، فإن التجارب السابقة والتوازنات الجيوسياسية والاجتماعية تشير بوضوح إلى أن مصير هذا المشروع هو الفشل أو الانكماش. والسبب لا يعود فقط إلى الرفض الإقليمي، بل إلى عوامل داخلية بنيوية، أبرزها:
1. العزلة الجغرافية والسياسية
🔹"قسد" محاطة ببيئة عدائية أو رافضة: تركيا من الشمال تعتبرها امتدادًا لحزب العمال الكردستاني (PKK)، العراق الرسمي لا يعترف بها، إيران تنظر إليها كخطر انفصالي، والحكومة السورية تعتبرها كيانًا غير شرعي.
🔹لا يوجد منفذ بحري، ولا عمق اقتصادي مستقل، ولا اعتراف دولي فعّال.
🔹هذا يعيدها إلى وضعية "الإمارات الكردية" القديمة التي كانت محاصرة ومنكفئة، ومعتمدة على الخارج للعيش، كما حصل مع إمارة سوران أو بادينان في القرنين 18–19.
2. الطابع الحزبي الإقصائي
🔹"قسد" ليست كيانًا سياسيًا جامعًا، بل مؤسسة تابعة لحزب PYD المرتبط أيديولوجيًا وتنظيميًا بـ PKK، ما يجعلها غير قادرة على كسب ثقة باقي مكونات المجتمع السوري، وخاصة العرب الذين يشكلون الأغلبية السكانية في مناطقها.
🔹هذا ينسف فكرة المواطنة والتعدد، ويكرّس الهيمنة، مما يولّد نزاعات داخلية دائمة.
3. الاقتصاد الريعي المعتمد على الدعم الخارجي
لا تملك "قسد" اقتصادًا منتجًا حقيقيًا، بل تعتمد على:
🔹النفط والغاز (غير كافٍ اقتصاديًا ولا مشروعًا سياسيًا)
🔹الدعم العسكري والمالي الأميركي
🔹فرض الضرائب والسيطرة الأمنية
🔹وهذا شبيه بتجارب الانفصال قصيرة الأمد (مثل دولة جنوب السودان)، التي تفككت سريعًا عند تراجع الدعم الخارجي أو اشتداد العوامل الداخلية.
4. عدم امتلاك عمق تاريخي محلي في سوريا
🔹لا يمكن إقامة كيان سياسي قابل للاستمرار في منطقة ليست جزءًا من العمق التاريخي الكردي، الجغرافيين المسلمين لم يذكروا سوريا كمواطن كردي تاريخي.
🔹التغيير السكاني الحديث في بعض مناطق الشمال الشرقي لا يُنتج شرعية راسخة، بل يخلق حالة توتر دائمة.
5. الخلافات الكردية – الكردية
🔹حتى داخل البيت الكردي، تعاني "قسد" من انقسامات حادة مع المجلس الوطني الكردي، والأحزاب الكردية السورية الأخرى، ورفض من كثير من اللاجئين الكورد الذين يرون فيها واجهة لقمع المعارضين وتصفية الخصوم.
🔹التجربة الكردية في العراق – رغم اعترافها – تعاني أيضًا من الانقسام العميق بين أربيل والسليمانية. فكيف سيكون الحال في كيان لا يحظى باعتراف أصلًا؟
خلاصة القول: حتى لو امتلكت "قسد" الموارد، والسلاح، والدعم الدولي المؤقت، فإن المعادلات الداخلية في سوريا، وبنية المجتمع، وغياب الشرعية التاريخية والسياسية تجعل مشروعها مشروعًا هشًّا، معرّضًا للانهيار أمام أي تغيّر في موازين القوى. إن إقامة حكم ذاتي لا يعني النجاح، وإن إعلان "دولة" لا يصنع وطناً. فكم من كيان سياسي وُلد في الفراغ الجغرافي والسياسي، ومات في صمت الخرائط.
التاريخ لا يمنح الشرعية وحده
الادعاء بامتلاك حق حكم ذاتي بناءً على "الحق التاريخي" يتطلب أن يكون هناك سياق تاريخي حقيقي واضح ومستمر. وهذا غير موجود في حالة شمال وشرق سوريا. لا في العهد العباسي، ولا في الأيوبي، ولا في العثماني. التاريخ لا يمنح شرعية تلقائية لأي مشروع سياسي معاصر، خاصة إن كان مبنيًا على قراءة انتقائية ومجزوءة له.
خاتمة
الهوية الكردية جزء من فسيفساء الشرق، وهذا أمر لا جدال فيه. لكن الخطر يكمن حين يُسقط البعض مفاهيم الدولة القومية الحديثة على سياقات تاريخية لم تعرفها، أو يختزلون الجغرافيا لصالح سرديات سياسية. في العصر العباسي وبعده وقبله، "بلاد الأكراد" لم تكن دولة بل كانت تسمية جغرافية فضفاضة. واليوم، لا ينبغي أن تُستخدم هذه التسمية كذريعة لفرض مشاريع سياسية أحادية في مناطق متعددة القوميات والتواريخ. فإذا كنا نُؤمن بعدالة التعدد، فلنبدأ أولاً بعدالة قراءة التاريخ.
انتهى
|