صنعاء نيوز/ إيهاب مقبل -
في كل مرحلة تاريخية حاول فيها الأكراد إنشاء كيان سياسي مستقل، كانت الانقسامات الداخلية هي السلاح الأخطر الذي أطاح بهذه المحاولات من الداخل قبل أن تُجهضها التدخلات الخارجية. وبينما تتكرر هذه الحلقة في بلدان متعددة، لا يبدو أن قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) قد استوعبت هذا الدرس حتى الآن. التجربة الكردية المعاصرة، في إيران وتركيا والعراق، حافلة بالأمثلة الدامية على كيف أن الاختلافات الأيديولوجية، والطموحات الشخصية، والولاءات المتباينة، شكّلت بيئة خصبة لحروب أهلية كردية كان يمكن تجنبها لو غلبت القيادة الكردية مصلحة الجماعة على وهم الانفصال أو التفرد بالسلطة.
جمهورية مهاباد: البداية المتعثرة
في عام 1946، أُعلنت جمهورية مهاباد في إيران بدعم سوفييتي، لكنها لم تصمد سوى 11 شهرًا. لم تكن نهايتها بسبب الاجتياح الإيراني وحده، بل بسبب التناحر بين القادة الكرد، خصوصًا بين النخبة السياسية بقيادة قاضي محمد، وزعماء القبائل الكوردية الذين لم يروا مصلحة مباشرة في دعم المشروع الوليد. وعندما انسحبت القوات السوفيتية، لم يدافع كثير من الأكراد عن جمهوريتهم، بل إن بعض العشائر سلمت قادة الجمهورية للسلطات الإيرانية.
حرب برزاني وطالباني: النزيف الذاتي في كردستان العراق
تُعد الحرب بين الحزب الديمقراطي الكردستاني (KDP) بقيادة مسعود بارزاني، وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني (PUK) بقيادة جلال طالباني (1994–1997)، المثال الأوضح على أن الصراع الكردي - الكردي قد يتحول إلى كارثة إنسانية وسياسية. الحرب التي نشبت للسيطرة على أربيل والسليمانية أسفرت عن ما بين 3,000 إلى 5,000 قتيل كردي، ونزوح ما يزيد عن 200,000 مدني، وفتحت الأبواب لتدخلات إقليمية: استعان بارزاني بنظام صدام حسين، بينما لجأ طالباني إلى إيران. انتهت الحرب بتقاسم إداري للمناطق، لكنها تركت شرخًا اجتماعيًا وجغرافيًا لا يزال واضحًا حتى اليوم.
في تركيا: PKK ومواجهة الداخل الكردي
الصورة النمطية عن الصراع الكردي في تركيا تصوره على أنه بين الدولة التركية وحزب العمال الكردستاني (PKK)، لكن الحقيقة أكثر تعقيدًا. فبين التسعينيات والعقد الأول من الألفية، خاض PKK صراعًا مسلحًا مع جماعات كردية أخرى مثل "حزب الله الكردي"، ذي التوجه الإسلامي، في جنوب شرق الأناضول، وراح ضحية هذه المواجهات المئات من القتلى والجرحى من الجانبين، بينما وقف المدنيون الكرد وسط العنف منقسمين بين أطراف الصراع. كما انخرط PKK في حملات تخوين وتشويه ضد أحزاب سياسية كردية أخرى، مثل "حزب الشعوب الديمقراطي" (HDP)، لرفضها تبني النهج المسلح، ومارس أيضًا عمليات اغتيال استهدفت سياسيين وناشطين كردًا داخل تركيا وخارجها، لا سيما الذين رفضوا التعاون معه أو انتقدوا أساليبه. فقد سُجلت عدة حالات اغتيال في أوروبا وأماكن أخرى، كان ضحاياها من قادة فصائل كردية أو ناشطين سياسيين، مما زاد من تعقيد الصراعات الداخلية بين الأكراد وأضعف التماسك المجتمعي في صفوفهم.
سوريا: خطر التكرار قائم
في سوريا، تبدو الظروف مهيأة لسيناريو مشابه. تسيطر "قسد"، التي يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، على معظم شمال شرق البلاد، لكنها ليست الكيان الكردي الوحيد. المجلس الوطني الكردي (ENKS)، المقرّب من أربيل والمدعوم تركيًا في مراحل سابقة، يرفض احتكار PYD للمشهد السياسي والعسكري، ويتهمه بالإقصاء والاعتقال والتهجير القسري. المجلس، رغم ضعف جناحه المسلح مقارنةً بقسد، ما زال يحتفظ بوجود شعبي ومكاتب سياسية في المنطقة.
وفق تقارير بحثية من مراكز مثل "مجموعة الأزمات الدولية" و"المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية"، فإن عوامل الصدام الكردي - الكردي في شمال سوريا موجودة: صراع الشرعية، عسكرة السلطة، وتهميش الأصوات المخالفة. وتشير تحليلات سياسية إلى أن احتمالية اندلاع صراع داخلي كردي تتراوح بين 40% و60% خلال السنوات الثلاث القادمة، إذا استمر تجاهل قسد لملف الحوار، واستمرت في فرض سيطرتها بالقوة المسلحة.
موقف بارزاني: العقلاء لا يكررون الأخطاء
مسعود بارزاني، الذي خاض تجربة الحرب الأهلية الكردية بنفسه، وجه نصيحة صريحة إلى قسد: ضرورة فتح حوار مع الحكومة السورية الجديدة برئاسة أحمد الشرع، والعمل على دمج قوات قسد ضمن مؤسسة الجيش السوري الوطني، ونزع السلاح من المناطق الكردية، وابعاد التأثير الخارجي لحزب العمال الكردستاني. والمسلمين الأكراد في سوريا ليسوا "أقلية فعلية"، فهم جزء من المجتمع الإسلامي السوري، ويشكلون مع المسلمين العرب نحو 77% إلى 85% من سكان البلاد، وهذا يؤكد أهمية دورهم في أي تسوية سياسية مستقبلية، ويدعم ضرورة اندماجهم الكامل في الحكومة السورية الجديدة. في وجهة نظر البرزاني، فإن الاندماج في الدولة لا يعني بالضرورة التخلي عن الحقوق، بل هو الطريق الوحيد لحمايتها من الانهيار الداخلي أو التقسيم المفرط.
بارزاني، من موقعه، يدرك أن الاستمرار في سياسة "التحالفات الخارجية" والمراهنة على الدعم الأمريكي دون تفاهم داخلي أو اعتراف مركزي، يعيد إنتاج سيناريوهات مهاباد وأربيل والسليمانية في شمال سوريا.
خلاصة
المشهد الكردي، عبر تاريخه، يزخر بدروس دامية عن أن الانقسام الداخلي هو الخطر الأكبر، وليس "العدو الخارجي". إذا أرادت قسد تجنّب مصير مهاباد أو كردستان التسعينيات، فعليها إعادة النظر في بنيتها، خطابها، وسياستها تجاه بقية المكونات الكردية والسورية. الحوار مع دمشق، بقيادة جديدة تحاول إعادة بناء الدولة، لا ينبغي أن يُفهم كتنازل، بل كضرورة وطنية.
لقد أثبتت التجربة أن السلاح لم يوحّد الأكراد، بل مزّقهم. واليوم، على قسد أن تقرأ هذا الدرس جيدًا. فالتاريخ لا يرحم من يكرره دون وعي.
انتهى
|