صنعاء نيوز/بقلم د. غسان شحرور -
في عام 1999، وخلال زيارتي إلى القاهرة، دعاني الشاعر والإعلامي والمسرحي الفلسطيني "هارون هاشم رشيد" إلى منزله، حاملاً له كتابًا من إهداء صديقه الراحل الشاعر "حسن البحيري". كانت جلسة عامرة بالأدب والتاريخ والثقافة، تؤكد بحق أن “خير النزهات ما كانت في عقول الرجال”. وبالفعل، غادرت منزله محمّلًا بإضاءات متنوعة لا تُنسى، وبهديّة ثمينة من دواوينه الشعرية، التي عكست نكهة الوطن، ومرارة النكبة، والاصرار على استرجاع الحقوق والعودة.
وُلد هارون هاشم رشيد في مدينة "غزة" عام 1927، وتخرّج من معهد المعلمين، وكان شاهدًا حيًا على مرارة النكبة عام 1948، بكل ما حملته من ألم وشتات وحرمان. بدأ كتابة الشعر مبكرًا، وأصدر ديوانه الأول “عائدون” عام 1954، ليجعل من القصيدة الفلسطينية منبرًا للنضال، ومرآة للذاكرة الجمعية، وصرخة في وجه اللجوء. لم يكن شاعرًا يُجيد الصياغة فحسب، بل كان ضميرًا ناطقًا باسم شعبه، حتى لُقّب بـ”شاعر النكبة” و”شاعر الثورة”.
لكني، من خلال قراءتي المتأنّية لدواوينه التي أهداني إياها، وجدته أيضًا “شاعر الشهداء”، إذ خصّ كثيرًا من الشهداء بقصائد تنبض بالعاطفة، وتوثّق الدم الفلسطيني المسفوح في سبيل الحرية والحقوق. لقد حمل في قصائده وجوه المقاومين، وأحلام المنفيين، ووصايا الراحلين، ونسج منها ملحمة شعب لا يتعب من الحلم والكفاح.
أصدر أكثر من 22 ديوانًا شعريًا، من أبرزها “غزة على خط النار”، كما كتب أربع مسرحيات شعرية، وعددًا من المسلسلات والسباعيات الإذاعية التي بثّتها “صوت العرب” المصرية وإذاعات عربية أخرى. عمل لسنوات رئيسًا لمكتب “صوت العرب” في فلسطين، ثم مندوبًا لفلسطين في جامعة الدول العربية. وتُرجم عدد كبير من قصائده إلى لغات عدة، واختير ما يقارب تسعين قصيدة منها لتُغنّى على ألسنة كبار الفنانين في العالم العربي.
في عام 2008، جمعتني به المصادفة مجددًا في دمشق، على هامش اليوم الختامي لمعرض دمشق الدولي للكتاب. كان يحيي أمسية شعرية إلى جانب الشاعر الكبير سليمان العيسى. وقد بدا المشهد مهيبًا ومؤثرًا: شاعران في عقديهما الثامن، يحملان أوطانًا كاملة على أكتاف القصيدة، ويبهران الحضور بما قدّماه من عطاء شعري خالد.
ومن أشهر قصائده التي تغنّت بها السيدة فيروز، قصيدة "جسر العودة" ، وكذلك “سنرجع يوماً”، تلك القصيدة التي تحوّلت إلى نشيد وجداني للأجيال الفلسطينية والعربية:
سنرجع يوماً إلى حينا
ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان
وتنأى المسافات ما بيننا
فيا قلبُ مهلاً ولا ترتمي
على درب عودتنا موهنا
ما زالت هذه الأبيات، بصوت فيروز، تطرق أبواب القلب العربي، وتُبقي العودة والحقوق حيّة في الوجدان، رغم كل ما تنأى به المسافات والزمن.
وقد حصد خلال مسيرته الأدبية العديد من الجوائز المرموقة منها الجائزة الأولى للمسرح الشعري من منظمة الألكسو عام 1977،
والجائزة الأولى للقصيدة العربية من إذاعة لندن عام 1988، ووسام القدس العام 1990, وغيرها.
في السابع والعشرين من تموز عام 2020، رحل شاعرنا الكبير عن عمر ناهز الثالثة والتسعين، تاركًا إرثًا شعريًا يفيض بالوطنية والصدق والشجن. ووقد عرفته عن قرب، فوجدته كما قصيدته: صادقًا، جميلاً، وأمينًا على وجع وطنه وأمل شعبه.
وربما كانت قصائده، بما تحمله من وجع وكرامة وإصرار، أصدق من كتب تاريخ النكبة والمقاومة، لأنها لم تكن تُكتب بالحبر فقط، بل بنبض القلب ودمع العين وحبر الدم.
"عرفتهم" زاوية ثقافية دورية يكتبها د غسان شحرور
|