صنعاء نيوز/إيهاب مقبل -
معبر رفح الحدودي بين قطاع غزة ومصر لم يعد مجرد نقطة عبور، بل أصبح رمزًا للألم الفلسطيني والانقسام العربي. من المفترض أن يشكّل هذا المعبر منفذًا إنسانيًا لشعب محاصر منذ أكثر من 17 عامًا، لكنه تحوّل، بمرور الوقت، ولاسيما خلال الحرب الصهيونية الأخيرة على القطاع، إلى أداة ضغط بيد اللاعبين السياسيين. السؤال الذي يطرحه كل من يراقب المشهد: من يُغلق رفح؟ ومن يملك مفاتيحه فعليًا؟
سيادة مصر أم شراكة في الحصار؟
مصر تدير الجانب الجنوبي من معبر رفح، وهي تصرّ رسميًا على أن تشغيله شأن سيادي. إلا أن الوقائع تُظهر أن قرار الفتح أو الإغلاق غالبًا ما يرتبط بحسابات سياسية وأمنية تتجاوز السيادة النظرية، لتصبح القاهرة فعليًا جزءًا من شبكة الحصار المفروض على غزة.
رغم أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي صرّح مؤخرًا أن بلاده لا تُشارك في حصار القطاع، فإن تصريحات "ممثل إسرائيل" في محكمة العدل الدولية نفت ذلك بوضوح، محمّلة القاهرة مسؤولية منع دخول المساعدات. وفي الوقت نفسه، تتحدث منظمات حقوقية عن ابتزاز مالي يتعرض له المرضى تحت مسمى "التنسيق" للعبور، ما يكشف عن واقع لا يمكن تبريره بالخطاب الرسمي.
السيسي والموقف الرسمي
السيسي قدّم موقفًا عامًا مؤيدًا للقضية الفلسطينية ومقاومة التهجير ومشاريع المساعدات، لكنه أفرط في تصريحاته الأخيرة في إبراز أن فتح المعبر "لا يتعلق بمصر فقط"، في محاولة لتخفيف الضغط على القاهرة وتحويل المسؤولية إلى أطراف كثيرة.
وفي المقابل، تشير شهادات دولية ومحلية إلى أن المعبر كان مغلقًا بشكل شبه تام من الجانب المصري، وأن ما يصرّح به النظام بعيد عن الواقع، بل هو "كذب سياسي" يهدف إلى تبرئة اليد الداخلية من تورّط مباشر في الحصار.
تل أبيب تضغط... والقاهرة تنفّذ
تل أبيب، رغم أنها لا تتحكم مباشرة في معبر رفح، إلا أنها تُمارس نفوذًا دبلوماسيًا وأمنيًا على القاهرة للحد من تدفق الأفراد والبضائع. مصر، من جانبها، تبدو وكأنها تحاول التوفيق بين إرضاء الشريك الإسرائيلي والحفاظ على صورتها العربية. لكنها بذلك تضع نفسها، عن وعي أو تجاهل، في موقع "الحارس الصامت" على بوابة حصار خانق.
هل يمكن لمصر أن ترفض؟
نعم، قانونيًا وسِياسيًا، تملك مصر كامل الحق في رفض الضغوط الإسرائيلية. المعبر يقع على أراضيها، والقرار بشأنه سيادي. إلا أن الواقع الجيوسياسي يجعل هذا الرفض مكلفًا: فهو قد يؤثر سلبًا على علاقتها مع تل أبيب، وقد يتسبب في توتر مع أمريكا الشمالية، الداعم العسكري والسياسي الأساسي للنظام المصري، لكنه في المقابل، قد يعزز من مكانتها العربية والإسلامية والشعبية ويمنحها مصداقية أكبر كوسيط في الملف الفلسطيني أو الملفات العربية الأخرى. إن الاختباء خلف شعار "السيادة" لا يكفي، فالسؤال الأهم هو: هل تستخدم مصر سيادتها للتمكين أم للتقييد؟
سوابق لفتح معبر رفح رغم رفض تل أبيب
لم يكن فتح معبر رفح مقيدًا دائمًا بالموافقات الإسرائيلية، فقد شهد التاريخ عدة مراحل فتحت فيها مصر المعبر رغم رفض تل أبيب، استجابةً لظروف إنسانية أو سياسية ملحة:
1. فتح المعبر بعد العدوان الإسرائيلي على غزة (2008–2009): بعد عملية "الرصاص المصبوب"، فتحت مصر معبر رفح جزئيًا للسماح بدخول الجرحى والمساعدات الإنسانية، بالرغم من اعتراض تل أبيب لعدم وجود إشراف فلسطيني أو أوروبي على المعبر في ذلك الوقت. أكد الجانب المصري حينها أن قرار الفتح "إنساني وسيادي".
2. فتح المعبر عقب الثورة المصرية (2011): مع سقوط نظام مبارك، أعلن المجلس العسكري فتح المعبر بشكل دائم أمام الفلسطينيين في مايو أيار 2011، على الرغم من استياء تل أبيب من فقدان سيطرتها على حركة المعبر. واستمر الفتح لأشهر، مما دل على تغير سياسي في موقف القاهرة.
3. فتح المعبر خلال حرب 2014 (عملية الجرف الصامد): خلال العدوان الإسرائيلي في صيف 2014، فتحت مصر المعبر بشكل محدود لنقل الجرحى والمصابين رغم اتهامات تل أبييب بتسهيل تهريب أسلحة. جاء هذا القرار تحت ضغوط شعبية وسياسية في ظل حكومة انتقالية.
4. فتح المعبر بعد المصالحة الفلسطينية (2017): عقب اتفاق المصالحة بين فتح وحماس برعاية مصرية، تم فتح معبر رفح لفترات أطول رغم تحفظات إسرائيلية، ما عزز من دور مصر كوسيط إقليمي.
5. فتح المعبر بعد كارثة تفجير مستشفى المعمداني (2023): بعد التفجير المأساوي لمستشفى المعمداني في غزة، سمحت مصر بمرور المصابين والمساعدات الإنسانية، رغم اعتراضات إسرائيلية أمنية، مع تدخل دولي لتسهيل حركة القوافل.
هذه الأمثلة تثبت أن قرار فتح معبر رفح ليس محصورًا دائمًا بالموافقة الإسرائيلية، بل مرتبط بإرادة مصرية واستجابة للظروف السياسية والإنسانية.
بين التصريحات والواقع
في يوليو تموز 2025، صرّح السيسي بأن "تشغيل المعبر لا يرتبط بالجانب المصري فقط"، وأن مصر لا تمنع الإمدادات. لكن هذه التصريحات تصطدم بوقائع تُوثق يوميًا: طوابير انتظار عند البوابة. مرضى يموتون قبل الحصول على تصريح. سكان يدفعون مئات الدولارات لـ"تنسيق أمني" مشبوه. إن التناقض بين الرواية الرسمية والمشهد الميداني يفرض علينا السؤال: هل حقًا رفح مغلق بقرار مصري؟ أم بصفقة إقليمية صامتة؟
عواقب استمرار إغلاق معبر رفح على مصر
إن استمرار إغلاق معبر رفح لا يؤثر فقط على سكان قطاع غزة، بل يحمل أيضًا تداعيات خطيرة على مصر نفسها. أولاً، يعزز هذا الإغلاق من صورة القاهرة كجزء من شبكة الحصار، مما يقلل من مصداقيتها ودورها كوسيط نزيه في الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ويضعف نفوذها السياسي على الساحة العربية والإقليمية. ثانياً، يؤدي الحصار المستمر إلى تفاقم الأزمة الإنسانية في غزة، ما يولد ضغطًا شعبيًا داخل مصر وخارجها، ويزيد من مخاطر احتجاجات أو تدهور العلاقات مع القوى السياسية والشعبية المؤيدة للفلسطينيين. ثالثاً، استمرار الإغلاق يفتح الباب أمام مزيد من التدخلات الدولية غير المرغوب فيها، التي قد تقوض السيادة المصرية وتفرض عليها ضغوطًا سياسية وأمنية جديدة. أخيرًا، من الناحية الأمنية، قد يؤدي تأزم الأوضاع في غزة إلى تصاعد التوترات الحدودية وزيادة حالات التهريب غير المنضبط، ما يعرض الأمن المصري للخطر.
عواقب استمرار إغلاق معبر رفح على مصر من الناحية القانونية الدولية
من الناحية القانونية الدولية، فإن استمرار إغلاق معبر رفح يحمل تبعات قانونية جدية على مصر. وفقًا للقانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان، تتحمل الدول التي تسيطر على معابر حدودية مسؤولية ضمان مرور المساعدات الإنسانية وحماية المدنيين من المعاناة والحرمان. إن إغلاق المعبر بشكل شبه تام، مع تقييد وصول الأدوية والمستلزمات الطبية والغذائية، قد يُعتبر مخالفة للالتزامات الدولية لمصر، ويعرضها لمساءلة قانونية أمام المؤسسات الدولية، بما في ذلك محكمة العدل الدولية والمحاكم الجنائية الدولية، خاصة إذا ما ثبت أن الإغلاق ساهم في تفاقم الأوضاع الإنسانية في غزة.
كما يُمكن أن يُعتبر هذا الإغلاق جزءًا من سياسة الحصار الجماعي التي تحرم المدنيين من حقوقهم الأساسية، مما قد يندرج تحت بند "العقوبات الجماعية" المحظورة وفقًا لاتفاقيات جنيف. لذلك، لا تقتصر مسؤولية مصر على الجانب السياسي فقط، بل تمتد إلى أطر قانونية دولية تلزمها بعدم الانخراط في إجراءات تؤدي إلى تدهور الوضع الإنساني أو تكثيف الحصار.
دور العراق وباكستان في كسر الحصار
لا يمكن تجاهل أهمية دور العراق وباكستان في دعم الفلسطينيين وكسر الحصار عن غزة. فكلا البلدين يمثلان صوتًا قويًا في الساحة الإسلامية والعربية، ويشكلان ضغطًا دبلوماسيًا مهمًا على القاهرة وحلفائها لفتح المعبر بشكل دائم. العراق، بدوره، أبدى مواقف مؤيدة للمقاومة الفلسطينية وناقدة للحصار، مطالبًا بضرورة التضامن العربي. وباكستان، من خلال علاقاتها الدولية ومواقفها الثابتة ضد التهجير والتطهير في فلسطين، تلعب دورًا محوريًا في دعم الحقوق الفلسطينية عبر المنظمات الدولية، ما يضيف بُعدًا جديدًا للتأثير على المسار السياسي حول معبر رفح. إن تحرك هذين البلدين يمكن أن يساعد في كسر الجمود السياسي ويضغط باتجاه رفع الحصار، مما يعزز فرص تحقيق انفراج إنساني وسياسي في غزة.
التهويد في ظل الحصار: واقع مأساوي
التهويد هو عملية ممنهجة لتغيير الهوية الديمغرافية والثقافية للفلسطينيين، من خلال التهجير القسري، تدمير المنازل، والتضييق على حياة السكان. مع استمرار حصار غزة وإغلاق معبر رفح، تتعزز عمليات التهويد بشكل غير مباشر. إذ إن الحصار الاقتصادي والاجتماعي يعمّق معاناة السكان ويدفع نحو تفريغ القطاع من سكانه، تحت ظروف قاسية تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة.
إغلاق معبر رفح لا يعني فقط تقييد حركة الأفراد والبضائع، بل هو أداة لإضعاف صمود الفلسطينيين، مما يسهّل مخططات التهويد الإسرائيلي التي تستهدف تغيير طبيعة السكان والوجود الفلسطيني في القطاع. هذه السياسة تكتسب تعقيدًا حين تتحول دول مثل مصر، بتعاونها أو صمتها، إلى حراس "صامتين" لهذه الاستراتيجية، عبر فرض حصار خانق يُقوّض الحياة ويزيد من حدة التهجير الداخلي والضغوط النفسية والاجتماعية على الفلسطينيين.
بهذا المعنى، لا يمكن فصل دور إغلاق المعبر عن عمليات التهويد التي تُمارس على الأرض، إذ يشكل الحصار من خلال المعابر جزءًا من منظومة التهويد الشاملة، التي تسعى لتغيير المعادلة الديمغرافية في فلسطين.
الخاتمة: مفتاح المعبر ليس أمنيًا فقط
معبر رفح ليس قضية حدودية، بل عنوان لأزمة سياسية وأخلاقية. مصر لا تتحمل المسؤولية وحدها، لكن دورها محوري، وصمتها لا يُعفيها من التبِعة. لا يكفي أن تقدم القاهرة مساعدات إنسانية محدودة، بينما تغلق بوابة الخلاص أمام شعب بأكمله.
إذا أرادت مصر أن يكون لها نفوذ بين الشعوب العربية أو نقدم لها الاحترام كما كان في السابق، فعليها أن تكسر صمتها، وتتحوّل من حارس للحصار إلى شريك في كسره. فالمعبر لا يُقاس بعدد أيام فتحه، بل بعدد الأرواح التي نُقذت أو تُركت تموت ببطء على عتبة بوابة مغلقة.
انتهى
|