صنعاء نيوز/محمد النصراوي -
ليست الوظيفة الحكومية في العراق مجرد فرصة عمل، بل هي وعلى مدى عقود تمثل ذروة الطموح الاجتماعي، وممراً آمناً إلى الاستقرار الشخصي والاحترام المجتمعي، ولأن الدولة هي التي تدفع وهي التي تسيطر على السوق وهي التي ترعى، صار الاقتراب منها - عبر التوظيف - كأنه نجاةٌ فردية من مستقبلٍ غامض لا يملك فيه الفرد حيلةً ولا بديل.
لكن وبمرور الوقت تغيرت ملامح الحلم، وباتت الوظيفة لا تضمن الرخاء ولا توفر الطموح، ولا تحقق حتى الأمان الذي طالما تغنى به الناس، فالعراقي اليوم، رغم نيله الوظيفة، قد يبقى لسنواتٍ بلا ترقية، بلا إنتاجٍ فعلي، وربما بلا معنى واضحٍ لوجوده في مؤسسته، أما الدولة، فتبدو كأنها تُطعم موظفيها من جسدها وتُراكم عليهم الديون، لتُسكتهم لا لتبني معهم.
جوهر الأزمة، أن الوظيفة لم تعد مرتبطةً بحاجة مؤسسات الدولة بل أصبحت وسيلةً لتفريغ الاحتقان، أو لتمرير رسائل سياسية أو لكسب جمهورٍ انتخابي على حساب الكفاءة والاستدامة، هذا ما حول الجهاز الإداري إلى كيانٍ مترهل، لا ينتج بقدر ما يستهلك ولا يتحرك إلا ببطء، لأن حركته ليست نابعةً من الحاجة بل من العادة.
ولأن الجميع يتجه إلى الدولة، قل الإقبال على السوق، وتضاءل الإيمان بالمشاريع الصغيرة وأُصيبت ثقافة المبادرة بشللٍ تدريجي، فكيف لشاب أن يؤمن بريادة الأعمال في ظل بيئةٍ تضع الراتب الحكومي فوق كل فكرة، وتحبط كل محاولةٍ للنجاة خارج حدود التعيين الرسمي؟ هكذا، نشأ جيل يرى في الانتظار فضيلة وفي الراتب ضماناً، وفي غياب المبادرة واقعاً مفروضاً لا فكاك منه.
الأخطر من كل ذلك، أن الدولة نفسها لم تعد قادرة على الإيفاء بوعد الوظيفة، ولا على فتح أبواب التعيين بلا حساب، لكنها في الوقت نفسه لا تجرؤ على قول الحقيقة، فتكتفي بتأجيل المواجهة، أو بإطلاق دفعات وهمية، أو بتثبيت العقود القديمة لإسكات شارعٍ يزداد غضباً، ويزداد اعتماداً على ما لم يعد موجوداً أصلاً.
في العالم من حولنا، تتحول الوظائف تدريجياً إلى كيانات مرنة، رقمية، تواكب الذكاء الاصطناعي وتدخل عصر ما بعد المكتب، أما في العراق، فنحن نُعالج مشكلات الأمس بمنطق ما قبل الأمس، وننفق مواردنا في إرضاء نظامٍ وظيفي ميتٍ سريرياً، بينما يركض الآخرون خلف المستقبل.
لقد آن الأوان لإعادة النظر في كل المنظومة، لا من باب الصدمة بل من باب الإنقاذ، فالوظيفة ليست عدواً لكنها لم تعد الحل الوحيد ولا يجب أن تبقى الحلم الأكبر، الدولة التي تُصر على إنقاذ نفسها عبر مزيد من التوظيف، إنما تدفع ثمن بقائها من مستقبل أبنائها.
والمواطن الذي لا يرى من الدولة سوى "درجةٍ وظيفية"، سيبقى مرهوناً بسقف منخفض، لا يملك فيه القدرة على الحلم خارج الورقة الرسمية.
|