صنعاء نيوز/ -
في هذه المجموعة من الصور، يبدو التاريخ وكأنه يطل برأسه علينا من نافذة الحنين. وجوه بسيطة، ملابس ريفية، ضحكات أطفال، وأجواء عائلية تغلّفها دفء الأرض العراقية. وفي قلب كل تلك المشاهد، يبرز رجل يرتدي الزي العربي التقليدي، بابتسامة ثابتة ونظرة حازمة... إنه عزة إبراهيم الدوري، أحد أبرز رجال الدولة العراقية في النصف الثاني من القرن العشرين.
الصور التي تنطق...
الصور تُظهر جانبًا نادرًا وغير مألوف من شخصية الدوري، الجانب الإنساني، العائلي، البسيط. بعيدًا عن الزي العسكري، وعن صرامة المؤتمرات السياسية، نجده محاطًا بأطفاله، بأسرته، يشاركهم لحظات يومية من حياة ريفية خالصة. بينما في إحدى الصور الرسمية، يقف بجانب الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، مرتديًا بزته العسكرية الخضراء، ينظران إلى شعار يحمل صورة قبة الصخرة في القدس الشريف، كأنهما يحدقان في المستقبل الغامض.
واقعة مفصلية: حارق أسرار البعث
من بين المواقف التاريخية الحاسمة في مسيرة عزة الدوري، تبرز واقعة وقعت في نوفمبر تشرين الثاني من عام 1963، إبان انقلاب الرئيس عبد السلام عارف على الحرس القومي التابع لحزب البعث. كانت تلك الأيام مشحونة بالخطر، حيث طالت الاعتقالات والتصفيات رموز الحزب، وأصبح سقوط وثائق البعث بيد السلطة الجديدة يعني انهيارًا كاملًا للتنظيم وشبكاته في عموم العراق.
في تلك اللحظة المصيرية، كان عزة الدوري من بين القلائل الذين تحركوا لحماية أسرار الحزب. فقد وثّقت مصادر بعثية واقعة إحراقه شخصيًا ملفات تنظيمات حزب البعث على سطح أحد المنازل في منطقة الفضل وسط بغداد. وبينما كانت مروحية عسكرية تحوم فوق المنزل، لم يتردد الدوري في إشعال النار في الوثائق، مرددًا عبارته الشهيرة: "يحيا البعث... يحيا البعث!"
لم يكن هذا الفعل مجرد موقف رمزي من شاب عشريني، بل خطوة بطولية حالت دون وقوع المئات من رفاقه في قبضة أجهزة الأمن، وساهمت في استمرار البعث كتنظيم سري خلال تلك المرحلة القمعية. لقد رسّخت هذه الحادثة مكانته داخل الحزب كـرجل انضباط، وعقيدة، وشجاعة لا تتزعزع أمام الخطر، سواء أتفقنا مع أفكار وسرديات حزب البعث أم لا.
نبذة عن حياته ومسيرته
ولد عزة إبراهيم الدوري عام 1942 في مدينة الدور بمحافظة صلاح الدين، وانضم مبكرًا إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، حيث بدأ مناضلًا في العمل السري، وصعد سريعًا في صفوف الحزب، خصوصًا بعد تلك المواقف المخلصة. تدرّج في المناصب حتى أصبح نائبًا للرئيس صدام حسين، وواحدًا من أكثر رجاله قربًا وولاءً.
شغل مناصب رفيعة من أبرزها: "نائب رئيس مجلس قيادة الثورة، نائب رئيس الجمهورية، القائد الأعلى للجيش الشعبي، ورئيس المجلس الأعلى للزراعة". وكان يُعتبر الذراع اليمنى للرئيس العراقي الراحل صدام حسين، وأكثر المقربين إليه، إلى أن أصبح الرجل الثاني في الدولة.
حياته الشخصية
بعيدًا عن السياسة، عاش الدوري حياة عائلية كبيرة، حيث تزوج من خمس نساء، يقال إن آخرهن مسلمة كردية، وكان أبًا لـ24 ولدًا وبنتًا. وكان يُعرف داخل عائلته بشخصيته المتوازنة بين الحزم والرحمة، متمسكًا بالتقاليد الصوفية والعشائرية والروابط العائلية.
أبرز محطاته بعد 2003
بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003، أصبح الدوري ثاني المطلوبين بعد صدام حسين، ورُصدت مكافأة أمريكية قدرها 10 ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليه. وُضع على ورقة اللعب الشهيرة بلقب "الملك الأحمر"، لكنه أفلت من جميع المحاولات للعثور عليه، وظل مجهول المكان طوال أكثر من 17 عامًا.
وخلال فترة اختفائه، تولى قيادة أحد أبرز فصائل المقاومة المسلحة، وهو "جيش رجال الطريقة النقشبندية"، والذي ضم مقاتلين من العرب والكورد والتركمان، غالبيتهم من المسلمين، وقاد عمليات مقاومة ضد القوات الأميركية من مناطق مختلفة في شمال العراق وشرقه، بخطاب عقائدي جمع بين الروح القومية والنزعة الصوفية.
لم يكن هذا التوجه الروحي غريبًا على الدوري، فقد عُرف عنه التزامه بالنهج الصوفي في الجانب الديني من حياته، وكان راعيًا وداعمًا للطريقة النقشبندية حتى قبل الغزو، مما جعله شخصية مقبولة لدى أوساط دينية متعددة داخل العراق، خصوصًا في المناطق الريفية والطرق الصوفية العريقة.
ورغم المطاردة، كان يصدر بيانات صوتية ومرئية بشكل متقطع، تبنّى فيها مواقف سياسية وعسكرية، وشكّل ما يشبه القيادة البعثية البديلة في المنفى أو العمل السري.
وقد رُجّح أنه توفي في مدينة أربيل شمال العراق في 26 أكتوبر تشرين الأول 2020 ، وسط تكهنات بأن زعيم إقليم كردستان مسعود بارزاني، الذي ينتمي إلى عشيرة صوفية عريقة، ربما وفر له ملاذًا آمنًا خلال سنوات مطاردته. ومع ذلك، لم يتم تأكيد هذه الرواية بشكل رسمي، لتبقى محاطة بالغموض والتكتم، كجزء من اللغز الذي رافق الرجل في حياته ووفاته.
خاتمة
بين الضحكة في الصور العائلية، والنار التي التهمت وثائق الحزب على سطح منزل في الفضل، ومطاردات الهليكوبتر الأمريكية التي لم تنل منه، يقف عزة الدوري كشخصية جدلية في تاريخ العراق المعاصر. رجل عاش في الظل، لكنه أثّر في الضوء. سواء اعتُبر بطلًا أو خصمًا، مخلصًا أو متشدّدًا، فإن سيرته باقية كمرآة لمرحلة كاملة من صعود البعث، وسقوط الدولة، والمقاومة، والاختفاء.
انتهى
|