صنعاء نيوز/بقلم: طلعت الخطيب -
منذ بداية الحرب على قطاع غزة، كانت المفاوضات غير المباشرة بين الأطراف المعنية تراوح مكانها، وتتعثر عند النقاط الجوهرية المرتبطة بمستقبل القطاع، وملف الأسرى، وترتيبات ما بعد الحرب. ومع تصاعد الضغوط الإنسانية، والانهيار شبه الكامل للبنية التحتية في غزة، تحوّل ملف المساعدات الإنسانية إلى أداة ضغط سياسية بامتياز.
طبعا في الأيام الأخيرة، لوحظ نوع من المرونة الجزئية في إدخال المساعدات والبضائع إلى قطاع غزة، وهو ما يُقرأ - في سياق التحركات الإقليمية والدولية - كمقدمة لمحاولة "تليين" موقف حركة حماس، ودفعها للعودة إلى طاولة المفاوضات، خصوصًا بعد إعلانها الأخير بأنها لن تعود إلى المفاوضات إلا بعد كسر المجاعة ورفع الحصار.
لكن هذا "التحسين الإنساني" لا يأتي بمعزل عن أداة ترهيب موازية، ألا وهي التهديد المتكرر بخيار احتلال قطاع غزة عسكريًا. وبين الجزرة الإنسانية والعصا العسكرية، تتبلور معادلة ضغط مركبة تهدف إلى إعادة تشكيل شروط التفاوض.
*أولًا: المساعدات كسلاح ناعم*
في النزاعات المعاصرة، لم تعد المساعدات الإنسانية مجرد فعل إغاثي بحت، بل أصبحت - شاء الفاعلون أم أبوا - أداة سياسية ناعمة. إدخال البضائع، فتح المعابر بشكل جزئي، السماح بدخول الوقود أو الخيام، كلها أدوات يمكن توظيفها لتشكيل بيئة تفاوضية معينة.
في الحالة الغزّية، فإن تخفيف حدة الجوع والضغط الإنساني هو أحد المطالب الجوهرية لحماس، التي تعتبر أن استمرار الحصار والمجاعة يتناقض مع أي حديث عن مفاوضات. ومن هنا، فإن تقديم تسهيلات إنسانية محدودة يمكن أن يُستخدم لتقديم حافز لحماس للتراجع عن شروطها المسبقة، أو على الأقل، الدخول في مفاوضات جديدة بموقف أقل تصلبًا.
*ثانيًا: التهديد بخيار الاحتلال*
بالتوازي مع هذا، يبرز خيار احتلال القطاع عسكريًا كعنصر ترهيب موازن. التصريحات الإسرائيلية المتكررة والحديث عن "توسيع العملية العسكرية مجددًا"، كلها إشارات إلى أن البديل لعدم الدخول في صفقة قد يكون تحركًا عسكريًا واسعًا يعيد السيطرة على القطاع جزئيًا أو كليًا.
هذا التهديد لا يقتصر على الجانب العسكري فقط، بل يمتد ليشكل ضغطًا على السكان المدنيين، الذين يجدون أنفسهم بين كماشة الجوع من جهة، واحتمال التهجير أو التعرض للعمليات العسكرية من جهة أخرى. *وبالتالي، فإن الضغط الشعبي الداخلي على حماس قد يتصاعد إذا ما فُسّر تعنّت الحركة بأنه السبب في استمرار المعاناة أو الدخول في مواجهة جديدة.*
*ثالثًا: حماس في الزاوية*
حماس، التي بنت جزءًا كبيرًا من خطابها السياسي والميداني على قاعدة "الصمود والمقاومة"، تجد نفسها اليوم أمام معادلة صعبة:
التنازل أو العودة إلى المفاوضات دون "كسر المجاعة" قد يُفهم كإخفاق سياسي وتراجع عن الثوابت.
الرفض الكامل قد يفتح الباب أمام تصعيد عسكري أكبر يهدد الوجود التنظيمي والإداري للحركة في القطاع.
وعليه، فإن التحرك الحالي يهدف - فيما يبدو - إلى توريط حماس في خيار تفاوضي تحت ضغط الشعب، والميدان، والظرف الإنساني القاهر.
*رابعًا: الأطراف الدولية والإقليمية.. شركاء في الضغط*
من المهم أيضًا الإشارة إلى أن هذه المعادلة لا تُصاغ فقط من الجانب الصهيوني، بل هناك دور فاعل للأطراف الدولية (كالولايات المتحدة، والأمم المتحدة)، والإقليمية (كمصر وقطر)، التي تسعى إلى إنتاج حل "توافقي"، لا يؤدي إلى انهيار غزة بالكامل، لكنه أيضًا لا يسمح لحماس بالظهور كمنتصر سياسي أو ميداني.
ومن هنا، تأتي المساعدات الإنسانية ضمن إطار "الممكن التفاوضي": تقديم القليل من الغذاء والدواء مقابل تنازل مرحلي سياسي. كذلك، يتم استخدام الفيتو على وقف شامل لإطلاق النار كأداة بيد هذه الأطراف، لإبقاء الضغوط على حماس قائمة إلى حين قبولها بالحلول المطروحة.
*مرحلة عضّ الأصابع*
نحن اليوم أمام ما يمكن تسميته بـ"مرحلة عضّ الأصابع"، حيث يحاول كل طرف أن يصمد أكثر قليلًا من الآخر، وأن يفرض شروطه ولو بشكل جزئي.
في هذه المعركة، تستخدم إسرائيل ومن خلفها بعض القوى الدولية أدوات ناعمة (مساعدات)، وأخرى خشنة (التهديد بالاحتلال) لدفع حماس إلى القبول بتسوية لا تُعتبر انتصارًا لها، ولا تؤسس لشرعنتها مستقبليًا.
*أما حماس، فهي تراهن على قدرتها على الصمود الشعبي، وعلى بقاء الضغط الدولي كعامل مُحبط لأي تحرك عسكري كبير. لكن بين رهان الصمود، ومعادلة الجوع والدمار، قد تكون خيارات الحركة تضيق تدريجيًا، وتدفعها إلى الدخول في تفاوضٍ ليس من موقع قوة، بل من موقع الضرورة.* |