صنعاء نيوز/بقلم: د. غسان شحرور -
حين تصبح المعرفة حقًا إنسانيًا بلا حواجز
نعم،
حين تصبح المعرفة حقًا إنسانيًا بلا حواجز، تتحوّل من مجرد معلومات إلى قوة تدفع المجتمع نحو وعي أكبر وعدالة أوسع. في زمن تتسارع فيه المعلومات وتتعاظم فيه التحديات، لم يعد العلم ترفًا للنخبة، بل ضرورة إنسانية تمس حياة كل فرد. حين تُكسر الحواجز اللغوية والمعرفية، وتُروى الحقائق بلغة بسيطة وعميقة، تصبح المعرفة فعل تضامن ومسارًا نحو مجتمع أكثر وعيًا وإنصافًا.
نعم، هذه دعوة للانتقال من الأمس إلى اليوم لتبسيط العلوم، لا لتقليل شأنها، بل لتوسيع أثرها، وتمكين الإنسان من فهم ذاته ومحيطه، بعيدًا عن التعقيد، قريبًا من الحياة.
خلال جولتي في إحدى المكتبات مؤخراً ، استوقفتني مجموعة من الإصدارات الأنيقة التي تهتم بالعلوم والمعرفة، وباللغة الإنجليزية، حيث يختص كل عدد بموضوع علمي أو اجتماعي محدّد، مثل التوحّد، واضطراب فرط الحركة وتشتت الانتباه، وغيرها من القضايا ذات الأثر المباشر على حياة الإنسان والمجتمع. ما يميز هذه الإصدارات أنها لا تكتفي بعرض المعلومات الطبية أو العلمية فحسب، بل تجمع بين المعرفة الدقيقة والرؤية الثقافية والإنسانية العميقة، بأسلوب مبسط جمعي وشامل، من إعداد نخبة متخصصة ومتكاملة.
فعلى سبيل المثال، يقدم أحد الأعداد المميزة رؤية شاملة حول الإدمان، مستعرضًا أحدث ما توصلت إليه أبحاث علوم الأعصاب المرتبطة بالمتعة، وكيف يؤدي الإدمان إلى تعطّل المسارات الدماغية. كما يناقش تأثير العوامل الوراثية، والصدمات، والضغوط النفسية في زيادة القابلية للإصابة، ويعرض علاجات مبتكرة لمختلف أنواع الإدمان. وقد شارك في إعداد هذا العدد خبراء في الطب، والصحة النفسية، والاجتماع، والتربية، إلى جانب أصوات وتجارب لأشخاص خاضوا تجربة الإدمان بأنفسهم، مما أضفى على الموضوع بعدًا إنسانيًا صادقًا.
ومن جهة أخرى، توجد تجارب عربية مميزة في هذا المجال نعتز بها، سواء في مبادرات تبسيط العلوم للأطفال والشباب والأشخاص المعاقين، أو في نشر المعرفة الصحية والاجتماعية عبر الإعلام والمجتمعات المحلية والإقليمية. هذه المبادرات تثبت أن الثقافة العلمية ليست مجرد نموذج غربي، بل يمكن أن تكون عربية راسخة وملهمة، ترتقي بالوعي المجتمعي وتفتح آفاقًا للتغيير الإيجابي.
إن العلم اليوم لم يعد مجرد معرفة نظرية، بل أصبح أداة ثقافية واجتماعية تساعد في فهم النفس الإنسانية، وتوجيه المجتمعات والأفراد نحو اتخاذ قرارات صحية وواعية. وما تقدمه هذه الإصدارات يبرز أهمية تبسيط العلوم وربطها بالحياة اليومية، لتعزيز الوعي العام، وفتح نقاشات أوسع حول قضايا تمس المجتمع بأسره.
ومن هنا، تبرز الحاجة الملحّة إلى مبادرات مماثلة في العالم العربي، تتبناها دور النشر، والمؤسسات الصحية، والجهات الإعلامية – ولا سيما الإعلام الخاص – لتقديم محتوى علمي مبسط وموثوق، يمكّن القارئ العربي من امتلاك أدوات المعرفة والثقافة، ويتيح له فرصة المساهمة في بناء مجتمعات أكثر وعيًا واستعدادًا لمواجهة التحديات المتعددة.
إن الهدف المنشود هو الوصول إلى مرحلة يصبح فيها العلم والثقافة في متناول الجميع، ليشكّلا رافعة حقيقية للوعي المجتمعي والتنمية الفكرية، بعيدًا عن الحواجز اللغوية أو التعقيدات العلمية، ولكي تصبح المعرفة أداة حياتية متاحة لكل فرد في المجتمع.
فهل نحن مستعدون اليوم لإتاحة العلم والثقافة لكل فرد في مجتمعنا العربي؟ وهل يمكن أن نصنع معًا مساحة عربية يلتقي فيها العلم بالوعي، والثقافة بالمسؤولية، لتصبح المعرفة حقًا حقيقيًا بلا حواجز؟
"الأمس بعين اليوم"، زاوية ثقافيةً دوريةً يكتبها د غسان شحرور
Sent from my iPhone
|