صنعاء نيوز/رامي الشمري -
رامي الشمري.
image0.jpeg
في تطور غير اعتيادي يحمل إشارات استراتيجية عميقة، صوّت البرلمان الفنزويلي بالإجماع لصالح المصادقة على اتفاقية “الشراكة الاستراتيجية” مع روسيا، وهي خطوة تُعدّ بمثابة إقرار علني بانضمام كاراكاس إلى محور سياسي واقتصادي وأمني مناهض للهيمنة الغربية. الاتفاق الذي وُقّع سابقًا بين الرئيس نيكولاس مادورو ونظيره الروسي فلاديمير بوتين، لم يأتِ بصفة رمزية، بل يحمل في طيّاته أبعادًا اقتصادية وعسكرية قد تعيد رسم خرائط التحالفات في نصف الكرة الغربي.
ما يُضاعف من أهمية الحدث، أنه يأتي في لحظة دولية شديدة التوتر، وفي منطقة تعتبرها الولايات المتحدة “محمية استراتيجية” لها. ومع دخول الاتفاق حيّز التنفيذ، تفتح فنزويلا بابًا قد لا يُغلق بسهولة، حيث تطرح هذه الخطوة أسئلة صادمة بشأن مدى استعداد واشنطن لمواجهة نفوذ روسي مباشر في جوارها الجغرافي القريب.
تحوّل استراتيجي أم مقامرة سياسية؟
الاتفاق لا يقتصر على التعاون الاقتصادي، بل يشمل صراحة قطاعات الدفاع، الطاقة، اللوجستيات، الأنظمة البنكية، والبنى التحتية، إضافة إلى دعم متبادل لـ”عالم متعدد الأقطاب”، وهو التعبير السياسي المكافئ لفكّ التبعية عن الغرب. من منظور روسي، فإن فنزويلا قد تتحوّل إلى نقطة ارتكاز استراتيجية في نصف الكرة الغربي، تمامًا كما تمثل سوريا أو بيلاروسيا نقاط تماس في الجغرافيا الأوروبية.
أمّا من منظور فنزويلي، فالاتفاق يُعدّ بمنزلة إعلان فك الارتباط عن أي احتمال للتقارب مع الولايات المتحدة أو مؤسسات التمويل الغربية، والرهان الكامل على موسكو كشريك سياسي واقتصادي وحتى أمني.
حسابات الولايات المتحدة: الخط الأحمر يقترب
من المرجّح أن تنظر واشنطن إلى هذه الشراكة على أنها تجاوز صريح للخطوط الحمراء في محيطها الحيوي. ومن غير المستبعد أن تكون الردود على مستويين:
أولًا، عبر تشديد العقوبات على أي مؤسسات فنزويلية أو روسية تُشارك في تنفيذ الاتفاق، وخصوصًا في قطاعات النفط والمال والدفاع.
ثانيًا، إطلاق تحركات سياسية ودبلوماسية إقليمية عبر حلفائها في منظمة الدول الأمريكية (OAS) ومنظومات الأمن الإقليمي، للضغط على فنزويلا والحد من تنفيذ بنود الاتفاق، خاصة تلك ذات الطابع الأمني أو العسكري.
ويزداد التهديد جدية إذا تم رصد نشاط بحري أو عسكري روسي قرب السواحل الفنزويلية، أو إذا تم الكشف عن وجود بنى تحتية مزدوجة الاستخدام (مدنية وعسكرية) يتم تمويلها أو إدارتها روسيًا.
انعكاسات إقليمية: العزلة أو المحور الموازي
التحالف مع روسيا لن يمر مرور الكرام في أمريكا اللاتينية، بل سيعيد تصنيف فنزويلا ضمن خانة “الدول غير القابلة للاحتواء”. الدول المجاورة ككولومبيا والبرازيل قد ترى فيه تهديدًا للاستقرار الإقليمي، ما يدفعها لإعادة تقييم مواقفها من فنزويلا، خاصة إذا تحوّل الاتفاق إلى أداة تمكين عسكري أو نفوذ استخباراتي روسي في المنطقة.
في المقابل، قد تستغل بعض الدول اليسارية كنيكاراغوا وكوبا وبوليفيا اللحظة لتقوية محور “الممانعة الجنوبية”، ما يضع الإقليم بأكمله على مسار استقطاب متسارع.
التأثير على أسواق الطاقة والاقتصاد العالمي
اقتصاديًا، لا يُمكن فصل الاتفاق عن سياق معركة الموارد العالمية. فنزويلا، صاحبة أكبر احتياطي نفطي في العالم، تفتح الأبواب أمام شركات روسية للدخول مجددًا إلى قطاع الطاقة، ما قد يعيد تنشيط الإنتاج الخام الفنزويلي ويمنحه طرق تصدير بديلة.
هذا السيناريو سيؤثر حتمًا على أسعار النفط عالميًا، سواء من ناحية ارتفاعها بسبب التوترات الجيوسياسية، أو من ناحية إعادة توزيع الحصص بين روسيا، إيران، والسعودية، في سياق معادلة “من يُصدّر أكثر وبأي شروط”.
كما أن التعاون في الأنظمة البنكية (مثل استخدام بطاقة “مير” الروسية) قد يكون نذيرًا بتحوّل كاراكاس إلى مختبر اقتصادي لفك التبعية عن النظام المالي الغربي، وهو ما قد يفتح الباب أمام عقوبات ثانوية تطال بنوكًا وشركات في دول ثالثة.
النهاية الرمزية… بداية جديدة؟
بعض التحليلات ترى أن لحظة التصويت البرلماني جاءت في “الليلة الأخيرة من عمر الاتفاق الرمزي” الذي دام شهرًا، لكن في الواقع، فإن هذه النهاية الشكلية ليست إلا بداية لتحوّل استراتيجي كبير. فنزويلا تُطلق رسالة مزدوجة: الانفصال التام عن منظومة ما بعد الحرب الباردة، والدخول في تحالفات جديدة أكثر جرأة، حتى لو كانت مكلفة دبلوماسيًا واقتصاديًا.
في عالم تُعاد فيه صياغة مراكز القوة، يبدو أن كاراكاس لم تَعُد مهتمة بلعب دور المتفرج. إنها تنحاز بوضوح، وتدفع باتجاه تغيير موازين اللعبة في نصف الكرة الغربي.
والسؤال الأهم الذي يفرض نفسه الآن:
هل ستبقى الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي بينما تمد روسيا يدها إلى خاصرتها الجنوبية؟
أم أن العالم على موعد مع مواجهة غير تقليدية في “الحديقة الخلفية” التي لم تعُد مغلقة؟
|