صنعاء نيوز/كتب/ عادل حويس - في وطن أثقلته التحولات وازدادت فيه جراح الواقع حد التكلس ظل هناك من يضمد بصمت لا يطلب ضجيج الأضواء بل يكتفي بضوء غرفة العمليات وسكينة قاعة المحاضرات. في زوايا هذا الوطن المجهد نهض الدكتور يحيى الحريبي لا كطبيب عابر بل كحالة تأسيس علمي وأخلاقي غيرت وجه التخدير في اليمن وزرعت ما لا ينسى من بذور المعرفة.
حين يصبح الطبيب مؤسسا
في بلد لم يعرف طب التخدير إلا كظل باهت للطب وخوف متجذر من المجهول قرر الحريبي أن يقتحم المجهول لا ليألفه فقط بل ليبنيه من الصفر. لم ير في التخدير مجرد تخصص، بل أمنًا وطنياً من نوع آخر: أمن للحياة.. وسلام للروح واحتراف لا يقبل الخطأ.
لم يكن مسعاه مهمة مؤقتة بل مشروع عمر بدأ من تأسيس أول برامج التعليم في التخدير إلى تطوير أقسامه في المستشفيات وعلى رأسها مستشفى الثورة الذي ظل شاهدًا على إخلاصه الهادئ. لكن الأعظم من هذا كله هو أنه لم يكتف ببناء البنية بل بنى الإنسان.
المعرفة ليست حكرًا على الخارج
في زمن كان فيه الطبيب اليمني يستصغر في حضرة المؤتمرات رفع الحريبي صوته بالعلم لا بالمجاملة. كتب.. وشارك ونافس وطرح التجربة اليمنية برأس مرفوعة لا تلهث خلف الخارج بل تواكبه وتتعلم منه وتضيف إليه. لم يكن التوثيق ترفًا في قاموسه، بل جزءًا من الرسالة.
لماذا لا نكرم رموزنا إلا بعد الغياب؟
هنا تبدأ الأسئلة التي لا تهرب من النقد: كيف يمكن لرجل بحجم الحريبي أن يغادرنا دون أن تلتفت له الجهات الرسمية بشيء من التقدير الحقيقي؟ أهو قدر العلماء في هذا البلد أن تذكر أسماؤهم في التأبين، وتنسى في قوائم التكريم؟ هل باتت ثقافتنا تهتف للفقيد أكثر مما تكرم الحيّ؟
جامعة صنعاء – مشكورة – أقامت فعالية تأبينية وخصصت جائزة باسمه لكننا نعلم جميعًا أن هذا لا يكفي. لا يليق برجل حفر اسمه في تاريخ الطب أن يكون حضوره بعد الرحيل مجرد فعالية عابرة أو جائزة يتيمة. نحن بحاجة إلى ثقافة "تخليد" لا ثقافة "تأبين".
الحريبي ليس حالة فردية.. بل مرآة تقصير جماعي
ما حصل مع الدكتور الحريبي ليس استثناءً، بل جزء من أزمة عميقة: أزمة وطن لا يعرف كيف يصنع رموزه ولا كيف يحتفي بها. كل ما لا يوثق ينسى وكل ما لا يخلد يمحى. واليمن اليوم لا ينقصه العلم فقط بل ينقصه الوفاء.
هذا الطبيب الذي كان يحمل المشرط بيد والقلم باليد الأخرى يستحق أكثر من "ذكرى طيبة". يستحق أن يدرس اسمه في كليات الطب وأن يعلق صورته في أروقة مستشفى الثورة وأن يخصص له يوم طبي وطني يستعاد فيه علمه وروحه.
الذاكرة الوطنية لا تبنى بالمجاملات
دعونا نكن صرحاء: نحن نمارس عادة التكريم وكأنها واجب اجتماعي لا وعي وطني. نكرم بقدر القرابة أو المصادفة لا بقدر القيمة. بينما في دول أخرى يخلد الطبيب كما يخلد القائد لأنه أنقذ أرواحا وعلم أجيالًا وغير وجه وطن.
من هذا المنبر ندعو وزارة الصحة جامعة صنعاء، نقابة الأطباء وكل من عرف الحريبي أو نهل من علمه أن يدركوا أن تكريمه اليوم ليس مجاملة لميت بل تربية للأحياء على ثقافة الاعتراف والاحتفاء.
ختامًا..
سلام على روحك يا دكتور يحيى
وسلام على كل يد علمت بإخلاص وكل قلب أحب بلاده بالعلم لا بالشعارات.
أما نحن، فلن ننسى.. لكننا نأمل أن نتعلم كيف نكرم قبل أن نرثي. |