صنعاء نيوز/محمد النصراوي -
لم يعد ملف التوظيف في العراق مجرد أزمة إدارية عابرة، بل تحول إلى "عقدة جيوسياسية" ومرض عضال يضرب عمق بنية الدولة الريعية، إن المشهد الراهن، الذي يتسم بتضخم ليفي في جسد القطاع العام يقابله قطاع خاص هش، هو انعكاس دقيق لخلل في "العقد الاجتماعي" لما بعد 2003، حيث تحولت الوظيفة الحكومية من أداة لخدمة المواطن إلى حصة الفرد من ريع النفط، وبوليصة تأمين اجتماعي تشتري بها السلطة السلم الأهلي.
عند تشريح ظاهرة الترهل الوظيفي، نجد أننا أمام "بطالة مقنعة ممولة نفطياً"، الدولة العراقية رسخت مفهوماً أبوياً يرى في التعيين الحل الأوحد لتوزيع الثروة، متجاهلة معايير الإنتاجية والحاجة الفعلية، هذا التضخم خلق ثقباً أسود يلتهم الموازنات التشغيلية، ويحرم البلاد من فرص التنمية المستدامة، جاعلاً الاقتصاد رهينة كاملة لتقلبات سوق الطاقة.
في المقابل، يبدو التعويل على "القطاع الخاص" لاستيعاب طموحات الشباب القلقة أشبه بالحديث عن سراب، فالشاب العراقي حين يستميت للحصول على الوظيفة الحكومية، يتصرف وفق "عقلانية اقتصادية" تمليها بيئة قانونية طاردة، ونظام مصرفي بدائي، وغياب شبه تام لقانون "الضمان الاجتماعي" في القطاع الخاص، فلا يمكن لوم الشباب على الهروب من قطاع خاص يولد مشوهاً وبلا حماية، نحو "القطاع الميري" الذي يوفر الاستقرار والتقاعد، حتى وإن كان بلا إنتاجية حقيقية،علاوة على ذلك، لا يمكن فصل الملف عن "الزبائنية السياسية"؛ فالأحزاب تتعامل مع الدرجات الوظيفية كعملة انتخابية، مما يفاقم ترهل المؤسسات ويجعل الدولة هي "المنافس" الأول للقطاع الخاص، محتكرة الكفاءات والسيولة، هذه الدورة تضع العراق أمام "قنبلة ديموغرافية" موقوتة، حيث تدخل مئات الآلاف من الأيدي العاملة الجديدة سنوياً إلى سوق مسدود الآفاق، مما يحول هذه الكتلة الشبابية من طاقة بناءة إلى وقود لاحتمالات اضطراب اجتماعي قادم.
إن الخروج من هذا المأزق يتطلب جراحة اقتصادية مؤلمة تنهي حقبة "دولة الرعاية الريعية"، وتخلق بيئة قانونية تجعل العمل في القطاع الخاص مساوياً في الأمان والمزايا لنظيره الحكومي؛ وبخلاف ذلك، سيظل العراق يسير بجيوش من الموظفين والعاطلين نحو حافة الهاوية المالية، بانتظار اللحظة التي يعجز فيها برميل النفط عن تغطية فاتورة هذا الخلل الهيكلي الجسيم.
|