صنعاء نيوز/إيهاب مقبل -
في كل مرة يُطرح فيها شعار "حصر السلاح بيد الدولة" في العراق، يعود السؤال ذاته إلى الواجهة: لماذا يُطبَّق هذا المبدأ على فصائل معيّنة، بينما تُستثنى قوات البشمركة في إقليم كردستان؟ ويتفرّع من هذا السؤال سؤالان أكثر حساسية: لماذا تصرّ واشنطن على نزع سلاح الفصائل العراقية؟ وماذا تريد تل أبيب تحديدًا من هذا الملف؟
هذه الأسئلة لا يمكن فصلها عن بعضها، لأنها تكشف تناقضًا بنيويًا بين مفهوم الدولة المعلن، وإدارة القوة الفعلية داخل العراق، والضغوط الإقليمية والدولية المفروضة عليه.
الدستور كغطاء سياسي
يستند المدافعون عن استثناء البشمركة إلى "الدستور العراقي" لعام 2005، الذي يعترف بإقليم كردستان ككيان اتحادي، ويقرّ بوجود قوات أمن تابعة له. غير أن هذا الاستناد، رغم وجاهته القانونية الشكلية، تحوّل عمليًا إلى غطاء سياسي دائم يمنع أي نقاش جاد حول توحيد القرار العسكري والأمني.
فالدستور ذاته يؤكد وحدة العراق وسيادته، ويمنح الحكومة الاتحادية مسؤولية الدفاع الوطني، لكن تطبيقه بقي انتقائيًا، يخضع للتوازنات أكثر مما يخضع لمفهوم الدولة.
قوة مسلحة خارج القيادة الاتحادية
من الناحية العملية، لا تعمل البشمركة كقوة وطنية موحّدة خاضعة لقيادة اتحادية مهنية، بل تنقسم بين ولاءات حزبية واضحة، جزء تابع للحزب الديمقراطي الكردستاني، وجزء تابع للاتحاد الوطني الكردستاني. ورغم ذلك، لا تُدرج ضمن خطاب "السلاح المنفلت"، ولا تُصنَّف بوصفها تهديدًا لسيادة الدولة، في حين يُستخدم هذا الوصف بحق فصائل أخرى.
وهنا تتجلى ازدواجية المعايير: السلاح لا يُقاس بمدى خضوعه للمؤسسة العسكرية، بل بمدى انسجامه مع التوازن السياسي القائم.
ازدواجية شعار حصر السلاح
إذا كان المعيار هو القانون، فيجب أن يسري على الجميع دون استثناء. أما إذا كان المعيار هو الواقع السياسي والضغوط الخارجية، فلا يمكن تسويق "حصر السلاح" كمشروع وطني جامع.
إن تطبيق الشعار بشكل انتقائي يفرغه من مضمونه، ويحوّله من مشروع دولة إلى أداة لإعادة ترتيب موازين القوة.
لماذا تصرّ أمريكا الشمالية على نزع سلاح الفصائل العراقية؟
إصرار واشنطن لا ينبع من حرص مجرد على بناء الدولة العراقية، بل من حسابات استراتيجية مباشرة:
1. حماية القوات والقواعد الأميركية من الهجمات المتكررة.
2. تقليص النفوذ الإيراني في العراق والمنطقة.
3. إعادة تشكيل المشهد السياسي العراقي بما يحد من نفوذ القوى المسلحة ذات القرار المستقل.
من هذا المنظور، يُنظر إلى الفصائل المسلحة باعتبارها عقبة أمام عراق "قابل للإدارة" ضمن الرؤية الأميركية، لا باعتبارها مجرد مشكلة قانونية داخلية.
ماذا يريد الكيان الصهيوني من نزع سلاح الفصائل العراقية؟
هنا يصبح الملف أكثر وضوحًا إذا نظرنا إليه من زاوية الأمن الإقليمي، حيث تتداخل فيه مصالح قوى إقليمية ودولية، وتظهر تداعياته على استقرار العراق والمنطقة بشكل مباشر، خاصة فيما يتعلق بمحاور النفوذ والنزاعات الاستراتيجية بين القوى الكبرى والإقليمية:
1. إزالة أي تهديد بعيد المدى: تنظر تل أبيب إلى الفصائل العراقية المسلحة بوصفها جزءًا من محور إقليمي معادٍ، حتى وإن لم تكن في حالة اشتباك مباشر معها. وجود هذه الفصائل يعني، من وجهة النظر الصهيونية "إمكانية فتح جبهة مستقبلية، أو توفير عمق لوجستي وتسليحي لقوى أخرى معادية". لذلك، فإن نزع سلاحها هو إجراء وقائي استباقي.
2. تفكيك "محور المقاومة" حلقةً حلقة: تل أبيب لا تتعامل مع بغداد كحالة منفصلة، بل كجزء من سلسلة تشمل لبنان وسوريا وغزة واليمن. إضعاف الفصائل العراقية يعني كسر إحدى حلقات هذا المحور ومنع تشكّل أي تهديد إقليمي متكامل في المستقبل.
3. ضمان التفوق العسكري النوعي: وجود فصائل مسلحة خارج سيطرة الدولة، تمتلك صواريخ أو طائرات مسيّرة أو خبرات قتالية، يُعدّ من وجهة النظر الصهيونية تهديدًا غير تقليدي. نزع هذا السلاح، أو إبقاؤه تحت ضغط دائم، يضمن بقاء "إسرائيل" في موقع التفوق المطلق دون مفاجآت استراتيجية.
تل أبيب لا تعادي البشمركة
لا تشعر تل أبيب بالقلق من سلاح البشمركة، وهي في فترة من الفترات "الحرب العراقية الكردية الأولى 1961–1970"، كانت تزود الفصائل الكردية بالأسلحة والخبرات العسكرية لمهاجمة الجيش العراقي بهدف إضعاف العراق، البلد الذي تنظر إليه إسرائيل دوماً على أنه الخطر المزعج القادم من الشرق. ببساطة، البشمركة لا تضع "إسرائيل" ضمن أولوياتها، ولا تنتمي لمحور معادٍ لها، ولا تشكل تهديدًا مباشرًا أو غير مباشر للأمن الصهيوني. وبالتالي، لا يدخل سلاحها في الحسابات الأمنية الإسرائيلية، ولا يُنظر إليه كجزء من المشكلة.
دولة أم ساحة صراع نفوذ؟
هذه المعادلة تضع العراق أمام سؤال مصيري: هل يُبنى مفهوم الدولة على أساس سيادي موحّد؟ أم يُدار البلد باعتباره ساحة صراع تتقاطع فيها المصالح الأميركية والإسرائيلية والإقليمية؟ الدولة التي يُفرض عليها نزع سلاح أطراف بعينها استجابةً لحسابات خارجية، بينما تُستثنى أطراف أخرى، تفقد جوهر السيادة حتى لو احتفظت بشكلها.
الخلاصة
المشكلة ليست في البشمركة وحدها، ولا في الفصائل وحدها، ولا في الضغوط الأميركية أو الصهيونية منفردة، بل في غياب معيار وطني موحّد لإدارة السلاح والسيادة. فإما أن يكون السلاح حكرًا على الدولة الاتحادية بلا استثناءات حقيقية، أو يُعترف بوضوح أن العراق يُدار بمنطق التوازنات الإقليمية والدولية، لا بمنطق الدولة المكتملة السيادة. وما لم يُحسم هذا التناقض، سيبقى شعار "حصر السلاح بيد الدولة" شعارًا انتقائيًا، يُعمّق الانقسام بدل أن يؤسس لوحدة وطنية حقيقية.
انتهى
|