صنعاء نيوز/إيهاب مقبل -
لن ينهار العراق لأنه ضعيف، بل لأنه يُدار عمدًا كنظام غنائم. ما يجري منذ 2003 ليس فشلًا عرضيًا ولا نتيجة أخطاء متراكمة، بل خيار سياسي ثابت اتفقت عليه النخب التي ورثت الدولة بعد الاحتلال، ثم أعادت إنتاجه لأنه يضمن بقاءها. الدولة العراقية لم تفشل في التحول إلى دولة طبيعية، بل جُرِّدت مسبقًا من شروط النجاح.
التجربة الأمريكية في العراق ليست استثناءً، بل جزء من نمط متكرر. في فيتنام الجنوبية، صنعت واشنطن نظامًا فاقدًا للشرعية يعيش على الدعم الخارجي، فسقط فور انسحابه. في أفغانستان، أُنفِقت عشرون سنة ومئات المليارات لبناء دولة تبيّن أنها واجهة بلا جذور، انهارت خلال أيام. في ليبيا، أُسقِط النظام دون تصور جدي لبناء الدولة، فتحوّل البلد إلى ساحة صراع دائم. القاسم المشترك في كل هذه التجارب هو وهم واحد: "الاعتقاد بأن الدولة يمكن أن تُصنَع من الخارج، وأن الشرعية تُستورد مع الدساتير والانتخابات".
العراق يسير في المسار ذاته، لكن بانهيار مؤجَّل. النفط هو العامل الوحيد الذي أخّر لحظة السقوط، لا لأنه أنقذ الدولة، بل لأنه موّل فشلها. الريع النفطي حوّل الدولة إلى خزينة، والمواطنة إلى راتب، والسياسة إلى سباق محموم على السيطرة على الموارد. ومع تضخم الجهاز الوظيفي وتآكل الثقة بالمستقبل، أصبحت الدولة أكثر هشاشة كلما بدت أكثر “استقرارًا” في الظاهر.
في هذا السياق، لا يمكن فهم الصراع الكردي الحالي على "رئاسة الجمهورية" بوصفه خلافًا سياسيًا طبيعيًا. إنه عرض صارخ لانهيار مفهوم الدولة. منصب يُفترض أن يرمز لوحدة البلاد تحوّل إلى حصة مكوّن، ثم إلى ساحة صراع داخل هذا المكوّن نفسه. لا نقاش حول معنى الرئاسة أو دورها الدستوري، بل صراع على النفوذ والتمثيل والقدرة على التفاوض. هكذا تُختزل الجمهورية إلى ورقة مساومة، ويُختزل الدستور إلى أداة تعطيل.
وما يحدث في البيت الكردي ليس إلا نسخة مكثفة مما يجري في بقية النظام. رئاسة الوزراء تُدار كغنيمة داخل البيت الشيعي، ورئاسة البرلمان داخل البيت السني، وكل مؤسسة سيادية تُختطف باسم "الاستحقاق الطائفي أو العرقي"، وليس الكفاءة. الدولة هنا لم تعد إطارًا جامعًا، بل ساحة تقاسم دائم، تُدار فيها الخلافات لا لحلّها، بل لإبقائها حيّة بوصفها شرطًا لبقاء النظام.
من هذا المنطلق، يصبح السؤال عن توقيت الانهيار مشروعًا، لكنه يحتاج إلى واقعية سياسية. العراق لن ينهار غدًا، لكنه أيضًا لن يستمر طويلًا بهذه الصيغة. السيناريو الأكثر ترجيحًا ليس الانهيار الفجائي على طريقة كابول، بل تآكل بطيء قد يمتد لسنوات قليلة قبل أن يصل إلى نقطة اللاعودة.
السيناريو الأول: الانفجار القصير (1–3 سنوات)
هذا السيناريو ليس مستبعدًا كما يُروَّج. يكفي اجتماع صدمتين كبيرتين لتسريع الانهيار: أزمة نفطية حادة أو طويلة الأمد، وصراع داخلي مسلح داخل أحد المكوّنات الكبرى، ولا سيما في مركز القرار الشيعي. عندها، ستفقد الدولة قدرتها على دفع الرواتب وضبط السلاح وإدارة الشارع، وسينكشف أن "الاستقرار" لم يكن سوى هدنة بين قوى تتقاسم الغنيمة. في هذا المسار، لا ينهار العراق فجأة، بل يتعطّل: حكومة عاجزة، برلمان مشلول، مؤسسات أمنية متنازعة، ودولة بلا قرار.
السيناريو الثاني: التآكل القاتل (3–7 سنوات)
وهو السيناريو الأرجح. هنا لا يحدث انفجار واحد، بل سلسلة أزمات تُدار بالفشل، إلى أن تفقد الدولة وظائفها الأساسية تدريجيًا. الخدمات تتلاشى، القضاء يفقد ما تبقّى من هيبة، الانتخابات تتحول إلى طقس بلا معنى، والهجرة تصبح الخيار الجماعي الصامت. في هذه المرحلة، تبقى الدولة اسمًا وعلمًا ومقاعد دولية، لكنها تتحول عمليًا إلى كيان فارغ، أشبه بلبنان موسَّع بموارد نفطية تتناقص قيمتها السياسية مع الزمن.
السيناريو الثالث: الانكشاف الكبير (7–10 سنوات)
إذا استمر النظام بهذه الصيغة، فإن لحظة الانكشاف الشبيه بما حدث في أفغانستان ستأتي، لكن بشكل مختلف. لن تدخل قوة واحدة لتحسم، بل سينكشف أن لا أحد مستعد للدفاع عن الدولة. عند أول انسحاب أو تبدّل حقيقي في مواقف القوى الخارجية، سيظهر أن ما كان قائمًا لم يكن دولة، بل توازن مصالح هش. حينها، قد لا نرى مشهد سقوط مدوٍّ، بل تفككًا صامتًا: أقاليم أقوى من المركز، سلاح أقوى من القانون، ومجتمع منفصل نفسيًا عن كيان اسمه العراق.
في كل هذه السيناريوهات، العامل الحاسم ليس الزمن وحده، بل غياب الإرادة السياسية لتغيير منطق الغنيمة. وكلما طال عمر النظام دون إصلاح جذري، تقلّصت فرص التحول السلمي، وازداد ثمن الانهيار القادم. فالدول لا تسقط حين تضعف فقط، بل حين تستمر طويلًا وهي ترفض الاعتراف بأنها فاشلة.
كما في أفغانستان وفيتنام الجنوبية وليبيا، قد تستمر الواجهة السياسية العراقية لسنوات، لكن التجارب الأمريكية السابقة تقول بوضوح: الأنظمة التي تُبنى بلا عقد اجتماعي داخلي قد تعيش طويلًا، لكنها لا تنجو. والعراق، ما لم يُعاد تعريف الدولة فيه بوصفها وطنًا لا صفقة، يتجه بثبات نحو انهيار مؤجَّل، هادئ في شكله، لكنه عميق في نتائجه.
انتهى
|