صنعاءنيوز/ انتصار المقاومة وصبر الأمة - د. مصطفى يوسف اللداوي
ما كان لصفقة الأحرار أن تتم لولا حالة الصبر والاحتساب التي أبداها الفلسطينيون جميعاً وخاصةً سكان قطاع غزة، إذ ما كان للمجموعة الفدائية التي نفذت عملية الوهم المتبدد ونجحت في أسر شاليط، أن تتمكن من الاحتفاظ به في مكانٍ آمنٍ وسري مدة خمس سنوات، دون أن يتمكن العدو الإسرائيلي من معرفة مكانه، أو تحديد المنطقة التي يحتجز فيها، رغم التقنيات العالية التي سخرها في المتابعة والتجسس وجمع المعلومات، استخدم فيها طائرات التجسس والمراقبة، وتنصت على المكالمات الهاتفية، ودخل على ترددات الأجهزة اللاسلكية، وقرصن أجهزة الكمبيوتر والحواسيب الشخصية، ودخل على غرف التشات والدردشة على شبكة الانترنت، واستخدم الشباب والفتيات في الإيقاع بكل من يمتلك معلومة عن شاليط أو آسريه، ورصد تجمعات القمامة، وأماكن إلقاء الزبالة، وتابع شخصياتٍ فلسطينية كان يظن أن لها علاقة بعملية الأسر، لكنه وعلى الرغم من مئات المتعاونين معه فقد فشل في الحصول على أي معلومة أو أدلة تساعده في التعرف على مكان شاليط، حيث كان يتعمد تأخير التوصل إلى صيغة اتفاق حول صفقة تبادل الأسرى مع المقاومة الفلسطينية أملاً في أن تصل أجهزته الأمنية إلى مكان شاليط وتحرره دون أن تكون ملزمة بدفع الثمن، ولكن الجهود الإسرائيلية باءت كلها بالفشل، ولم يجد أحداً يتعاون معه في قطاع غزة، أو يقدم له المعلومات، أو ييسر له مهمة البحث عن الجندي الأسير.
وقد اعترفت سلطات الاحتلال الإسرائيلي أنها وظفت عشرات الإعلاميين والصحفيين الأجانب من رعايا دولٍ غربية، أو من الإسرائيليين أنفسهم ممن يحملون جوازات سفرٍ أجنبية، وكلفتهم بجمع ما يستطيعون من معلوماتٍ تتعلق بآسري شاليط، أو بالأماكن التي من المتوقع أن يكون محتجزاً فيها، وطلبت منهم تزويدها بمختلف أنواع المعلومات الخاصة التي صنفتها وبوبتها لهم، كما كلفتهم بزرع معداتٍ إليكترونية مموهة وصغيرة جداً، مزودة بحساساتٍ دقيقة، وتسجيلاتٍ لبصمة صوت شاليط، لتتمكن من التقاط صوته وتحديد مكانه، كما عملت أجهزة أمنية غربية وخاصة فرنسية، باعتبار أن جلعاد شاليط يحمل الجنسية الفرنسية، من خلال وسائلها المختلفة، وعملائها المنتشرين في قطاع غزة والضفة الغربية الذين تقمصوا شخصياتٍ مختلفة، وادعوا أنهم يعملون في حقول الإعلام أو العمل الإنساني، أو يمثلون جمعياتٍ خيرية غربية، ولكنهم في الحقيقة كانوا يعملون عملاء لأجهزةٍ أمنية غربية وإسرائيلية، ولكنهم فشلوا جميعاً في إحراز أي خطوة إيجابية تحيي لديهم الأمل بتحرير الجندي الأسير دون ثمن.
أثبت الفلسطينيون جميعاً أنهم جزءٌ من المقاومة، وحماةٌ لها، ودرءٌ يحفظها ويكلؤها، وسياجٌ يحميها ويظللها، وأنهم مكملين لعمل الكتائب المقاتلة، ومتممين لجهود المجموعات العسكرية، يموهون ويضللون ويحمون ويدرؤون ويدافعون عن كل المقاومين والمقاتلين، فلا يجد العدو من خلالهم مدخلاً أو مسرباً يتسلل به إلى صفوف المقاومة، ويخترق جوزتها الصلبة، ونواتها القوية النقية، فيخلخل صفهم، ويوهن قوتهم ويفت في عزيمتهم، ويضعف إرادتهم، وإن كان قد راهن كثيراً على تجنيد عملاء جددٍ يمتلكون معلوماتٍ عن شاليط، أو يرتبطون بعلاقاتٍ وثيقة مع قيادات المقاومة، ففشل في شراء ذمم الفلسطينيين، ولم ينجح في على مدى سنواتٍ خمس في تفكيك عرى هذه العملية الأمنية الفذة، رغم أنها وقعت في مناطق سيطرتهم، وقد تم سحب الجندي إلى قطاع غزة، وهو نظرياً مازال يخضع لقدراتهم العسكرية والأمنية، ومع أن الجهود التي بذلها في الأيام الأولى للأسر كانت مهولة، إلا أن النتيجة كانت واحدة، فقد اختفى شاليط، وغابت معالمه، وطمست آثاره، ولم يبق هناك أثرٌ يدل عليه.
تكبد الفلسطينيون جميعاً بسبب شاليط خسائر كبيرة، ودفعوا ضرائب باهظة، وتحملوا صلف وعدوان العدو الإسرائيلي، ولكن أحداً من الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة لم يضجر أو يضج، ولم يطالب بوضع حدٍ لهذه المعاناة بتسليم شاليط وإعادته إلى بيته، فاعتقل من مختلف مدن الضفة الغربية مئات الفلسطينيين، واحتجز نواباً في المجلس التشريعي ممن ينتمون إلى حركة حماس، واعتقل رئيس المجلس التشريعي وأبطل جلساته، واعتقل وزراء في الحكومة الفلسطينية ونائب رئيس الحكومة، وقتل المئات من أعضاء الكتائب العسكرية، ونفذ مئات العمليات الأمنية والعسكرية ضد مواقع ومقرات عسكرية وأمنية وخيرية وإنسانية وتعليمية وثقافية وتجارية يعتقد بأنها على صلة بحركة حماس، وصادر معداتٍ وتجهيزاتٍ وأموال، وأغلق مؤسسات وجمعيات ومدارس ومساجد ورياض أطفال، وفعل ما لا يخطر على بال، ولا يطوف في خيال، فطلب من الأجهزة الأمنية الفلسطينية في رام الله مساعدته، وتقديم العون له، واعتقال واستجواب من ترى أنه يمتلك معلومة، أو يعرف الجهات التي تحتجز شاليط وتخفيه، ولم تألُ أجهزة أمن السلطة الفلسطينية جهداً في تعقب ومتابعة المشتبه بهم من أعضاء ومناصري حركة حماس، وسهلت في بعض الأحيان لسلطات الاحتلال اعتقال بعض النشطاء والمطلوبين، ولكنها فشلت في تفكيك طلاسم أسر شاليط كما فشل العدو نفسه.
أما قطاع غزة فقد دفع الثمن الأعلى، وأدى الضريبة الأبلغ، وضحى بأكثر مما يحتمله شعب، وتصبر عليه أمة، وأثبت شجاعةً عز أن ينساها التاريخ، وصبراً لم تشهده سير السابقين، وتحملاً لم تعهده أمة خلت، وشعبٌ مضى، فقد أدميت أطرافه، وتمزقت أحشاؤه، وتبعثرت أشلاؤه، وقتل أبناؤه، وخربت مدنه ومخيماته وأحيائه، وقصفت شوارعه ومساجده وأسواقه وجامعاته، ودمرت مؤسساته الحكومية والمدنية والأهلية، وسويت بالتراب مقرات وزاراته ومباني شرطته وأجهزته الأمنية، واغتال الاحتلال خيرة أبنائه، وقصف بالطائرات والصواريخ أهدافاً كثيرة، وقتل أبرياء ومواطنين، صغاراً وكباراً، رجالاً ونساءاً، ولم تستثن صواريخه ومدافعه أحداً في قطاع غزة إلا وأصابته بشظاياها قتلاً أو إصابة، إذ شنت عليه حرباً مهولة، استخدمت فيها أسلحةً فتاكة، وجربت فيها مختلف أشكال أسلحتها الجديدة، التي قتلت عشوائياً، ودمرت كلياً، وخربت كل بناءٍ قائمٍ ومستوٍ، مرتفعٍ ومنخفض، جديدٍ وقديم، وكانت قد فرضت على القطاع حصاراً مشدداً وطوقاً محكماً، فحرمت سكانه من السفر منه أو إليه، ومنعت دخول الغذاء والدواء وكل مستلزمات الحياة، وضيقوا على المواطنين قطاعهم الضيق، وظنوا أنهم سيركعون الشعب وسيدفعونه للثورة على قواه المقاتلة، وتنظيماته المقاومة، ليجبرها على التخلي عن الجندي الأسير وإطلاق سراحه، وتمكينه من العودة إلى بيته وعائلته.
خاب فأل الإسرائيليين وطاش سهمهم ولم يصب، فلم يتمكنوا من تجريد المقاومة من قوتها الشعبية، وحرمانها من حاضنتها الأهلية، ولم ينجحوا في خلق ثورة، وتسيير مظاهرات احتجاجٍ وضيقٍ وتبرم، بل زادت جرائمهم في تلاحم الشعب مع المقاومة، وفي صمود الأهل وثباتهم على مواقفهم، وفي تمسكهم ببقاء الجندي الأسير في أرضهم حتى يتحقق وعدهم للأسرى بالحرية، وللأهل باستعادة أبنائهم أحراراً، فكان الشعب الفلسطيني كله بحق هو صاحب الانتصار، وشريك المقاومة، وحاضن الثورة، وبطل عملية الوهم المتبدد، ومنفذ عملية تبادل الأسرى، وصاحب الحق بما أعطى مع المقاومة بالفخر والزهو والاعتزاز. |