صنعاء نيوز/نبيل حيدر -
* واجهة منزلي والبوابة تطل على ساحة المستشفى العسكري بصنعاء ,كانت الساحة مزدحمة بأهالي ضحايا شهداء و جرحى جريمة التفجير في ميدان السبعين منذ الصباح .
بعد صلاة العشاء خرجت بقصد التواصل معهم إن سنحت الفرصة لكني وبمجرد أن فتحت الباب و خرجت وقف أغلب القاعدين المستندين بظهورهم إلى جدار منزلي . واتجه نحوي رجل ستيني العمر غزا الشيب شعر رأسه و الوقار باد عليه , وبنوع من الارتباك الممزوج بالخجل باشرني بالقول : المعذرة يا ابني تحملنا وتحمل جلوسنا بجانب جدار منزلك فابني أحد الجنود وهو في الثلاجة الآن و……...
* لم أسمع بقية كلامه فقد أحسست بالدنيا تدور بي وشعرت بغصة شديدة في حلقي . بعدها اقتربت منه وفوجئ بي أقبل جبينه وأنا أتمتم بكلمات مختلطة مفادها أنتم على الرأس وعلى العين ثم ترحمت على شهيدهم وعدت أدراجي إلى داخل المنزل .
كان الحزن يقتله بوضوح لكنه كان صابراً محتسباً و مع ذلك كانت لديه قدرة على الاعتذار الذي كنت غير منتظر له وآلمني بشكل لم أتوقعه ولم يقصده هو .
رحم الله الشهداء وشفى الجرحى وعصم قلوب أهاليهم ومحبيهم وقلوبنا بالصبر .
* تلك كانت مشاعر إسماعيل سلامة صاغها في منشور فيسبووكي فيه ما فيه من الحزن المحتقن بالصدمة . إسماعيل أطلق ما بداخله وما بداخل بشر كثيف لا يستطيع الحيد عن طبيعته الإنسانية السوية الرافضة للقتل العبثي مهما كان الحصان الحامل له يرمح بالتبريرات . ما جعلني أنقل كلمات إسماعيل بقائي جامد الأحاسيس منذ اللحظة الأولى لمعرفتي بخبر الحادثة رغم عبارات الغضب و الفجيعة التي أطلقها العديد و لم تهزني إلا كلمات ذاك الأب المفجوع في ولده بأدبها الجم . حينها بدأت مشاهدة ذهنية لبقية المفجوعين و الاستفاقة على المأساة .
* قبل ذلك كنت قد شكوت إلى وكيع نفسي سوء برود مشاعري و لا أدري لماذا كانت هامدة .. هل السبب في أنه ليس نزيف الدم الأول ؟.. ربما . هل السبب في فكرة أن الإنسان عندنا و حرمة دمه لا قيمة لها ؟.. ربما . هل السبب في أن مصاص الدماء لا يزال يسكن في أنياب كثيرة تسرح و تمرح في طول البلاد و عرضها و تحت مسميات و اشتهاءات متنوعة ؟ .. أيضاً ربما .
* كل الاحتمالات واردة و كلها صفيح ساخن طالما بقيت حدودنا مراتع مفتوحة للرائح و الغادي , و طالما بقي التنفذ سلطاناً متوجاً بالمال الخرافي و السلاح و الأتباع و ألعاب السياسة القذرة .لسنا شيئاً و سنبقى لا شيء و سنزداد وبالاً بهبوط الأخلاق و القيم الإنسانية مع كل وقائع قتل تعلو بخطها البياني و باستمرار القتل و استمرائه . و عندما نفقد الاتزان الإنساني و الأخلاقي في التعامل مع سفك الدم يصبح التحريض على القتل مجرد عابر سبيل نكتفي بالتلويح له فيما يعمل هو عمله في قيمنا و قدرتنا على التمسك بأدوات السلم الاجتماعي والأمن الأخلاقي و الحيواتي .
* مع الدم لا يمكن أن نكون أمام مفترق طرق حيث لا طريق إلاّ طريقا واحدا,
وليس من اليوم فقط فالتاريخ القريب قبل البعيد أثبت لنا أن هتك الأرواح و التلاعب بها و تحريك تروس التأجيج عليها لا ينتج عنه سوى مزيد و مزيد من الهتك , كما أن ترك حبل المجرم مطلقاً على الغارب و خاضعاً للكر و الفر و للكيد السياسي أو الأيديولوجي ليس إلا منازلات مفرغة من الفاعلية.
نحتاج إلى الصرامة لمرة واحدة في حياتنا على الأقل , و نحتاج إلى تقديس دم الإنسان أيضاً على الأقل مرة واحدة في الحياة . فهل نفعل أم نستمر في الترديد البائس : ليتني لم أخرج .. إلى الحياة ؟؟.