صنعاء نيوز/بقلم/ توفيق أبو شومر - هل نحن مقلدون ؟ أم نحن مجددون نسعى لتطوير حياتنا؟
ما الأسباب التي جعلت الغزيين من أكثر الشعوب تقليدا؟
إن هناك ظروفا أجبرتْ غزة أن تكون من أكثر دول العالم تقليدا، وتعود أبرز الأسباب إلى ظروف غزة وطبيعة الحياة فيها، وحجم المعاناة والحصار الذي تعرضت له طوال تاريخها.
وقبل أن أسرد بعض مظاهر التقليد، يجب أولا أن أحدد معنى التقليد الذي أقصده في هذا المقال، فأنا أقصد محاكاة الآخرين وتقليدهم والسير على منوالهم ، واعتبار أفعالهم وأقوالهم صحيحة، لا شكّ فيها، بلا فحصٍ أو تدقيقٍ، لأنها فقط صدرتْ من المجموع، والجماعةُ لا تخطئ أبدا!!
من المعروف أن غزة بحكم ظروفها ظلتْ تسود فيها الأسريةُ والقبلية، على حساب الوطنية والقانونية، ولم تتمكن معظم الأحزاب السياسية الفلسطينية من وضع برامج ثقافية واجتماعية وتربوية، يمكنها أن تنقل المجتمع الفلسطيني من مجتمع مدمنٍ للتقليد، إلى مجتمعٍ ساعٍ للابتكار والتجديد.
وأسهم النظام التربوي الفلسطيني التقليدي كذلك في ترسيخ التقليد، وفشل في إحداث نقلة من التقليد للإبداع والتجديد، وذلك لغياب استراتيجية تربوية، تعيد النظر في البرامج والمقررات المدرسية القادرة على شحذ مواهب الأبناء، ونقلهم من التقليد إلى الإبداع ، فالإبداع والابتكار هو وسيلة النقل الرئيسة للمستقبل.
ومن المظاهر العديدة التي يمكنني أن أحصيها لهذا التقليد الأعمى في كثيرٍ من الأمور، الاحتفالات العسكرية الشعبية الواسعة بشهادة الثانوية العامة، وعدم الاحتفال بمن يحصلون على شهادات الماجستير والدكتوراه!
ومن مظاهر التقليد الأعمى انصياع الجمهور للشائعات، فالشائعات في غزة تقود الجمهور أسرع بكثير، من آراء المثقفين والسياسيين، وأكثر بكثير حتى من قادة الفكر الواعين!!
وما أزال أذكر عندما شحَّ وقود السيارات قبل سنتين تهافتَ مالكو السيارات على ورشات تركيب أجهزة استبدال الوقود السائل بالغاز، فازدهرت تجارة محولات الوقود إلى غاز، ولم يسأل أحدٌ أحدا سؤالا واحدا يقول:
ماذا لو اختفي الغاز أيضا؟!!
فغزة تستورد الكاز والغاز معا، وهما يأتيان من مصدر واحد!!
وظهرت نتيجة للتقليد الأعمى طائفةٌ من تجار السوق السوداء فرضوا أسعارهم الباهظة، وجنوا أرباحا طائلة من هذه السوق التي ازدهرت واندثرت خلال أيامٍ قليلة!
وعندما شحَّ الديزل أيضا قاموا باستبداله أيضا بزيت الطعام، وسرت شائعات- طبعا بلا رأي علمي- بأن دخان زيت الطعام يسبب السرطان، فلبس الناس الكمامات، على الرغم من أن أبخرة عودام السيارات بالبنزين والديزل أشد خطرا على الصحة والبيئة من بخار زيت الطعام .
وهناك مظاهر تقليد أكثر خطورة تتعلق بالطعام والشراب أيضا، فقد أطلق بعضهم شائعةً بأن أكل البطيخ يسبب مرضا معويا خطيرا، فامتنع الناس عن شرائه!
واشتكى إليَّ أحد الأطباء، وهو ينظر إلى تهافت الناس على أحد محلات بيع الطعام قائلا:
انظر ازدحام الناس على دكان بيع السمك المحفوظ في الملح،فقد صار تقليدا في غزة، أن استهلاك الصائم للسمك المحفوظ في الملح أي (الفسيخ) في الأيام الأخيرة من رمضان، وفي أيام العيد، هو واجبٌ وتقليدٌ، وانتشرت شائعة تقول:
إن استهلاك الفسيخ يساعد حتى على إنعاش المعدة، وأن شرب الماء الذي يعقب أكل الفسيخ مفيدٌ للصحة!!
وأضاف:
لم يقتنع كثيرون بأن (شرب الماء) بعد وجبة الفسيخ ليس حدثا صحيا، بل إنه أمرٌ يُصدره العقلُ - قبل أن يصاب بارتفاعٍ حاد في ضغط الدم قد يؤدي للموت- يصدره العقلُ لسلطة الدفاع المدني وجهاز الإطفاء ، لكي يتخلص من آثار الملح الذي غزا الأمعاء!!
وقد صار الغزيون تقليديين كما كانت الأقوامُ الأخرى في سالف العصر والأوان قبل قرونٍ عديدة، فقد كان الناس يسخرون من اليهود لأن وجبتهم الرئيسة في السبت هي السمك، فكانوا يتندرون قائلين:
بلا سمك، لا يأتي السبت!!
وها نحن في غزة نعود للقرون الأولى ونقول:
بلا فسيخ لا يأتي العيد!!
وبلا فتة دجاج لا يأتي يوم الجمعة!!
وبلا قطائف لا يأتي شهر رمضان!!
وبلا فول أو حمص لا تطلع شمسُ الصباح!!
أعادني هذا الموضوع إلى أبرز المراجع التاريخية في العالم (تاريخ الحضارة) لول ديورانت ، حين ربط الكاتب الكبير ارتباط التقليد بالجهل، فأورد في موسوعته المرجعية قصصا كثيرة أبرزها:
"اجتاحت جنوب شرق فرنسا موجة من الذعر عام 1609 فاعتقد مئات من الناس بأن الشياطين حولتهم إلى كلاب، وانتشر النباح بين الجميع، فصاروا ينبحون تقليدا لبعضهم، وعُينتْ لجنة من برلمان بوردو لفحص الأمر"
" كتاب تاريخ الحضارة لول ديورانت جزء 28 صفحة 226 "
ويشير الكاتب الكبير أيضا إلى أساليب التغلب على آفة التقليد، الذي يؤدي في النهاية إلى الخرافات،وهناك ارتباط وثيق بينهما، ويعود السبب إلى الجرعات الثقافية، وغياب التنوير العقلي.
يُبرز ول ديورانت عباقرة التنوير ممن ثاروا على التقليد الأعمى، ويشير إلى أثرهم في نقل المجتمعات من التقليد إلى الابتكار ، ومن الظلام إلى النور،ومن التجميد إلى التجديد، فيذكر أثر مؤسسات نشر الكتب الثقافية، التي طبعت كتب المعارف في جنيف وباريس على يد هنري استين الثاني ، ويسرد أيضا دور المكتبات مثل، مكتبة بودليان في إكسفورد، والأسكوريال، ولمبروزيانا في ميلان 1606 في نقل المجتمع من حالة التماثل في الجهل والتقليد، إلى الابتكار والتجويد.
ويضع إصبعه على الجرح فيبين دور الإعلام والصحافة في نقل المجتمعات إلى الحضارة، ويشير إلى أقدم الصحف أفيز زيتونغ الأسبوعية 1609، ثم بريد فرانكفورت 1616 .
وأشار كذلك إلى أهمية دور المثقفين الرواد الذين أخذوا على عاتقهم تأليف الموسوعات الثقافية ، فقد ظهر القاموس التاريخي الكبير لمورتيري 1674، والقاموس التاريخي النقدي لبيل، وموسوعة الآداب والعلوم لإفرايم تشمبرز 1728 في لندن، ثم موسوعة ديدرو ودلامبير 1751م، وظهرت الموسوعة البريطانية عام 1771م في ثلاثة مجلدات!!
وأخيرا لماذا لا نعيد قراءة تاريخ الأمم والشعوب ونُدمج تاريخ الشعوب والأمم في مناهجنا المدرسية؟!!
أم أننا سنظلُّ أسرى الحكمة المشهورة التي تقول:
" فُرضتْ عقوبةٌ على كل مَن لم يقرأوا التاريخَ، وهي أن يعيدوه من جديد "!! |