صنعاءنيوز/علي شكشك -
بالتأكيد هو يوم مختلف، لا أحد يمكن أن يدرك نوع المشاعر التي اعتلجت في الصدر لحظة التصويت، وليس بمقدوري أن أترجمها، أكتفي بالإحساس بها دون ادّعاء القدرة على وصفها إذ لا أحد يستطيع أن يتحسس كيف يشعر الفلسطيني منذ أكثر من ستة عقود، وهو يُدعُّ على بوابات العالم دون هويّة مطارداً بذكرياته ووثيقة السفر التي تحرمه من دخول الدولة التي أصدرتها وتحرمه من العمل على أرض تلك الدول التي أصدرتها وتمنعه من التملك، كلُّ هاجسه أن تقبل به أرضٌ أو تظله سماء، يسيرُ أسيرَين، واحدةً لحنين الوطن وثانيهما لسجون المنافي، كنت ومازلت لا أعرف كيف يحسّ الناس العاديون الذين يتمتعون بوطن يشتمونه كما يشاؤون ويتدللون عليه كما يشاؤون، يهجرونه صيفاً للسياحة أو للبحث عن فرص ثراء، لكنهم مكتملون به حباً وكرها، لم أكن أعرف ولا أظن أنني سأعرف يوما، إذ أن هناك فرقاً بين أن تولد في عادية وبداهة ذلك الشيء الذي لا يملكُ أحدٌ أن ينكره عليك وبين أن تكتسبه لاحقاً أو كما أنا أتنسّمُ الآن رائحته من بعيد،
كل برهةٍ فلسطينية كانت بلا غطاء، ما أصعب أن تكون بلا غطاء، ولقد تماسكت الحالة بما لها من رصيد جماعي بالإحساس بالحق والمظلومية وبما لها من وجدانٍ جمعي وما تختزنه من ثقافة التاريخ، واستلت زيت بقائها رغم الفاقة الأممية وخذلان العشائر وبما لها من جذور عميقة استطاعت أن تقتات من أغوار الأرض والحلم، واحتمت بذاتها التي تُبلور اليقين الكامل بحقها المغتصب الذي لن يضيع، هي منطقة اليقين فيه التي ساندته وكاملته، هي منطقة اليقين التي جعلته متجاوزاً وساخراً من شراسة وبشاعة العنف التاريخي والمعنوي والمادي الذي مورس بلا رحمة عليه،
هذه الحالة الفلسطينية بِسماتها تلك غيرُ قابلة للهزيمة، الهزيمة التي جعلها العدو هدفاً له وفي مرمى نيرانه، ذلك أن القنابل والحروب وشتى أشكال العسف التي جُربت فيه كانت توجه في الأساس إلى هذا الهدف، ضرب منطقة الأمل واليقين، كانت تستهدف إيصاله إلى حالة من التسليم بقدرٍ يفرضه المحتل،
ولقد كانت ابتسامة أي طفل فلسطيني يرشقهم بحجر وكانت كل قصيدة فلسطينية وكانت كل رقصة أو موال أوأغنية تعيدهم إلى نقطة الصفر، ناسفةً كلَّ صواريخهم وكلَّ ترساناتهم ومراكز دراساتهم، كان العدو يُجنُّ وهو يصب الرصاص فوق رؤوسهم ويدك التجمعات السكنية بشتى المدمرات وأحدث التكنولوجيات بينما تزغرد النساء للصواريخ التي تنهال على مستوطناته، ماذا تبقى من الفلسطينيين كي يكونوا فلسطينيين؟ هكذا كان يزداد جنون الغزاة فيزدادوا غباءا،
هي تلك النقطة الأولى العصيّة على كلِّ الترسانات، في تلك المنطقة البعيدة والمحميّة من كلِّ المؤثرات، منطقة اليقين النهائي بالحق الكامل، واليقين الكامل بزوال العابرين، شعبٌ تمرس منذ آلاف السنين على استيعاب المهاجرين والتعايش مع الغادين والرائحين يجيئون ويذوبون أو يغادرون،تنكسر على سجيته الحملات، الأرض تحت قدميه مهد الأنبياء والسماء فوق رأسه مفتوحة للإسراء والدعاء،
فلسطين تسكن ضمير العالم بفجاجة ضوء الحق والضمير إلى درجة التغشية على بصيرته، ولقد تشابكت الحسابات بين رغبة العالم الغربي ذي الثقافة الاستعمارية في التخلص من يهوده الذين شكلوا في مجتمعاته عامل زعزعة وتوتير واستفزاز وابتزاز تضاف إلى رصيد الثقافة الدينية الموروثة والتي جعلتهم أعداءً تقليديين له وكرست كراهية جماعية لهم عرفت بما يسمى اللاسامية، وبين حسابات استعمارية عنصرية جعلت الضمير الغربي ينام ولا يستيقظ على حقوق العرب والفلسطينيين، وهذا ما يفسر التبني الكامل والإسناد اللامفهوم للكيان الصهيوني،
لكنّ المشهد في الجمعية العامة لم يكن حكراً على هذا العالم الغربي الذي فقد ضميره، المشهد اضطره إلى خيارٍ حرج، جعله يُبقي على ورقة التوت التي تستر عرض ادعاءاته الأخلاقية، ولهذا صوّت البعض بنعم وامتنع الآخرون، فليس ممكناً أن يغامر بعريه الكامل ويتحدّى المنظومة الأخلاقية التي يزورها لنفسه ويزعم أنها تميزه ويصوغ روايته للعالم مستنداً على تفسيره لها وبفرضها بقوة جهازه الإعلامي ونموذجه المدني الحضاري وأسلحته التي تتدخل عند اللزوم، كان صعباً أن ينكشف عنهم كلُّ الغطاء، فكان هذا القرار الذي منحنا غطاءً ما كانوا يريدونه لنا،
هذا القرار الذي يشكل غطاءً لنا سيكون على حساب الغطاء الصهيوني، سيعريه ويعرّي المنظومة الأخلاقية الغربية التي أنبتت ذات الكيان الصهيوني، ومنحته شرعية أممية ورعته وردفته بكل قوامها، بما أنه نباتها الشرعي ويحمل مطلق جيناتها وثقافتها، باختصار هو مشروعها،
لكن ما جرى في الجمعية العامة ينبئ أن تلك المنظومة الغربية المدججة بالزيف والتزوير والهيمنة والقوة والجوع الاستعماري والرغبة في السيطرة على العالم لهي أضعف من ذلك الشيء الذي يراهن عليه الفلسطيني؛ نصاعة الحق ومضاء الضمير وقوة الصدق، فلا شيء يمكن أن يهزم الحقَّ والعدل واليقين،
لذلك فإنّ مرحلة بأكملها تدشّن الآن، بناءً على باقة الوطن التي يمثلها هذا القرار والذي استحقه الفلسطينيُّ بجدارةٍ شعباً وقضية، ولن يكون بإمكاننا حصرُ ملامح هذه المرحلة، ليس فقط نظراً لاتساعها بما أنها ستتسع لما تتسع له حيوات شعبٍ بأكمله وتمس كلَّ مفردات الحالة الفلسطينية، النفسيية والاجتماعية والإجرائية السياسية والقانونية، على مستوى المجتمع والفرد والناس والمؤسسات والوثائق والنقد والعلاقات الدولية والإقليمية، وأكاد أعترف أنني قد تغيرت منذ تلك اللحظة ليس فقط بالانتشاء بالنصر ولكن هناك إحساساً بالتحقق، لكن الأخطر أن هذا المتغير ذا التاثيرات الشاسعة سيكون متدحرجاً ومتنامياً بعجلة رياضية أسّيّة، ذلك أن تفاعله لأول مرة في الوجدان الفلسطيني وصبغته النوعية وتراكمه الكمي سيُحدث بذاته تأثيراتٍ ونتائجَ هي ذاتها ستكون بدورها آلياتِ تغيير إضافية جديدة، إن شعباً يتحقق بهذه الطريقة بعد تجربة ليس لها مثيل على امتداد الجغرافيا وعلى مرِّ التاريخ وفي منطقة تختزن ثقافة ومعنىً فريداً سيتغير أيضاً بطريقةٍ فريدة، وأنا أراهن على ذلك