صنعاء نيوز/ بقلم/ د. جميل مجدي كاتب مختص في الشؤون الفلسطينية -
قد تبدو هذه المقالة متأخرة نوعاً ما، على اعتبار أنه جرت العادة في السياق السياسي والإعلامي العربي أن يجري تقييم الأحداث الكبرى آنياً، بينما يعمد الآخرون إلى القراءات المتأنية التي تأتي بنتائج أكثر دقة وموضوعية، ويتعلق الأمر هنا بمدرسة تحليلية تضمن أن تأتي الاستخلاصات متناسقة ومرتبطة تماماً مع المعطيات المتاحة، ومقالتنا تندرج ضمن هذا النوع من التحليل الموجز الذي يسعى إلى استنتاجات الهدف الأساسي منها هو الوصول إلى مشهد سياسي "صحي" ومنسجم مع القيم والثوابت والمصالح الوطنية العليا للشعب الفلسطيني.
في البداية ينبغي التشديد على أن حركة حماس لم تفاجأ بحجم وأعداد الذين شاركوا في احتفالية حركة فتح بمناسبة ذكرى انطلاقتها الثامنة والأربعين، لكن الذي أربكها بالفعل (وهو أمر لم تخفيه قياداتها ومفكروها) هو نوعية الجيل العمري الذي شارك، وهو جيل لم يعش ذروة الاستقطاب السياسي الحاد ولم يعش أجواء التعبئة التي بثت روح الكراهية على مدى سنوات نهاية التسعينيات والنصف الأول من العقد المنصرم، ومع ذلك فقد خرج هذا الجيل كله ربما حاملاً راية فتح ومتحمساً للغاية في الهتاف باسمها !!
هذا الأمر اقتضى من حركة حماس التداعي لورشة عمل طويلة ومركزة ومهنية لاستخلاص العبر، وأول ما يتوجب عليها عمله الان هو إجراء مراجعة شاملة لسلوك عناصر الحركة المكلفين على الأرض، وتأنيب جهاز دعوتها على تقصيره بحق جيل كامل لم يجد لنفسه مكاناً في صفوفها لاعتبارات تتعلق بالتكبر والعنجهية وروح المنتصر التي يتصرف بها كوادرها ولغة التحدي التي تصبغ لهجة مؤيديها والخشونة المفرطة في التعامل مع المواطن الذي هو بالأساس مغلوب على أمره وغير قادر على تأمين متطلبات الحد الأدنى للعيش الكريم.
الذي رشح حتى الآن أن حركة حماس ربما تشرع بالفعل في عملية "إعادة بناء" للمنظومة التنظيمية التي تعمل على التعبئة والتأطير، وتلك التي تحشد تمهيداً لالتحاق العناصر في جسم الحركة التنظيمي، وهذه العملية لم يفرضها مهرجان حركة فتح وحده، بل سبقتها مؤشرات يتابعها المراقبون بكثير من الاهتمام، مثل ظاهرة تناقص أعداد المصلين في المساجد (نتيجة انشغال عناصر الحركة بالمهمات الميدانية)، ويذهب البعض بعيداً فيؤكدون أن الملتزمين تماماً هم عناصر حركة فتح وليسوا من عناصر حماس الذين وجد كل منهم ضالته في المهمة التي كلفته بها حركته، والمواطن البسيط يتابع الخطاب الإعلامي الديني الذي يصف عناصر فتح بالمروق والخروج على تعاليم الدين ويُسهب في المدح والثناء على عناصر الحركة ذات الطابع الرباني !!
من هنا يتبين أن من سيستفيد فعلاً من نتائج مهرجان فتح هو حركة حماس على وجه الخصوص، وبالنتيجة نستبق التحليل الشامل بالقول أنه لو لم تُحسن حركة فتح توظيف هذا الجيل (الغاضب من سلوك حماس) فإن حركة حماس ستستهدفه في برنامجها القادم، وستنحاز لهمومه وبالتالي ستفوت حركة فتح من جديد فرصة هذا الإنجاز الذي لم تبذل من أجله مالاً ولا دماء، بل إنها لم تتكفل بتقديم راية أو كوفية لهؤلاء الذين دفعوا كل ما في جيوبهم من أجل شرائها وحملوا أنفسهم قوافل وجماعات من أجل الوصول مبكراً إلى أرض المهرجان في ساحة السرايا، ولكن على حركة فتح ان تعرف أن هؤلاء لم يخرجوا (حباً في علي وإنما بغضاً لمعاوية)، والسؤال هنا: أي من الحركتين ستسبق الأخرى في الوصول إلى "جيل الانقسام" الذي نشأ وكبُر وترعرع في أجواء التمزق والتشرذم والتفكك الوطني ؟؟
من أجل الوصول إلى هذا الهدف، يتطلب الأمر بنى تحتية تنظيمية وهياكل قادرة على الاستيعاب، ضمن اشتراطات ما كان (الواقع) وليس اشتراطات ما ينبغي أن يكون (الخيال)، وبتقديرنا أن بنية حركة فتح الهرمية وجفاف عودها الحي الذي يسمح بالتأطير المترامي والمتراكم تبدو عاجزة تماماً عن استيعاب هذه الأعداد، كما أن حركة حماس تبدو أكثر عجزاً عن تفهّم هذا الجيل واحتياجاته وهمومه، جيل مطالب بالصبر والجلد والصبر والانتظار بينما يرى من يطلبون منه ذلك يعيشون باختصار "ترف العيش" ويطالبونه بما يعجزون هم أنفسهم عن تحمله، هذا الجيل يتطلع إلى قيادة تلبي طموحه، ضمن مفردات واضحة تتعلق بمستقبله وسبل عيشه الكريم وتعليمه ووظيفته وسكنه وطعامه ورفاهيته الطبية والاجتماعية، ولا طائل بعد ذلك من كل شعارات الغضب والصراخ و"جعجعة الخطباء" !!
في النهاية، من الواضح أن بحر الجماهير التي خرجت يوم انطلاقة فتح في غزة، حملت معها رسالة لا تقبل التأويل تتضمن دعوة مفتوحة لكل المهتمين بضرورة نشوء "خيار ثالث" أو تيار ثالث، تيار وطني ديمقراطي، قادر على حمل الأعباء وتولي المسؤولية والاهتمام بأجيال فلسطينية تتدافع في انتظار فرصتها التي حرمتها إياها تطلعات القوى السياسية لرهن مصير الشعب الفلسطيني في أيديها ورهن حاضر ومستقبل الأجيال ببرامجها وأجنداتها التي لا تخدم سوى عصبة منها فحسب، فهل سمع الوطنيون الديمقراطيون رسالة الجماهير؟ وهل أدركوا مسؤولياتهم؟ وهل استعدوا لأخذ زمام المبادرة؟ أم ان صرخة الشباب ستظل تدوّي في الفضاء الوطني دون أن يستجيب أحد ؟! |