صنعاء نيوز/ كفاح محمود كريم -
ربما لم يتسنى لسكان بلاد الرافدين فرصة لترتيب بيتهم وأوضاعهم منذ تأسيس كيان الدولة العراقية حسب أهواء البريطانيين والفرنسيين حينما قرروا رسم خرائط دول الشرق الأوسط وكثير من دول العالم في اتفاقية سايكس بيكو وما تلاها من اتفاقيات لا علاقة أو تأثير لشعوب المنطقة عليها، أقول ربما لم يتسنى فرصة لنا مثل الآن لكي نقرر شكل بلادنا وطبيعة نظامها السياسي والاجتماعي بعد عشر سنوات من الصراعات الحادة سواء على مستوى الإرهاب القادم من خارج الحدود أو مع الدول التي لا تريد أي تطور للوضع العراقي خوفا من سقوط ضيائه على نقاط العتمة لديهم وبالذات بعد تشريع الدستور الدائم في مطلع 2005م، أو مع بقايا تراكمات تلك الثقافة البائسة التي اعتمدت التهميش والإقصاء لمكونات هذه البلاد القومية والعرقية والمذهبية، والتفرد في الهيمنة والسلطة والمال طيلة ما يقرب من مائة عام منذ تأسيس هذا الكيان.
لقد اعتمدت كثير من القوى المصابة بالرعب مما يسمى بالتقسيم، ثقافة إرهاب الأهالي من أي خيار له علاقة بحق تقرير المصير، وفي مقدمة تلك الخيارات النظام الفيدرالي الذي يعتبر واحد من أكثر نظم العالم الإدارية والسياسية تطورا كما هو واضح في العديد من تجارب تلك البلاد، حيث انها أي تلك القوى ووسائل إعلامها تشيع فكرة أن البلاد لم ترتق بعد إلى مستوى هكذا خيارات، وان الشعب ما يزال في مرحلة الرعاية الأبوية من النظام السياسي، وهو الآخر دون مستوى الاختيار أو التعبير عن الرأي، ومن يخالف هذه الفكرة أو الرأي فهو عاق ومارد ومتآمر وعميل وذي أجندة خارجية ومعادي لوحدة البلاد وسيادتها؟
كل ذلك من اجل تكثيف المال والسلطة في مركز واحد للهيمنة على مقدرات الأهالي بما لا يتفق وفلسفة الدستور التي تنص على أن نظامنا نظام فيدرالي تعددي ديمقراطي يحترم فيه الرأي وحرية التعبير والاختيار ضمن السياقات التي تحتمها آليات الديمقراطية في الاختيار والانتخاب والاستفتاء وهذا ما نحتاجه فعلا لترتيب أوضاع بيتنا من جديد بخيارات حرة ونزيهة بعيدة عن الاملاءات والتغييرات الديموغرافية، وذلك من خلال وضع قاعدة بيانات حقيقية عن أوضاع المجتمعات وانتماءاتها القومية والعرقية والدينية والمذهبية بإجراء تعداد عام للسكان والوقوف على حقيقة أحجام تلك المكونات ووضع خطط آنية ومستقبلية من اجل خيارات الأهالي في اعتماد الفيدرالية وخاصة لأقاليم البلاد الأساسية جغرافيا وتاريخيا، وهي ( كوردستان والغربية والجنوبية والوسطى ) حيث التجانس الجغرافي والسكاني والاقتصادي والاجتماعي للأهالي بما يؤهلها لرفع كاهلها على الحكومة الاتحادية من معظم نواحي الحياة وخاصة ما يتعلق بالزراعة والصناعة والتعليم والتجارة والأمن الداخلي والعدل والصحة وكثير من التفاصيل الأخرى التي تسبب ترهل الحكومة الاتحادية وفشلها، وهذا ما حصل منذ 2005 ولحد يومنا هذا.
إن قيام مجموعة فيدراليات في الجنوب والوسط والغربية وكوردستان سينتج حكومة اتحادية قوية غير مترهلة بعدد قليل من الوزراء لا تتعدى الدفاع والخارجية والمالية والثروات والعدل والصحة والتجارة وغيرها مما له علاقة بالاتحاد العراقي عموما، وبموازنات سنوية سهلة التوزيع والتخصيص حسب كثافة السكان في كل إقليم من الأقاليم بما يمنح السلطات الاتحادية مساحة أوسع للعمل بعيدا عما يحصل سنويا في مناقشات الموازنة وتأخيراتها التي تترك آثارا بالغة على تنفيذ المشاريع والأعمار والبناء، ويتيح مساحات واسعة أمام تلك الأقاليم لاختصار الزمن في النهوض الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي بعيدا عن بيروقراطية الدولة كما هو الحال اليوم في معظم محافظات البلاد خارج إقليم كوردستان التي تعاني من تقهقر كبير في معظم الخدمات الأساسية، ولعله من المفيد أن تكون تجربة إقليم كوردستان نموذجا يحتذى به رغم وجود نقاط خلل هنا وهناك الا انه استطاع مع وجود تلك النقاط الضعيفة ان ينهض خلال اقل من عشر سنوات نهوضا كبيرا ربما فاق في تفاصيله كل ما فعلته الدولة خلال ما يقرب من قرن من الزمان لهذه المنطقة.
إن واقع الحال يرسم مشهدا عراقيا يتكون من ثلاث مكونات رئيسية هي السنة والشيعة وكوردستان، وقد تبلور واتضح ذلك المشهد السياسي والاجتاماعي والمواطني بشكل جلي في أول انتخابات حرة ونزيهة مارسها الأهالي منذ عقود طويلة، فكانت لدينا ثلاثة كتل رئيسية مثلت هذه المكونات وهي كتلة التحالف الوطني التي ضمت معظم الفعاليات الشيعية، وكتلة العراقية التي احتوت هي الأخرى بصرف النظر عن بعض الادعاءات هنا وهناك المكون السني، وكانت منذ البداية الكتلة الكوردستانية أكثر وضوحا في تمثيل خيارات السكان، ولذلك فقد آن الأوان أن نتجه بشكل جدي وعملي إلى ترتيب البيت العراقي بعيدا عن المزايدات وثقافة المؤامرة بما يحفظه ويقوي أركانه ومكوناته، بعد أن فشلنا كفعاليات سياسية واجتماعية تمثل مكونات البلاد الأساسية قوميا ومذهبيا من التعايش تحت ظل دولة مركزية تحكمها الأغلبية السياسية المؤدلجة في انتمائها العرقي أو العقائدي الديني، ولكي ندرأ عن مجتمعاتنا شبح الحرب الأهلية طائفيا أو قوميا والتي ستأتي على البلاد برمتها.
[email protected]