بقلم/ علي ناجي الرعوي -
ليس اكتشافاً جديداً ولا ينطوي على براءة اختراع القول أن الأزمات التي توالت على اليمن خلال العقود الماضية وتفاقمت اكثر مطلع عام
2011م قد خلقت بيئة سياسية مأزومة تصر على إبقاء المجتمع اليمني رهن تأثيراتها, حاله حال نزيل في سجن انفرادي لمدة طويلة .. ومن
الواضح أن هذه البيئة السياسية المأزومة هي من تفرز أعراضها المرضية اليوم من خلال ذلك الجدل السياسي والإعلامي الدائر حول وثيقة
الضمانات والحلول للقضية الجنوبية والمقترحة من المبعوث الأممي جمال بن عمر حيث وان أسوأ ما في هذا الجدل أنه الذى كشف عن أن من
دخلوا الحوار من المكونات السياسية والحزبية والاجتماعية لم يذهبوا إلى ذلك الحوار بنوايا صادقة وحريصة على إغلاق ملفات الماضي وبدء
صفحة جديدة, تؤسس لدولة عصرية وحديثة تقوم على العدل والإنصاف والمواطنة المتساوية وإنما تقاطروا إلى (مملكة الموفنبيك) بهدف توزيع
ميراث (اليمن المريض) وتقاسم تركة دولته الموحدة التي كانوا جميعاً وراء كبوتها وما حاق بها من أخطاء وتجاوزات وانكسارات ومظالم.
ولان هذه النخبة التي علق عليها الناس آمالهم لوضع خريطة المستقبل قد تدافعت إلى مؤتمر الحوار وعيونها متسمرة على تقاسم المصالح والمغانم
فإنها التي أخفقت وفشلت فشلاً ذريعاً في التوافق على وثيقة وطنية من نتاج إبداعاتها وأفكارها لحل القضية الجنوبية وغيرها من القضايا العالقة في
اليمن قبل أن تختلف على وثيقة جمال بن عمر وتنقسم بين مؤيد لها وبين متحفظ عليها وبين رافض لمضمونها بالمطلق ولا ادري كيف يمكن
لمثل هؤلاء السياسيين الذين اخفقوا على مدى اكثر من عشرة اشهر في صياغة وثيقة كهذه أن يثقوا ببعضهم البعض اذا كانوا بهذا التفكير القاصر؟
وكيف يمكن للشعب المبتلى بهم أن يمنحهم ثقته وهو من يراهم يتبادلون الاتهامات والتخوين قبل أن يجف حبر الكلمات التي كتبوها فيما
بينهم ؟ والأكثر من هذا كيف لنا أن نصدق بان رفض الحزب الاشتراكي لتقسيم الجنوب إلى كيانين فيدراليين ينطلق من حرصه على وحدة
الجنوب وعدم تفتيته إلى مقاطعات ومشيخات وسلطنات ودويلات قبلية فيما هو في المقابل يقبل بتقسيم الشمال إلى أربعة أقاليم, مع أن مساحة
هذه الأقاليم لا تتجاوز مساحة محافظة حضرموت لوحدها ولماذا لم يعترض على هذا التقسيم الذى وصفه بالارتجالي وانه الذى لا يقوم على أي
أساس واقعي؟
وكيف رضي الإصلاح التوقيع على وثيقة بن عمر وشريكه في (منظومة المشترك) التنظيم الوحدوي الناصري متحفظ على تلك الوثيقة التي قال
عنها أنها تؤسس لهوية جنوبية وهوية شمالية داخل كيان الدولة وإنها التي تنتهك حقوق المواطنة المتساوية وتفتح أبواب التمزق والاقتتال بين
اليمنيين أن لم تؤدِ إلى تفتيت اليمن إلى عدة دويلات بدلاً عن الدولة الواحدة وكيف غابت هذه المأخذ الجوهرية عن الإصلاح المعروف انه
الذي قال في وقت مبكر اذا ما تم الاتفاق على الانتقال إلى دولة اتحادية فانه الذى لن يسمح بأي تغول على المواطنة المتساوية؟
وفي الجانب الآخر كيف قبلت بقية الأطراف بتلك الوثيقة اذا ما كانت بحسب وصف المؤتمر الشعبي العام ترقى إلى مستوى الخيانة بالوحدة وانه
في احسن الأحوال ستجعل من اليمن غداً شيئاً من لبنان الماضي وشيئاً من صومال الحاضر لكونها أشبه بصيغة تجمع المتناقضات من اجل إرضاء
المتناقضين على حساب اليمن الذى سيتقسم على قوى الأمر الواقع .. واذا ما كانت هذه هي مخاوف بعض الأحزاب والتيارات السياسية من
الفيدرالية والدولة الاتحادية فلماذا قبلت بالمبدأ أصلاً ولماذا ظلت تتحاور كل هذه الأشهر على موضوع تحوم حوله الكثير من الشكوك
والهواجس.
وبالوقوف على هذه الحالة من التخبط واضطراب المواقف نجد انفسنا أمام نخبة سياسية هي مثل حبات العقد المنفرط لا يجمعها جامع ولا يحدد
مسارها طريق مرسوم بل إن أطرافها يتعاملون مع قضايا الوطن كعازفين بغير ضابط إيقاع ينظم حركتهم وينسق بين نغماتهم, مما يعني معه أن من
وافقوا على وثيقة بن عمر وافقوا لغايات حزبية وان من تحفظوا عليها تحفظوا لأهداف سياسية ليبقى المواطن وحده حائراً بين الجميع لا يدري
من يصدق وسط صخب سياسي وإعلامي يتبارى في معركة التفسيرات والتفسيرات المضادة ومن الطبيعي في بلد تعددي وديمقراطي أن يظهر
مثل هذا الجدل خصوصاً اذا ما علمنا بان وثيقة بن عمر هي من غلب عليها الغموض والمصطلحات الملتبسة فهي من ناحية تتحدث عن دولة
اتحادية تتكون من أقاليم فيما نجدها من ناحية أخرى تشير في بعض فقراتها إلى شمال وجنوب وهويتين ومواطنين ستجمعهم جنسية مشتركة
ناهيك عن أنها التي لم تضع اعتباراً لمبدأ المواطنة المتساوية عندما أكدت على أن يتضمن الدستور الاتحادي آليات تنفيذية وقضائية وبرلمانية
من اجل حماية المصالح الحيوية للجنوب وهي الآليات التي قد تتضمن كما جاء في هذه الوثيقة حقوق النقض وتمثيلاً خاصاً يقوم على معادلة
المساحة والسكان وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن الجنوب سيتمتع (بفيتو) يمنحه الحق بالاستقواء على الشمال في المستقبل.
وإذا ما كانت بنود هذه الوثيقة في مجملها تشكل دعوة صريحة لإعادة التفكير في العلاقات بين الشمال والجنوب فأنها في بندها الثاني تشرعن
لحق الانفصال لأي جزء من أجزاء الدولة الاتحادية ويفهم ذلك من النص الحرفي لهذا البند القائل :
(الشعب في اليمن حر في تقرير مكانته السياسية وحر في السعي السلمي إلى تحقيق نموه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي عبر مؤسسات الحكم
على كل مستوى ووفق ما ينص عليه العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللذان
وقعهما اليمن)
ومع أن النص لم يحدد الشعب هل هو شعب الدولة الاتحادية أم شعب الإقليم أو الولاية فانه قد منح كل منهما حق الانفصال بإشارته إلى أن
الشعب حر في تقرير مكانته السياسية وهو ما نجد تفسيره في الجزئية المكملة في ذات البند عبر مؤسسات الحكم على كل مستوى .. والمستوى هنا
هو الإقليم أو الولاية.
وبالتالي فإذا ما كان الهدف من هذه الوثيقة هو بناء دولة اتحادية كسائر الدول الاتحادية في العالم فان من الواقعية إعادة النظر في بعض بنود
تلك الوثيقة ليتسنى أنهاء اللغط والجدل الدائر بشأنها أما اذا كان الهدف منها هو التمهيد إلى الطلاق بإحسان فان من الشجاعة القبول بحق
الجنوبيين في تقرير مصيرهم وترك الشمال يعيد بناء نفسه حيث وان اختيار الجنوب للانفصال لن يمثل نهاية التاريخ أما اذا رأى قادة هذا البلد
بان مازال هناك فرصة للحفاظ على اليمن واحداً موحداً وان ترميم الشروخ مازال ممكناً فان الكرة تصبح في ملعب انصار فكرة اليمن الجديد
على اعتبار أن الأفكار العظيمة لا تموت .. فقط هي بحاجة إلى أشخاص عظام واليمن لا تفتقد لمثل هذا النوع من الرجال الذين لا نتمنى عليهم
أن يخذلونا حتى ونحن من نثق بحكمتهم ورجاحة عقولهم.