صنعاء نيوز/خالد القارني - - هناك الكثير مما يمكن قوله عن مؤتمر الحوار اقله انه أوشك أن يتحول من حوار إلى "خوار"، في الوقت الذي تسير فيه الأوضاع في اليمن مع اطلالة العام 2014 إلى مرحلة" الأزمة الشاملة" مما يدل فيها دلالة واضحة قاطعة على أن مواصلة السير بنفس المقدمات والعلاقات والرؤى السائدة مذ ما قبل فترة انعقاد المؤتمر وحتى الآن لم تعد ممكنة، كون الأزمة القائمة هي من تلك الأزمات التي تتقلص فيها الخيارات إلى اثنين لا ثالث لهما: إما الغرق في الأزمة والدخول في ظلمات الرعب والجوع والضياع، وأما تجاوزها إلى وضعية جديدة تماما، انطلاقا من التفكيك الواعي الهادف للوضعية القائمة المأزومة، والشروع في عملية بناء جديدة بمنطلقات واستشرافات جديدة، لا تكرر نفس اخطاء المبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار والتقاسم الحزبي وتقديم المصالح الضيقة على المصالح العامة، وكلها الآن تطفو فوق السطح.
ومن المؤكد أن المحاولات الجارية اليوم للإفلات من قبضة الأزمة الراهنة لا يبعث على الاطمئنان إلى أن مسيرة التغيير هي فعلا بصدد تثبيت مجراها على الطريق الصحيح. ذلك أن كثيرا من تلك المحاولات سواء التي تبذل داخل موفنبيك في جو من الصخب والتدافع، أو ما يعتمل خارجه من تحركات شابها خجل وتمنع، ولا يؤسسها ولا يرافقها ما يكفي من إجراءات تعيد ثقة الشعب بنفسه وبدولته وحكومته ونخبه. ويأتي في مقدمة هذه الإجراءات وضوح الرؤية كشرط ضروريا في نجاح أي عمل، باعتبار أن الرؤية الواضحة لا تنبثق إلا عبر قطعية مع الرؤى القديمة وتصفية الحساب معها نهائيا من خلال قانون العدالة الانتقالية، وبناء الدولة الوطنية قبل مشاريع الاقلمة.
والحاصل الآن هو أننا نرى تصادما حادا في الواقع والأهداف داخل مؤتمر موفنبيك، فضلا عن أسلوب العمل ومداه في إطار "القديم" وبوسائله القديمة. وفي هذا السياق جاءت وثيقة بنعمر كاشفة لعدم قدرة القوى على صنع اتفاق وطني ذاتي، و لحالة العجز والقصور والسجالات التي تحركها دوافع خاصة هدفها التضليل عن الحقيقة، تارة تضخم أشياء وتارة تقلل من أشياء، ويكفي النظر إلى الكيفية التي يتم بها التفكير الآن في قضايا الوطن سواء في صفوف المطالبين بالتغيير من وحدة اندماجية إلى وحدة اتحادية من ستة أقاليم، أو في صفوف المطالبين بإقليمين على أساس جغرافيا ما قبل 22مايو، أو في صفوف الممانعين أو المترددين لهذه الخيارات، و التي نجد في طيها اختلافا في المرجعيات لا حصر لها كافية أن تجعل من هذا الحوار حوار "طرشان" ، لا نتمنى معها أن يتحول إلى اشتراك نخبويا في وليمة احتكار شعبا سحقته المعاناة اليومية.
إن الخيارين اللذين تضمنتهما وثيقة بنعمر أو غيرهما من خيارات الدولة المركبة جميعها في هكذا ظروف تؤكد أنها تقر بأن خطوة من الانفصال بل و من التمزق لسبب بسيط هو أن الدولة الاتحادية الديمقراطية تستوجب قبل قيامها ضرورة وجود "الدولة الوطنية" كشرط أساسي قطعي غير قابل للنقاش وبدونها تعتبر العملية حرق مراحل وهذا ما نقوم به اليوم، اذ لم نصل بعد الى إيجاد الدولة الوطنية، وبالتالي هذه الحلول ستزيد اوضاعنا تعقيدا، لأن صراعنا اليوم ليس على جسم الدولة بل على "رأسها" ولا زال القانون الذي ينظم عملية الامساك بالرأس هو قانون " الغلبة"، ومؤشرات المتغير في واقعنا لا يوحي بقرب نهاية هذا القانون، وتفسير هذه الفوضى الشاملة والعارمة في أوضاعنا تقودنا إلى أن هناك عملية "حبك غير ظاهرة لاستبدال "غلبة بغلبة".
ومن هنا نحن أمام نتيجة لن تكون أكثر من توزيع قانون "الغلبة"، او يمكن تسميتها عملية "هيكلة الصراعات" على مستوى الأطراف والمركز ، ومع ضعف الأخير سيؤدي في نهاية الأمر إلى انفصال الأطراف والمركز معا. وهذا احتمال وارد خاصة وان ثقافة الغلبة هي السائدة في المجتمع حيث لا أثر ملموسا بعد لثقافة الاختيار الحر والندية التنافسية، ففي كل يوم نجد ان مجتمعنا لديه قابلية كبيرة للرجوع الى قضايا واحداث ووقائع حدثت قبل عقود بل وقبل قرون ويتعامل معها وكأنها من قضايا حاضره، وهذه حقيقة لا ندري لماذا لا تأخذ بعين الاعتبار دلالاتها وعلاقتها مع ما نرسمه من تصورات وخطط بما يساعدنا على اخراج اليمن المثقل بالتجارب الفاشلة والاوجاع القاتلة والمؤلمة؟!.
ويجب ان نقدر عاليا جميع الرؤى التي قدمت في مؤتمر الحوار الخاصة بشكل الدولة الجديدة كونها تشكل اضافة جديدة وعملية في سلم محاولات تاريخية ارادت تحقيق مشروع نهضوي حقيقي لليمن لكن الاحلام دائما في صدام مع الواقع ، ومع ذلك تبقى مؤثراتها الايجابية المحدودة في تطور المجتمع المادي والفكري ولا تخلو من فائدة، غير ان الظروف لبناء دولة اقاليم مقتبسة من تجارب غيرنا تكاد تكون منعدمة في واقعنا المعاش وقد ذكرنا آنفا بعضا من العوامل المانعة ونضيف هنا ايضا ندرة النوايا والقناعات الصادقة، وغياب الارادة السياسية الجامعة لبناء الدولة الوطنية قبل الاتحادية ونجد دلالاتها في منهجية القوى السياسية القائمة على ان لفلسفة العمل "ظاهر وباطن" مما زاد هذه المواقف صراعات وصدامات فيها السلم والتعايش مغيَّبان. وأيضا شحة الإمكانات الاقتصادية والمالية خاصة في حالة أكثر من إقليمين.
كما أن النظرة إلى الآخر باستعلائية متبادلة، تشير إلى تضخم عقدة التمركز والمركز، و تكشف أيضاً عن تشنج واحتقان كبير في جسم العلاقات المجتمعية، أدت إلى مسالك كثيرة وعديدة وإلى تعميق التفاوت وترسيخ نزعة الهوية المختلفة توهما لا حقيقة لأن الموجود تنوع ثقافي في إطار الواحد و هو اليمن، غير أن مقتضيات المصلحة السياسية الضيقة للبعض، جعلت من الهوية سلاحا أيديولوجيا لحسم الصراع السياسي اليوم، وذلك طبعاً جعل من الترقب المستمر والاحتراز والتربص الدائم خطوطاً دفاعية اضطرارية سعى كل طرف تقريباً، إلى إقامتها لاسيما في الوقت الراهن الذي غابت فيه الدولة التي تسوس الوطن وتدبر أموره، و تبسط نفوذها وتفرض استيلائها وسيطرتها على الجميع.
وفوق هذه التشبيهات التي نعتبرها معيقة لرؤية الأقاليم حاليا إلا أنها لن تمنع تنفيذها لأن المسألة مرهونة بالدور الدولي الحاسم قبل المحلي الذي لن يسمح بأي حلول تتعارض مع مصالحه في المنطقة، علاوة على ذلك لم ولن يسمح لأي جماعة أو أفراد أن يصلوا إلى سدة الحكم ممن يشكلون خطرا على مصالحه، و ترحيبه بهذه الاتفاقية رغم معارضة الكثير داخليا يؤكد هذه المسلمة، وبدون الاعتراف بها سنجد الدود ينخر الشجرة من الداخل، و في هذه الحالة سنُشاهَد حالة من الحروب الدائمية داخل المجتمع. و لن تكون مجرد حروب اعتيادية، بل الحروب الأخطر والأضرس داخل المجتمع، في كافة مؤسساته وعلاقاته. ويبدأ المنطق الذي مفاده: "الإنسان ذئب الإنسان" بالفاعلية كلياً. |