shopify site analytics
وزيرة داخلية ألمانيا: منفذ هجوم ماغديبورغ له مواقف معادية للإسلام - ألمانيا تجاهلت تحذيرات السعودية من منفذ هجوم ماغديبورغ - تجهيز الخطة السنوية والموازنة العامة لمكاتب هيئة الأوقاف بذمار في ورشة عمل - مكاسب تركيا من التغيير في سوريا - من بين 43 جامعة يمنية،، جامعة عدن تحصل على الترتيب الثاني - تحقيق "هآرتس" الإسرائيلية - إدانة ممارسات نقاط الحزام الأمني في عدن - انه يكسب الوقت يا غبي - سورية ليست قندهار - السيد القائد عبد الملك...نرى فيك سيد الشهداء نصر الله ...يا "إخوة الصدق" - حرب الإبادة وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره -
ابحث عن:



صنعاء نيوز -                        مهند التكريتي

الأربعاء, 19-مايو-2010
مهند التكريتي -



مهند التكريتي [email protected]

لكي تأتي بالمفردة التي يشيب الزمن على قارعتها من دون أن تشيب تنزف سندريلا القصة العراقية كما يحلو للبعض أن يسميها وعبر رحلتها المرحلية مع الكتابة .. دما ً عبر سرابات الأحلام وأسراب الفراشات حيث يصبح الحلم مبدئا ً لتزامن جوهري يكتسب فيه جسد النص – الكائن الأكثر تفككا ً وتشتتا ً - عناصر وحدته البنائية من خلال تحويره وتعديله حتى يخرج في النهاية إلى الصورة التي لم يكن على وعي منها بها قبل ولادته على حافات الورق الوعائية .
إن الكتابة وفق مفهوم مروة خارطة تخرج من خاصرة الأضواء لتفترس شرفا ً أسطورية لا يطاولها الضوء شبيهة بشرف قريبتها رشا فاضل إلا أنها تتميز بمسحة رومانسية حالمة تتوضح فيما تجيد كاتبتنا الرقيقة أن تنسجه باصابعها الرقيقة وهي تناغي أميرها الحاضر الغائب ، الذي تسنم الكثير من نصوصها الجميلة .. بطريقتها التي امتازت بغرائبية التأمل وفنتازية الأنتظار ، حيث تأخذنا في متاهات مدنها الزجاجية التي تسكنها الأحلام وتسافر على أشرعتها سرابات فراشتها المدججة بسخط الأسئلة ، فتتماوج الأحداث في معظمها لترسم لوحة ً تشكيلية ً سلسلة ً أحيانا ً ومركبة ً حد التعقيد أحيانا ً أخر ، لتحل في قلب المتلقي البسيط وتغرس مرساتها به فتضل تحفر فيه حتى تضيق وتترسخ .. حيث يتكور المساء عند مسلات أحلامها فتستوطن الآمال في كيانات أروقة ثرة بالمفردات ، تتعرى أمام جماليات الوصف فيها مسامات العقول ، فيحس القارئ وهو يلوب بين مداراته بأنه أمير من دون امارة- كأميرة الرمال التي تحدثت عنها رشا فاضل في احدى قصصها - الأمارة الوحيدة التي لا ينازع عليها أحد ولا يُستولى على حصة من فيها فهي إمارة للجميع - تنسل فيها الأمنيات لتغيب في لهاث هيستيري في قارورة العقل كأنسياب إخطبوط أخرج الى اليابسة من الماء ، حيث أمواج البحر تعربد بين حنايا الأفكار وتحاول أن تحضنها بأذرعة العشق الذهبية أو تبتلعها في ثقوب جدار شفه الانتظار لتعيد تكوينها وخلقها من جديد .
لقد إختارت كاتبتنا أن تعبر بالذات عن شوارد الذات فتارة تلبسه رداء حبيب مهاجر كما في قصتها الموسومة بـ( الصعود الى قاع الحلم ) علقت بباله ( فتاة ) طالعها ذات مساء، بوسادة الأمنيات وتارة تلبسه رداء الذئب الخائن الذي علق بذهن فتاته المشتاقة إليه وهذا مانتلمسه واضحا ً في قصتها المعنونة بـ ( عزف منفرد على اصابع الوقت ) لتعانق غصة لم تستطع ان تتماهى ووهج حياتها الواقعية وتارة تلبسه رداء الأسير الغائب أو الشهيد المنتظر أن تحل ولادته الثانية من أتون دمعات اشتياق زوجته الملتاعة وغيرها من الشخصيات التي يمكن أن تفصح للقارئ البسيط وغير المتخصص بخبايا المتاهات المسرودة بالعديد من الشفرات التي تم توظيفها بشكل يتمتع به القارئ وهو يمارس رحلته في الكشف عن خباياها ، فهي مبنية بإطار وصفي متفرد في الشعرية لتسلم نفسها لجميع المستويات بلا تفريق وأن لا تبقى معلقة لتستقبل وتفهم من قبل قراء تعودوا على قراءات نوعية متخصصة لفهم خطابها الكامن خلف حواجز تجسيدية تحتمل في تأويلها لأكثر من معنى وبحسب طبيعة المتغير المطروق في تناول جدرانها المترادفة ، المطرزة بصورها المكثفة بتجارب الحياة من خلال تحويل عوالمها السردو- وصفية إلى عوالم تجسيدية خالصة تتحقق على جوانب رؤاها الطاغية في التمثيل الموظف لتعميق الأثر المطروح في بلورة وتعزيز الأفكار المطروحة من خلال تحقيق متواليات هندسية ذات غايات آنية خالصة في محتواها وطبيعة الهدف الموضوعة لأجله .
وإذا كانت غاية الوصف وحسبما وضحه الفارابي هي فيما توحي به من مواقف سلوكية مدفوعة من قبل الكاتب إلى مخيلة المتلقي الخصبة من خلال توضيح لقطاته المتفردة في الوصف المحفز لتداعيات مدروسة في تناسقها التخييلي المشترط لإظهار عقدة النص في إبراز وظيفته الافهامية وتحقيق وظيفته الانفعالية وهذا هو مايميز نصوص مروة
،اذ لم تكن الكتابة عندها في يوم من الأيام ترفا فكريا ً أو سياحة غير مدروسة على زوايا و سطور الورق الموصودة وإنما كانت ومازالت نزفا ًداخليا ً، ومخاضا ً فكريا ً، ويبرز ذلك بوضوح من كون نصوصها المعروضة بصيغها الذاتية القريبة إلى طروحات النصوص الحكائية المبنية على سياق تراصفي تتماهى في محتواها بالوان ( فتاتها البرية ) وبتنافذ رائع بين عوالمها المتصلة في تبني النسيج الواقعي المزاوج لعالم الكاتبة الحلمي من خلال استيعاب الأشياء والرؤى المشكلة لهوية النص المكتوب سواء أكان شعرا ً أو قصة أو رسالة من خلال تشكيله حيزا ً زمكانيا ً واعيا ً تتمظهر فيه الأشياء متلبسة برداء المؤثرات الشيئية وتأثيرات الحركة الهلامية المتماسة وقوانين عالمها الواقعي .. ان تعمق الفضاءات السردية وتعدد ابعادها يقتضي توفير ادوات ومنظورات جمالية لئلا يتحول النص الى محض مغامرة تعوزها الصنعة والابداع وهذا ما امتلكته بالفعل ، وكذلك فأن هذا الامر يتطلب مهارات ذوقية ومعرفية متخصصة لئلا تتحول المتتاليات الهرمونيكية ( المتناغمة ) الى لعبة شكلية يغلب عليها طابع الالتباس والغموض والارتباك في بعض الاحيان لصعوبة الاشتغال – او كما تنظــّـر قاصتنا عليه بـ((العزف)) على الفضاءات والتهويمات التي تتناسق في طرق اغلبية نصوصها- عليها .
ولاشك بان تعدد طرق الروي التي تتبعها بتعدد الناحي التي تختارها القاصة لشخوصها كان له الدور الأكبر في تمييز كتاباتها وعدم تخندقها في خانات الكتابات المكررة والمنسوخة.الأمر الذي كان بامكانه أن يسقطها في هوة من فوضى تداخلات الخلط الأسلوبي المكرر بلقطات كامرتها المفرداتية و المكرس بلاوضوحية رؤيتها النقدية عند كتابة نصها الإبداعي
ان الطريقة التي مورست فيها نصوصها اتسمت بالتفرد الشعري الصرف ، الموثق بتناغمية وصفية عالية – قد يعيبها البعض – الا انها شكلت منحنى واضحا لتحطم بعضا ً من أعراف الكتابة التقليدية للأثر السردي المتداول في معظم النصوص القصصية الحديثة مما شكل نوعا ً من الانتقال الى النص الكولاجي الذي يحوي خليطا ً متنافرا ً لمتضادات ومتغيرات مجموعة بحبكة نادرة على شكل رسم تخطيطي في صفحة من دليل سياحي يرتشف منه القارئ نوعا ً من التمتع الانتشائي الذي نظــّر عنه كونديرا في احدى مقالاته .. وهذا اذ يدل على تحرر الوعي المنفتح لقاصتنا من منطق التطور الايدلو- داخلي للنص وبالتالي فانه سيساهم في فتح قلاع جديدة تهدف الى خلق دهشة ما أن يتم تجاوزها حتى يسقط المتلقي في دهشة سردو – وصفية جميلة وهكذا تستمر ولادة نصوصها نصا ً تلو الآخر كدليل على استثمار واسع لمجموعة المفردات الانثوية الحالمة المسبوكة داخل مشغل سردي من نوع خاص ..مشغل ٍ مضمخ بتلوينات برية لكاتبة النص النفسية والذي يحاذي في تطلعاته الشعرو - سردية لغات النثر التأملي والتي قد تصل في بعض مقاطعها الى حدود التشويش الانتقائي المغمس بكثافة تعبيرية واضحة تبدأ من مفردة العنوان المنتقاة لمدونتها الموسومة (ترانيم من زمن الحب الحرب ) وتنتهي بآخر عبارة تنهيها
ومن الملاحظ من اسم مدونتها - الأفتتاحي للدخول الى عالم قاصتنا السردي – فأن عنصر الحرب المزاوج مع نقيضتها في العنوان يشرّع في تكوين منظومة جديدة تتألف من ثنائية الحب والحرب وهي ان كانت متجانسة في تشكلها الا انها تتشتت بدخول عناصر غير منظورة تفتح امام متصفحه رؤية بانوراميا لكثير من المشاهد .. ولا أريد أن أطيل عليكم سأترك المجال من هذه اللحظة لكم لتخوضوا تجربتكم مع نصوص .. كاتبتنا الرقيقة ، ولتقوموا باستخراج اكتشافاتكم الخاصة بمستوياتكم القرائية ، وبحسب الأمكانيات المملوكة لديكم لأختراق أغلفة وعقد النصوص المطروحة في المدونة آنفة الذكر .. مع خالص الود


أقسام المدونة :-
( أ )

المدونة القصصية


( 1 )


لماذا اشعر ان لحظات التوحد ..
والاندماج فيك باتت موجعة ..
وانك استحلت سراباً يتراقص امامي ،
حيثما اشحت بوجهي ؟



عزف منفرد على أصابع الوقت








الساعة تلوك الثواني ببطء ، وهي تزداد التصاقاً بالحائط لتعلن العاشرة مساءً. الجميع جالسون أمام شاشة التلفاز بانتظار المسلسل اليومي .. وقد أحال الصمت غرفة الجلوس إلى متحف للشمع . ماتت الأصوات وتلاشت مع ظهور المذيعة على الشاشة . تداخلت الوجوه وتلاحمت فيما بينها . لا شيء يتحرك فيهم سوى اللهفة في العيون المترقبة . وحدها تشعر بما يشبه دبيب النمل يسري في أطرافها.. ويخدرها . تنهض من بينهم وتنسل إلى حجرتها . تفتح ستارة شرفتها المطلة على نهر دجلة . تطفئ النور .. وتندس كالريشة في سريرها . يطل القمر خلف نافذتها وجهاً حزيناً- كنقطة بيضاء يتيمة في لوحة معتمة . تمد يدها – كعادتها كل ليلة – لتدير جهاز الراديو. يأتيها صوت (ميادة الحناوي) من بعيد :
-أنا ألي بحلم كل ليلة بيك .. و وحشني وحشني منك كل حاجة فيك .

تنسدل جفونها على اثر دمعة انسابت فوق وجنتيها . تتلاشى الصور من أمامها كومضة ضوء . تتوحد الألوان في لون غريب واحد . يغيب القمر ونوره الفضي.. ولا تبقى سوى العتمة .

رنين الهاتف يفزعها . تعتدل في فراشها وقلبها يخفق بشدة . ترمق ساعتها المنضدية بعين نصف مفتوحة . ما زالت تشير إلى العاشرة . ترفع السماعة وهي تمسح النعاس من عينيها .
- الو
- ندى ؟
- نعم .. من المتكلم ؟
- مشتاق
يتسارع نبض الخافق الصغير . يطير النعاس من عينيها . أتراها تحلم أم أن ما تسمعه حقيقي ؟
- مشتاق ؟ !
- اشتقت إليكِ .
- …
تردد في سرها : مشتاق ! مشتاق ! مشتاق !
- ندى .. ! الو .. الو..
- …
تتركه يناديها من دون أن ترد .

- مشتاق .
- يا عيون مشتاق .
- عدني بشيء .
- أعدكِ .
- ألا تعرف بأي شيء وعدت ؟
- لكل شيء تريدين .
- بل عدني أن لا تتخلى عني أبداً .
- أعدكِ .

تفيق من صدمتها .
- مشتاق ! هل أنت حقاً مشتاق ؟
- …
- الو .. الو .. ! مشتاق !

تعيد السماعة إلى مكانها . يداها ترتعشان . تمر الثواني ثقيلة مملة . تصلي في سرها .. تتوسل الهاتف الأخرس أن يرن من جديد .

في البقعة الفضية – التي تغمر ارض الحجرة وفضائها – تجلس القرفصاء. تفتح أدراج المكتب . تقلب في أوراقها القديمة ، من دون أن تعي سبباً لذلك . أكداس الورق تبعثرت وغطت ارض الحجرة . تتمتم بأسى :
- أي جرح بهي مزق كفنك في أعماقي ؟ أنا التي أقسمت على حرق رفاتك في معبد بوذي قديم ، تفوح من جدرانه رائحة البخور ودم القرابين .. !
يجيبها صوت ( ميادة الحناوي ) القادم عبر مديات نائية :
- أتمنى أنسى حبك .. ألقى النسيان أماني . يلي مكتوب لي احبك بعد عمري كمان . وأنت مكتوب لك يا بختك نعمة النسيان .. يا قلبك !

تمر لحظات يأس موجعة . تنهض من الأرض . ترمق الهاتف الأبكم . تمعن النظر في القرص المستدير . تغمض عينيها وترفع السماعة . وكضرير تتلمس فجوات القرص بأناملها ، ثم تدير الرقم . تظل مغمضة العينين وهي تنصت إلى وجيب الخافق الصغير . على الطرف الأخر يرن الهاتف من دون أن يستجيب لندائه أحد . تفتح عينيها . توهم نفسها بأنها أدارت أحد الأرقام خطأً، وأنها فقدت مهارتها في طلب الرقم من غير النظر إليه . تدير القرص مرة أخرى – بعينين مفتوحتين . يرن الهاتف على الطرف الأخر من دون أن يستجيب له أحد . تحس بشيء يتآكل في صدرها . تفتح باب الشرفة . يتدفق الهواء إلى داخل الحجرة . تستنشقه بشهقة محمومة . تستند بذراعيها على إفريز الشرفة . ترمق الفنادق المتوهجة كقطع الياقوت ، والشوارع الغارقة في الأضواء والصخب . تخرج من قمقمها .. تسير خطوات قليلة ، ثم تنعطف لتدخل أحد الأزقة المظلمة . تسير بحذر وسط عتمة الزقاق – الذي تحفظ مكان كل حجر فيه . أمام منزل عتيق ومظلم – وكمن يقف أمام قبر عزيز – تقف . تحني رأسها متكدرة . تظل صامتة لثوانٍ ، ثم تمضي في عتمة الزقاق .. مستبيحة حرمة النوافذ المشرعة .. وهي تتلصص من ورائها بحثاً عن ماضٍ يتكور العمر فيه . تسمع همسات وهمهمات تنضح من جدران المنازل العتيقة . تخرج من الزقاق – الذي يشبه نفقاً مظلماً – إلى عالمٍ أخر براق .

الشارع قطعة لحم بشري . المارة يسيرون ببطء وتثاقل . وهي تائهة وسط الكومة التي تتحرك بمشقة . خطواتها تنتحب بصمت وهي تذرعها في الشوارع الممتلئة الفارغة . تتمنى - للحظة - لو ينمو لها جناحان تحلق بهما فوق المدينة، لكنها تدرك أن زمن المعجزات انقضى .. وأنها لا تملك سوى قدميها . تسير وعيناها ترمقان الوجوه – كل الوجوه – لعلها تجده بين أحدها . تتوقف أمام محل للساعات . تلتفت إلى الوراء ، ثم تلقي نظرة على الساعات المعلقة على الجدران وهي تقضم الدقائق بنهم .. لتعلن الثانية عشرة .
- منتصف الليل .. !
آن لسندريلا أن تعود . يجب أن تسرع بالعودة قبل فوات الأوان . قبل أن يختفي كل شيء ويتلاشى كالحلم .. الزقاق . البيت .. وحتى القمر .

تعود لتتخبط في الزحام .
- أتراني أستطيع أن أميز وجهك يا مشتاق وسط هذه الحشود . وبعد كل تلك السنوات ؟
درب العودة صار طويلاً .. والبحث أضحى مضنياً . تدخل الزقاق ذاته . ترفع رأسها إلى السماء . القمر غادر مكانه ، وترك صفحة السماء لتتشح بالسواد . الزقاق اصبح اشد ظلمة . بدأ الخوف يتسلل إلى قلبها . تشعر بأنياب ذئب رمادي تطاردها . تعدو .. وتعدو .. وقلبها يخفق من دون توقف . البيت يلوح لها من بعيد . أنواره تنير ما تبقى لها من النفق المظلم . تعدو مسرعة إليه . تود لو يضمها إلى صدره بذراعين من لحم ودم . ترفع رأسها إلى السماء بوجه مغمور بالامتنان . تلمح صورة ضبابية لوجه يبتسم لها . تمد يدها إليه .
- مشتاق ..
يقترب الوجه منها . يقترب اكثر. تكاد أطراف أناملها تلمسه . تجحظ عيناها وهي ترى وجه الذئب الرمادي .. بأنيابه التي يتقاطر منها لعاب لزج .. يلتصق بها . تشيح بوجهها وتصرخ .

تفتح عينيها .. تتلفت حولها . ترى نور الشمس وقد تسلل إلى حجرتها على الرغم من سمك ستارتها . تسمع ساعتها المنضدية تعلن الثامنة صباحاً . تنظر إلى نفسها وهي تحتضن دميتها – دبها الصغير – حيث ما زال يغط في نوم عميق بين ذراعيها .




( 2 )



عندما يصبح الالم شجرة خضراء ..
وارفة الظلال ..
تثمر ..
وتتكاثر ..
يصير العالم جحيماً لا يطاق .


مسـلّة الغــربان


يتسلل الفرح هارباً من عيون عشرات الصغار لحظة تمزق كفن المومياء.. كاشفاً عن شكلها القبيح . اشيح بوجهي بعيداً حتى لا ابصرها ، ويتقي الاطفال شكلها المرعب بأيديهم الندية ، لكنها تقف امامنا . تحاول ان تفقا عيون الصغار. اضرب عظامها المهترئة بكفي .. تتهشم وتتساقط على الارض فتاتاً .

يرتعش الهلع في عروقي ، فأركض مع الصغار في كل الاتجاهات . افتح الابواب الموصدة في وجوهنا .. اضغط مقابس النور بحثاً عن مخرج يخلصنا . افتح احد الابواب ، فيفضي بنا الى قاعة كبيرة .. جدرانها بيض ، سقفها .. ارضها .. حتى بوابتها العملاقة – كلها بيضاء . اتسمر امام البوابة العظيمة شاخصة البصر . عليها نقش غريب .. لا .. ليس نقشاً ، بل كلمات مذهبة :
الامــان نعمة فلا تبددها
يقرفص الصغار على الارض . يلهثون من التعب . يتمدد بعضهم مستنداً الى ساق البعض الاخر . تمر ساعة .. اثنتان .. عشرة . يمر يوم كامل وينتهي. ندخل في اليوم الثاني . الجوع يمزق احشاء الصغار .. والعطش تمكن منهم . يصرخ طفل طالباً الماء. يموء كما تموء القطط ، ويسقط على الارض مغشياً عليه . استنجد في اعماقي بكل الذين اعرفهم . اصرخ واضرب الجدار بقبضتي:
- الا يوجد مخلوق يمد يده .. ويخلص الصغار . رباه انجدنا .

ينفتح الباب الذي دخلنا منه . امسح دموعي لابعد الغشاوة عن عيني . يدخل فارس ملثم على صهوة حصان اشهب . يسير نحو البوابة الكبيرة .. ويقف قبالتها . ينزع لثامه ويلتفت الينا .
- مهنا ..! اخي !
يعيد شد لثامه .. ويفتح الباب الكبير . نور صاخب يعمي الابصار . اتقيه بكلتا يدي . نخرج جميعاً .. ويتقدمنا مهنا . الارض خواء .. لا زرع فيها ولا ماء . لا شيء سوى اكوام من الحجارة البيضاء ، واكداس عظام مخضبة باللون الاحمر ، تنتصب امام اعيننا . نسمع صرير البوابة وهي تغلق . نلتفت باتجاهها، لونها اسود.

مازال مهنا ممتطياً صهوة جواده الاشهب .. وينظر الى الامام من دون ان يلتفت . التقطُ حجراً من الارض . مكتوب عليه :
هنا يصبح الموت ولادة
يغيب النور خلف غمامة سوداء تتقدم نحونا . ينتفض قلبي هلعاً .. ويتجمع الصغار حولي . اركض – مع الصغار – باتجاه البوابة ، لكن مهنا يظل منتصباً كالجبل .. يأبى الحراك . اطرق الباب الاسود بكلتا يدي . تستوقفني عبارة محفورة عليه :
هاهنا يتلاشى النور .. ويفتح باب الى الجحيم
نبتعد عن البوابة .. تقترب الغمامة السوداء منا . تقف فوق رؤوسنا . يمتشق مهنا سيفه ، ويصيح :
- الله اكبر .
تمطر الغمامة غرباناً سود . تنقض علينا . يتلقفها مهنا بسيفه قاطعاً رؤوسها .. اجنحتها .. غارزاً نصل حسامه في بطونها . اعدو مع الصغار . اتعثر بحجر واسقط على الارض . امد يدي لالتقطه. اضرب به غراباً .. يسقط صريعاً . يفعل الصغار مثلي . اتناول حجراً اخر .. واخر ، ويسقط غراباً اخر .. واخر . تنقض الغربان على ايدي الصغار . تدميها .. تمزقها ارباً .. ارباً . يصير الحجر الابيض – في ايديهم – احمر ، لكنهم يستمرون بالمقاومة . يضربون .. يصرخون بصوت واحد يزلزل الارض تحت اقدامهم :
( ثورة .. ثورة حتى النصر
اما الارض .. واما القبر )

يسقط مهنا عن حصانه .. ويسقط سيفه ، لكن يده تمتد لتتناول حجراً ابيض . يخرج من جيبه مقلاعاً يؤرجحه في الهواء بقوة ، ثم يرمي بالحجر . يعاود الكرة.. وصوت الصغار يعلو :
( ثورة .. ثورة حتى النصر
اما الارض .. واما القبر )
يسقط طفل على الارض . تتكوم الغربان فوقه ، وبعد دقائق تطير مخلفة وراءها كومة عظام بلا ملامح . يسقط طفل اخر .. واخر ، ويظل الصدى يردد :
( ثورة .. ثورة حتى النصر
اما الارض .. واما القبر )
لم يبق معي سوى اخي . تتجمع الغربان فوق رأسه . تلتف حول جسده كالدوامة . يسقط وهو يقبض بيده على حجر مخضب بالدم . تتجه جحافل الشر الاسود نحوي . تنهش من لحمي .. واوردتي . تنخر عظامي . تحفر في رأسي ثقباً . تمتص منه دماغي . ابتلع صرخاتي وألمي واصمت . مناقيرها تقطر دماً. ابصر الاجساد الصغيرة تسبح في نهر من الدم . يسيل نحوي . يقف غراب فوق انفي . يركز نظره في عيني . يلمح الشرر يتطاير منهما . تبتعد كل الغربان .. ويظل هو منتصباً فوق وجهي . يتحدى غضبي . يهزأُ من المي . يحلق بجناحيه عالياً ، وصوت نعيقه يردده الصدى .

لم يبق لي سوى العظام الرطبة .. وعينان تبصران السماء .. ولسان يردد بغضب :
( ثورة .. ثورة حتى النصر
اما الارض .. واما القبر )
صار الغراب بعيداً في السماء ، ولم اعد ارى منه غير نقطة سوداء .

نهر الدم مازال يسيل باتجاهي . اعاود النظر الى السماء . النقطة السوداء تكبر .. وتكبر حتى تصبح غراباً . يهبط مسرعاً نحو الاسفل . يلتقط عيني اليسرى بمنقاره .. ويحلق عالياً من جديد . صرت ارى نصف العالم يشع بالنور. تهبط النقطة السوداء من الاعلى لتتقاتل مع غراب اخر يحاول الاقتراب من عيني اليمنى . يتقاتلان . يدمي وجهه .. ويقتلع عينه . اصبح اعوراً .. ويرى نصف العالم اسود . يحلق عالياً من جديد . اشعر بشيء بارد ورطب يلامس عظامي . ابصر دم الصغار يختلط بدمي .. بعظامي .. واصواتهم مازالت تردد في السماء :
ثورة .. ثورة ..
النقطة السوداء تكبر .. والحجر الابيض في يدي مغمس بدماء عشرات الصغار.. بدم مهنا ( يا عيني عليك يا مهنا ) . ارمي به . يضرب رأس النقطة السوداء . يسقط صريعاً . ترتسم في السماء امارات النصر . تتراجع حشود الشر الاسود .. ولساني يردد – بنشوة – مع السنة الصغار :
( ثورة .. ثورة حتى النصر
اما الارض .. واما القبر ) .


( 3 )



على ضفة الحلم ،
تقف امرأة عاجزة عن الوصول إليك .
تتوسل البحر يروي شغفها …
لكنك تمضي من دون التفاته منك .
خراب ما تركت …
وسراب ما ستجني .



الصعود إلى قاع الحلم






في يده جواز سفر اخضر … وحقيبة صغيرة .

صافرة الانطلاق تدوي عالياً معلنة بداية رحلة جديدة … وغامضة ، غموض الحكايا التي كانت ترويها له أمه - يوم كان صغيراً . كان كل شيء في قصصها يكتنفه الغموض، ثم هب … تنتهي القصة من دون أن يفقه منها شيئاً.

يحس بسعادة – من نوع جديد – تباغته . وكأنه هارب من سجن ابدي إلى حيث الحرية والحياة توهب بالمجان – أو هذا ما تصوره لوهلة . حدّق في الوجوه المحتشدة حول إفريز السفينة البارد – لتودع الأهل والأحبة – بحسد . وحيداً يهرب .. ووحيداً سيعيش .. بعيداً عن كل الوجوه التي عرفها ، لكنه وقف معهم ليغرف مما يغرفون ويستجمع في ذاكرته أخر الصور للأشجار .. للسماء.. للماء الذي سيتغير مع كل شبر تتقدم فيه السفينة إلى الأمام . ستتبدل ملامحه.. طعمه.. وحتى لغته . سيصبح بحراً أخر ، وسيغرق وسط لجج لا يفقه منها شيئاً سوى انه من فصيلتها . خيط ضياع رفيع بدأ ينسج حوله.. ثم يحيله إلى شرنقة لا تبصر ما يدور خارج جدرانها الملتحمة .

السفينة تنّين طائر يمخر عباب البحر الخرافي بأجنحة مذهبة . يمشط السماء الرمادية بعينيه.. لا اثر لنور القمر ولا للنجوم . وهذا المساء التشريني يزيد من غربته ويلبده بالأحزان . ينظر صوب الميناء . أنوار الشاطئ بدأت تخفت رويداً.. رويداً مع ابتعاد السفينة التي ابتلعتها العتمة .

الجو يزداد برودة والركاب يتزاحمون عند بوابة المقصورات ليدخلوا وينعموا بالدفء وقدح ساخن من الشاي . وحده يتلفع بمرارته ويأسه اللذين هجما عليه بغتة . تسمر في مكانه ، وظل يرمق الشواطئ الراحلة بعيداً عنه لعله يعثر وسط العتمة على ظل امرأة منحته خصبها وكل ما اشتهاه وبالمقابل منحها حفنة وعود مجنحة . يحس بشيء يحترق في جوفه .. شيء لن ينطفئ حتى لو عب ماء المحيط بكامله . ينادي بأعلى صوته :
- هدبا ااااااء .
يرتسم وجهها على صفحة السماء الرمادية . تقف في شرفتها . تقطف وردة بيضاء من أصص الورد المحيطة بالشرفة ، ثم ترمي بالوردة أليه – كما كانت تفعل كل صباح . تكبر صورتها وتمحى تفصيلات وجهها .. ألا عينيها الصافيتين كبركتي عسل . يناديها مرة أخرى :
- هدباااااااء .
لكن صوته يضمحل … ويتلاشى وسط جلبة محركات السفينة .

ساعات الليل طويلة وموحشة.. ومخيفة كحبل مشنقة تلتف حول عنقه .. تخنقه . فيض من حنين جارف يدفعه لكي يرمي بنفسه إلى البحر ، ثم يعود إلى بره عائماً . لكنه يجهل فن العوم – على الرغم من انه كان يجلس ساعات أمام البحر.. يحدثه تارة ويبوح له بأسراره تارة أخرى . يحلم بركوب أمواجه، لكنه لم يجرؤ يوماً على النزول فيه .

يلقي بجسده المتعب فوق السرير الخشبي الوحيد في الحجرة الصغيرة المزروعة في ذلك الرواق الطويل والضيق . يدفن رأسه – الذي ينبض كقنبلة موقوتة – تحت الوسادة . يسمع صوتاً غريباً يفح في الحجرة . ابتلع أنفاسه ، وأصغى بترقب … لا شــيء ! فجأة انشطر السقف على نصفين ، ثم أمطره بوابل من الصور . رمى بها على الأرض ، لكن الصوت عاد لينفث سمه في أذنيه:
- انظر … انظر …
تتطاير الصور في فضاء الحجرة وهو يصرخ مغمض العينين :
- لا … لا أريد … لا أريد …
لكن الصوت يحاصره :
- انظر … انظر إلى ما خلفت يداك .

يشعر ان قوة غريبة تسيطر على جفنيه وتفتح عينيه على اتساعهما . يرى صوراً وخيالات وأشباحاً تلهث وراءه ، وهو يعدو هارباً منها ، لكن حبلاً – في عنقه – يسحبه كلما ابتعد ليعيده إلى نقطة انطلاقه ، ثم يعدو هارباً من جديد باتجاه أخر والحبل يسحبه مرة أخرى.. وأخرى.. والحيلة تنطلي عليه بكل خبثها.

يتعثر بعلبة صغيرة . يحملها ويحشر جسده في إحدى الزوايا . يفتح العلبة، والعرق يتصبب من جبينه . لا شيء فيها سوى الصور. يقلب.. ويقلب والصور لا تنتهي . أطفال.. صبيان.. امرأة تقف في شرفة محاطة بأصص ورد ابيض .
- هدباء ! حبيبة القلب …
ينتحب ، ثم يتابع تقليب الصور . رجل عجوز يمسك بيد امرأة عجوز ويقفان أمام حفرتين.. وشاهدين .

يقفل العلبة . يأخذها بين ذراعيه ويخرج من حجرته . يتلفت في الممر الضيق . لا أحد فيه . وكمن يخفي جثة قتيل أخفى العلبة تحت سترته وراح يعدو في الممر حافياً والممر يزداد طولاً أمامه وهو يعدو حتى وصل إلى السطح. رمى العلبة الصغيرة إلى عرض البحر . عامت الجثة لثوانٍ ، ثم غاصت بهدوء نحو الأعماق . فجأة هاج البحر ، ثم تمخض عن وحش مرعب . امسك برقبته وحزها.. وهمس بصوت مبحوح :
- انظر … انظر …
ارتسمت الصور أمامه حية بكل تفاصيلها . وجه أمه.. أبيه.. اخوته.. منزله . وفي باحة المنزل شجرة وارفة الظلال.. تعرت في ثوانٍ . استحالت الوجوه إلى رماد . بقايا مقابر تلوح في الأفق وهو يقف هناك وحيداً وعاجزاً.. ويد امرأة تربت على كتفه .

دار فوق السفينة بلا وعي .. تائهاً يبحث عن أرضه ، عن منزله ، عن كتلة مشاعر أودعها في مكان ما .. ولم يعد بإمكانه استعادتها . مازالت المرأة في مكانها . يدها أصبحت في أحضان كفه .. وهي تتمتم بأسى :
- لماذا نداوي أوجاعنا بالرحيل ؟ لماذا يكون السفر اسهل الحلول ؟
- من أجلك يا هدباء أنا ذاهب للبحث عن وطن .
- وطنك هنا …
وأشارت إلى صدرها ثم أردفت :
- وطنك أنا .
وبذعر جريح يحاول التشبث بروحه - التي أدرك أنها ستفارقه لا محالة - ضمها إلى صدره وهمس في أذنها :
- انتظريني . سأعود لك بأزهار اللوز والتفاح .. واقداح عسل – بلون عينيك - تسكر الناظر أليها . سأعود لنكمل معاً حلماً بدأنا بأول خطوة
فيه .
وهو يعلم – كما تعلم هي – أن الخطوة الثانية للهرب هي الإيغال في
البعد .. والنسيان .

يفح الصوت المتحشرج في أذنيه :
- حطام ما تركت وسراب ما ستجني .

يد ما تنتزع هدباء من أحضانه . تتلاشى صورتها . تعود ذات اليد لتصفعه.

يفيق فزعاً . وجهه يتفصد عرقاً . نافذة حجرته تطل على بحر عملاق .. وسماء ستكشف النقاب عن فجر جديد . يخرج من حجرته . يصعد إلى سطح السفينة . الغيوم بدأت تنقشع وتظهر خلفها سماء زجاجية براقة تلألأ النجوم فيها.

الجو مازال بارداً … والسفينة تواصل حفر أخدود لها بين الأمواج المتلاطمة .

( 4 )


مازالت رائحة الدم – التي تفوح من جدران
ملجأ العامرية – فوّاحة بالوجع ..
ولها طعم مغسول بالعبرات ..
والملح .

ومازالت ذكرى قاطنيه – كل عام –
تفتح لنا بوابة الجحيم على مصراعيها ،
لتسعر في وجوهنا .

هانحن اليوم – وكل يوم – نمطرهم حباً ودموعاً ..
ويمطروننا بعداً .

مازلنا نتذكرهم ..
نتذكر ما تبقى منهم – او بنحو ادق –
ما تبقى منا ..
من اعمارنا ..
واحلامنا من دونهم .




وتضـرج الفجــر بالرمــاد




هكذا بدت السماء مشحونة .. ومكهربة بالأحزان .. وترانيم الخيبة المؤبدة .
وهكذا بدا ضوء الشمس شاحباً .. بارداً لا يكاد يغطي مداه ، وبدت ارمانيسا – وهي منكمشة وراء مكتبها الصغير في المنزل – شبحاً يهرب من ظلال الارض المتخمة بالعفن .. والبرد .. ورائحة الموت تنبعث من كل مكان .

يرقبها الزملاء - الذين حضروا لزيارتها - بأسى .. ويتحسرون على البنت الشقية .. صاحبة القلم الملتهب – كما كانوا يسمونها . يثور احدهم في وجه فالح مصور الصحيفة التي تعمل فيها ارمانيسا .. ومرافقها في كل تحقيقاتها – وهو يراها تنوس في اللامكان :
- ما كان عليك ان تصطحبها معك في تلك الليلة .. وانت تعلم انها تبيت كل ليلة هناك .
يتمتم فالح – وعلامات الندم بادية على وجهه – محاولاً ان يبرر الامر :
- وهل تظن انها كانت ستنتظرني حتى اصطحبها ؟
لو لم اصل في تلك اللحظة لكانت تدبرت حالها حتى تصل الى هناك .

مازالت تراهم يمدون لها ايديهم الطرية . ومازالت تسمع استغاثاتهم .. وصراخهم المكبل بسياط اللهب . لم يجدوا سبيلاً للنجاة . كل المسارب اغلقت.. وكل المسالك دفنت ، ولم يبق منفذ الا واحكم الحصار حوله . احتضنوا الجدران.. ناشبين وجوههم في الحجر . ممزقين بأظفارهم لحم الصخر .. حتى انصهروا والتصقت أجسادهم بالجدران .. فلم تعد تسمع الا سياط اللهب تجلد الاجساد البريئة.. التي اتحدت مع الجدران وذابت في عشق اسطوري .

انها تراهم كل ليلة .. وتسمعهم يطرقون ابواب الحجر . ارواحهم مازالت حبيسة الجدران .. والجدران تنبض بقلوبهم . انهم هناك يطالبون بالخروج . لو مررتم بالقرب من الجدران للفحتكم انفاسهم اللاهبة .

يزوغ بصرها الى سقف الحجرة .. وتزوغ معه في اروقة الذاكرة اشباح الامس الموجع .
في ذلك اليوم ، لم تتوقف صافرات الانذار عن العويل . الشمس – رغيف ناضج– ابتلعها تنين الظلام . الشوارع خاوية .. والليل طويل .. موحش . وحده ملجأ في العامرية ، كان يعج بضجيج الاطفال .. طرائف النساء .. واحاديث الشيوخ.

دخلت ارمانيسا – كعادتها – الى ركنها الذي اعتادت عليه في الملجأ – حيث كانت قد علقت صورة للعذراء .. ومسبحة يتدلى منها صليب صغير . كانت تجلس ساعات امام الصورة – حين يشتد القصف – تصلي .. وتطيل النظر اليها ، حتى يخيل اليها انها ما تلبث ان تنطق .. او تبتسم .. وان النور الذي يصخب به الملجأ ليس الا نورها .
في بقعتها تلك ، كانت تنفض عنها غبار الوجع والخوف .. وتتناغم مع المحيطين بها كما تتناغم حبات المسبحة . كانت تمارس انسانيتها .. تضحك.. وتبكي .. وتتألم لفقد وجه اعتادت وجوده معهم . وفي اللحظة التي يخلد فيها الكل الى السكينة .. تتفرغ لقلمها . تلتهم السطور .. وتحيل الصفحات البيض الى بحار من نار . وبينما هي منهمكة في الكتابة ، تقدمت منها طفلة لا تتجاوز التاسعة . حدقت في الكلمات ببراءة . تركت ارمانيسا دفترها والقلم جانباً ، ثم ابتسمت في وجه الفتاة الصغيرة . لكن عيني الطفلة ظلتا ترمقان القلم .. والدفتر. امسكت بيدها وقالت مداعبة :
- ما اسمكِ يا حلوة ؟
- عائشة .
همست بخجل ، ثم التفتت .. واشارت الى مجموعة من الاطفال واردفت :
- ذاك عمر .. وتلك نور .. وهناك عند الركن يقف احمد .
- اتريدين الدفتر والقلم ؟
سألتها .. فأومأت الطفلة برأسها : نعم .
قدمتهما الى عائشة .. فاسرعت الطفلة تعدو الى احدى الزوايا ، ثم جلست على الارض . تحلّق الاولاد حولها . مررت القلم فوق السطور ، بينما ارمانيسا ترقبها – وترقب الصغار حولها من بعيد . بعد دقائق عادت عائشة .. واعادت اليها الدفتر والقلم . قالت بفرح طفولي :
- شكراً .
ثم راحت تعدو وتلعب مع الاخرين .. مشكلين حلقة كبيرة ، وهم ينشدون ( شدة يا رود .. شدة ) . شعرت ان الحياة تتدفق من بين شفاههم .. من انعقاد اناملهم البضة .. من دبيب ارجلهم الصغيرة . اشتهت – لوهلة – ان ترمي بالدفتر جانباً لتلعب معهم ، لكن مقالها لم ينته بعد .. والمدير يريدها الليلة – بعد العاشرة مساءً– عليها ان تشرف على اصدار العدد الجديد من الصحيفة في المطبعة . حين فتحت الدفتر – لتكمل ما بدأت – انبثق رسم عائشة امام عينيها مدججاً بالنار .
طيور .. فراشات .. غراب اسود .. وافعى رقطاء .. وسماء تساقط كرات من لهب . نظرت الى الاطفال – وهم يلعبون – لتفتش عن وجه عائشة التي رمقتها من بعيد ، وفوق شفتيها الطريتين تراقصت ابتسامة عذبة . همست مع نفسها :
- انها حقاً موهوبة !

! ! !

لم تعد تذكر لماذا قررت فجأة ترك المطبعة .. والعودة الى الملجأ قبل ان يكتمل اصدار العدد الجديد للصحيفة .. وفي تلك الساعة المتأخرة . كل ما تذكره انها كانت ترمق بندول الساعة – المعلقة على الحائط – وهو يتأرجح بلا مبالاة تثير الاعصاب ، وحين اعلنت الرابعة فجراً .. قفزت ارمانيسا من كرسيها كالملسوعة . قلبها يخفق كعصفور محبوس داخل صدرها . خفق اجنحته يضايقها.. ينقر جدران زنزانته المظلمة .

مرت الدقائق مملة قاتلة . حملت معطفها وخرجت من المطبعة من دون ان تخبر احداً من العاملين معها . تلفتت يميناً ويساراً . لا احد.. لا شيء سوى الهدوء والعتمة . سارت بضع خطوات .. وفجأة اشتعلت السماء بوميض يخطف الابصار.. ودوي انفجار قريب زلزل الارض من تحتها . تسمرت في مكانها امام المطبعة . عادت صافرات الانذار الى العويل من جديد .
العصفور الصغير يخفق .. ويخفق .. والجدران تزداد صلابة . الريش يتناثر هنا وهناك .
لا تدري كيف انشقت الارض في تلك اللحظة .. لتنبثق سيارة فالح امامها كالمعجزة . فتح لها باب السيارة ، وقال بصوت متحشرج :
- اصعدي

السيارة تنطلق بهما بسرعة مذهلة .. وهي خائفة من السؤال عن مكان الانفجار . تحس انها خائفة .. لاول مرة تخاف الى هذا الحد . صدرها بدأ يضيق .. وفالح – هو الاخر يضاعف خوفها بصمته . ادركت ان شيئاً رهيباً قد حدث . شيء لم يحسب حسابه . تلفتت حولها ، وهمست لنفسها :
- لا .. لن تخدعني العتمة ..
لا.. ولن يكذب الليل عيني ..
هذه الشوارع اعرفها .. احفظها .. رباه !
برعب حقيقي تحرك شفتيها من دون ان تنبس بحرف :
- الملجأ ..! الـ ..مـ.. لـ.. جـ..أ.. !
العصفور الصغير يرعف .. جناحاه منهكان .. ونبضه يكاد يتلاشى .

حين اوقف فالح السيارة امام مشهد مرعب ، شعرت ان الزمن توقف .. وانها امام شاشة سينمائية كبيرة .. بحجم الافق . قشعريرة مخيفة تسري في اوصالها . نظر اليها فالح وهي ترتعش كعصفور مبلول .. ووجهها يتفصد عرقاً. امسك يدها . كانت باردة ، واصابعها متشنجة . حاول ان ينزلها من السيارة . قدماها بالكاد تحملانها . هزها بيديه وهو يردد اسمها مراراً وتكراراً :
- ارمانيسا .. ارمانيسا ..
لكن الصراخ المحموم يمزقها بنصاله الحادة . وكلبوة فقدت كل اشبالها دفعة واحدة – وامام عينيها – نشبت اناملها في السور الحديدي ، ثم اندفعت نحو باحة الملجأ وهي تصرخ :
- عائشة ..
لكن يد فالح تلقفتها ومنعتها من المرور ، فنشبت اظافرها في ذراعه . النار تأكل كل شيء امام اعينهم .. حتى تضرج الفجر بالرماد .

! ! !

انصرف الجميع ماعدا فالح الذي دنا منها .. وامسك بيدها ، ثم همس :
- صباح الخير ..
التفتت اليه . وجهه مختبئ وراء باقة ورد ابيض . سحبها من يدها .. وقال :
- هيا .. اريد ان اريكِ شيئاً .
انطلقت السيارة بهما في الشوارع المتخمة بالاحزان . اوقف فالح سيارته امام البوابة المحترقة . ترجلا من السيارة . يدها الصغيرة داخل كهف يده . تشعر بالنار تتقد في بدنها . ينبثق المشهد امامها حاراً .. وكأنه يحدث الان . الصراخ المفجع يصم اذنيها . تشم رائحة الدم .. واللحم المحترق تفوح من الزوايا . تراهم وهم يخرجون من عمق الجدار اسراباً .. اسراباً . يلوحون لها . ثيابهم بيض فضفاضة . تعلو رؤوسهم هالات من نور – كالتي في الصور المعلقة على جدران منزلها . يمدون لها ايديهم الطرية . تنتزع يدها من كف فالح . تخطف باقة الزهر منه ، ثم تعدو نحو البوابة الداخلية للمبنى . تفتح الباقة .. وتحمل زهرة زهرة لتوزعها على الاطفال الذين تحلّقوا حولها . يراها فالح ترمي بالازهار على الارض ، فيجهش بصمت .

تلمح ايدي الاطفال – القابضة على اغصان الزهر – تنزف . يدها – هي الاخرى – تنزف . ترفع رأسها .. ترى الجدران تنزف .. السقف ، والحديد المتدلي من وسطه – كبطن مفتوح اندلقت احشاؤه الى الخارج – يقطر دماً .
تصرخ ..
يبتعد الصغار مشكلين حلقة كبيرة بايديهم الناعمة . تسمعهم ينشدون ( شدة يا ورد .. شدة ) . تنشد معهم .. وتدور في حلقة وهمية . يبتعدون عنها . النار تطاردهم .. وتقضم اطراف ثيابهم . تعدو في الممرات وتصرخ :
- النار .. النار ..
ووجه عائشة – بابتسامته العذبة – يضيع منها في الاروقة المشتعلة .

تلمحهم يتكتلون . ومن اللهب الاحمر تنبت لهم اجنحة براقة يحلقون بها عالياً . لكنها تظل تعدو وراءهم حتى تصطدم بالجدار ، ثم تسقط على الارض . يساعدها فالح لتنهض . تشير الى الفجوة في السقف :
- انهم يرحلون ..!
تقف تحت الفتحة .. تتطلع الى السماء القصية . تراهم يلوحون لها من بعيد بايد مخضبة بالحناء ..
تظل ترقبهم .. وتلوح لهم بيدها حتى تغادرها الظلال الاخيرة لملامحهم .. وهم يحلقون نحو سماء رحبة .. ويغيبون وراء السحب في موكب ملائكي مهيب .






( 5 )

تشرين …
افعى تزحف نحو المدينة لمحاصرتها .
يشرنقها بدوامة مطر شرس .
وهي …
ورقة خريف يابسة … نفضتها اشجار الغاب ،
وتركتها وحيد …
تائهة في مهب الريح .


فتاة برية بالألوان


الشارع يمتد امامها … مليئاً بالصخب وبوقع اقدام المارة وهم يتراكضون في كل الاتجاهات ليحتموا من البلل . وحدها تتوقف عند احد الازقة . تصيخ السمع لسمفونية المزاريب وصفير الريح . تغلق مظلتها .. وتغمض عينيها ، ثم تترك للمطر فرصة عناقها بشراسة محمومة . تفتح ذراعيها - على اتساعهما – ليعمدها بقطراته .. فتاة برية من وحي تشرين .

تمطر …
تمطر .. منذ عشر سنوات حنيناً جارفاً .. ضاجاً بالوجع لبيت الطين في اعلى التلة .. لوجوه الاحبة .. لرائحة المطر المعجون باديم الارض . عشر سنوات والمطر لا يختلط الا باسفلت الشارع – الذي تنبعث منه رائحة العفن .

تمطر …
تمطر سياط غضب موجع . تجلد راسها الصغير . تحفر اخدوداً عميقاً فيه. تفجر سدود سنوات عشر من الغياب في ثوانٍ ، ليكتسح الطوفان كل شيء . الافعى تضيق الخناق عليها . تباغتها .. ثم تعتصرها بيسر حتى تتشابك اضلاعها. اصداء شيء جميل وثمين يتكسر في صدرها .. ويدعوها للبكاء .

انقطع التيار الكهربائي في الشارع الذي تسير فيه . صارت جزءاً من عتماته . عواء الريح يطاردها . تعدو بين الازقة وحيدة وخائفة . تصرخ :
- خالد …
لكن خالد لا يجيب ، فهو منشغل الان برسم لوحة جديدة .. مليئة بالالوان .. وضاجة بالحياة . خالد صار يبحث عن الدفء فوق الارائك الوثيرة وبين لوحاته التي تزينها شموس خرافية .

تهرب من وحشة الازقة . يطالعها مطعم فخم – في احد الاحياء المترفة – مدججُ بالنور . تتردد في ولوجه ، لكن العتمة وصوت الريح يدفعان بها نحوه . تمد يدها لتدفع بابه الزجاجي .. لكن ظلفتا الباب انفرجتا وحدهما ، واطل من ورائهما شاب في العشرين . نظرت اليه . كان يقف كالتمثال .. ويتحرك كالدمية. ملامحه تدل على انه عربي ..عربي اخر – او بنحو ادق – مشرد اخر. سارت في الممر المؤدي الى صالة الطعام لاهثة الانفاس . كان كل شيء فيها يقطر ماءً .. ثيابها .. شعرها . نظر اليها النادل بازدراء . احست لنظراته طعم الصدأ في فمها . تقدم واوقد الشمعة اليتيمة .. المنتصبة فوق منضدتها . كانت ترتعش من شدة البرد ، لكن احداً لم يعرها انتباهه .. حتى ذلك المشرد الذي ينتصب خلف الباب .

حدقت في وجوه الجالسين حول الموائد وهم يحتسون الشراب ويستمعون باهتمام مصطنع لمعزوفة تشايكوفسكي – بحيرة البجع . كانت تراهم مجرد تماثيل جليدية خاوية من الداخل وباردة .. وعما قليل سيذوبون وتتعرى حقائقهم.

كان النادل يمر من امامها من دون ان يعيرها ادنى اهتمام . قالت لنفسها :
- حين ياتي الي ساطلب فنجانا ساخنا من الشاي .
لكن انتظارها طال والنادل لم يكلف نفسه عناء النظر اليها مجدداً . لملمت نفسها وهمت بالخروج . استوقفها منظر الشاب المنتصب خلف الباب . تطلعت اليه بمرارة . كان جامد الملامح . ادارت وجهها ومضت . تلقفها الشارع من جديد.. وحيدة تطاردها الريح التي مازالت تعوي كفصيلة من ذئاب جائعة في ليلة من دون قمر .

ادخلت يدها في جيب معطفها . اخرجت منه سلسة مفاتيح ، معلّق في نهايتها حجرُ صغيرُ ابيض . قربته من شفتيها وهمست :
- وائل .

- مريم .. اعتني بنفسك . سترحلين مع خالد ..لقد تدبرت لك كل شيء .
ثم دس في يدها حجراً صغيراً اخرجه من بين كومة كان قد دسها في جيوب بنطاله ، واردف :
- لا تفقديه . انه هويتنا .. انتماؤنا .. جواز مرورنا . هذا هو الدليل الوحيد الذي يمنحنا الحق في امتلاك ارضنا . حافظي عليه .
نظرت اليه بخوف وقالت :
- الى اين يا وائل ؟
ضمها الى صدره ثم همس لها :
- من اجلك .. ومن اجل كل المريمات .



مازالت تمطر …
والقطرات الصغيرة – التي تخز كالابر – تتابع حفر اخدود طويل .. يسيل فيه سائل احمر ، له طعم النزف . تحس بالجرح المزروع في خاصرتها رطباً .. وندياً . كأنه انبثق الان .. وكأن لم يكن قد مر عليه عشرة اعوام . فركت الحجر باناملها الخمس .. وكانها تحاول اكتشاف نتوءاته والثقوب المحفورة فيه كجراح تابى الاندمال . لم يبق لها احد سوى خالد . لكنه هو الاخر تغير . شيء ما انكسر فيه . حتى كتاباته – في الصحيفة التي يعمل بها – تحولت من السياسة الى الفن . وصار قلمه مجرد فرشاة يحاول ان يرسم بها اقواس قزح في سماء رمادية .

ولجت احدى البنايات الضخمة ، ثم توقفت اما احدى الشقق وقرعت الجرس. اطل شاب اجنبي الملامح – بثياب انيقة . نظر اليها بازدراء – كما فعل النادل في المطعم – وهي تقطر ماءً . ومن جديد احست بطعم الصدأ في فمها . سألته بلغته الاجنبية :
- هل السيد خالد هنا ؟
- نعم .
اجاب ثم تنحى لتدخل . طالعها من اعلى الى اسفل ثم تمتم مع نفسه :
- هؤلاء العرب ! غريبو الاطوار !

_ _ _

لم يشعر بها خالد وهي تدخل الى المرسم . كان يحلق في عالم اخر .. محاولاً تلوينه باقواس فرح - ككل لوحاته . وقفت امامه ، وهي ترتعش . قالت بنبرة ناقدة :
- الا تلاحظ ان اللون الاحمر هو اللون الغالب في لوحاتك ؟!
نظر اليها مشدوهاً ، ثم نظر الى اللوحة ليتبين صدق كلامها . وقبل ان ينبس بحرف تابعت ساخرة :
- لن يجدي الربيع في لوحاتك .. لا .
لن يمنحنا الدفء .. ولا الامان .
ولن يزرع في نفوسنا الفرح . اقترح ان تفتش عنه في مكان اخر .. وزمن اخر.
- ما هذا التشاؤم ياحلوتي ؟
قال مداعباً ، لكنها هزت رأسها ساخرة وهي تتمتم :
- التشاؤم !

بدات تحس بانها مجرد تائهة .. تتخبط بين الازقة . حتى خالد الذي احبته بكل ما تملك اشاح بفناره عنها . حشرت جسدها الصغير في احدى الزوايا وجلست على الارض . نظر اليها خالد مستغرباً . كانت عيناها تنذران بعاصفة كالتي تشرنق المدينة . وجهها شاحب .. وجسدها يرتجف – على الرغم من دفء المكان .
- مريم ..! لماذا تجلسين على الارض ؟ ! انهضي !
حاول ان يسحبها من يدها ، لكنها جذبتها اليها وقالت بنبرة ساخرة :
- لا اريد ان تبتل الارائك الوثيرة .. والسجاد الفاخر .
لكنه تجاهل سخريتها .
- لا بأس .. سأجلس انا قربك .

جلس قربها .. وطوقها بذراعه . شعرت بقشعريرة لم تعهدها معه من قبل. انفاسه كانت باردة .. وشفتاه اللزجتان – وهما تطبقان على عنقها – باردة ايضاً . تتناسى وجوده .. وتشرد بذهنها . تنظر الى اللوحات الملونة – التي غطت جدران المرسم .. تبث دفئاً مسلفناً – تارة ، والى النوافذ – التي تهيل عليهم عتمة وبرداً لا يحدهما حدود – تارة اخرى . تتمنى لو يكتسحها ربيع اللوحات .. لو يغادرها هذا الشعور بالتشرد ..

مازالت جالسة على الارض .. وخالد يداعب اذنها بانفه ، لكن عينيها تتابع البحث عن شيء ما – او ربما لوحة تنبض بالحقيقة – بين اللوحات المزركشة بالوان الربيع والدفء . وبنظرة خاطفة الى احد الاركان المعتمة للمرسم ، التقطت عيناها لوحة مسجاة على الارض . نهضت من مكانها – تاركة انامل خالد لتداعب الفراغ – واتجهت صوب اللوحة . التقطتها وراحت تتطلع اليها بعمق .. وهي تتلمس قماشها بانامل مرتعشة . مازالت تتذكرها . انها اول لوحة رسمها خالد في غربته . كانت اول ثمار وجعه . خلفيتها حمراء دامية .. تتوسطها شاهدة بيضاء تناثر فوقها قطرات حمر . معلق فيها اكليل من زهور السوسن . تهمس لنفسها :
- كم كان حساساً وشفافاً . كيف كساه الصقيع !

نظرت اليه بأسى . كان وجهه يفور غضباً . وبنبرة حادة قال – وهو يجذب اللوحة من بين يديها ويرميها على الارض :
- ما الذي تنظرين اليه ؟
فاجابت موبخة :
- استغرب .. كيف ننسى اشلاء من احببنا .. وضمها قبر واحد ؟ !!!
كيف يروق لنا التوهان في عالم – نعرف مسبقاً انه – لم يخلق لنا ؟!
ولانها لامست الجرح ، رفع يده ليصفعها ، لكن ذات اليد تجمدت في الهواء .. ولم يجرؤ الا على الصراخ في وجهها :
- هل جننتِ ؟

نظرت الى يده التي كانت قبل قليل تداعب رقبتها .. وتنثر خصلات شعرها . تردد مع نفسها :
- جننت ! .. جننت !

عيناها مغرورقتان بالدموع . المطر يجلد النوافذ بقسوة .. وهي طير جريح مغسول بالالم .

اقترب منها وضمها الى صدره ، وبصوت يملؤه الندم همس لها :
- مريم .. لمَ لا تفهمين !
انا احاول ان اوفر جواً من السلام والامان لنا معاً – كما وعدت وائل – بعيداً عن الجراح التي لا تندمل .. وانهار الدم التي لا تجف حتى باحتضارنا .
انتزعت نفسها من بين يديه . التقطت حقيبتها .. وقبل ان تخرج اقتربت منه ، وهمست في اذنه :
- اتعلم .. صار لمرآك طعم الصدأ في فمي .

غادرت شقته . تلاشى كل شيء جميل امامها . ارتسم الدرب طويلاً .. ومظلماً . التحم مع خط الافق . جعلت تراهما شيئاً واحداً لا ينفصل . تتناسى فتح المظلة . تترك المطر يغسلها من حنقها .. ويتابع حفر الاخدود في رأسها . تهمس لنفسها :
- لو ان وائل مازال حياً .. هل كان سيصبح مثل خالد ؟
تمد يدها في جيب معطفها . تتحسس الحجر الراقد فيه كطفل لما يخرج من رحم امه بعد .
- لا تفقديه .. انه هويتنا .. انتماؤنا .. جواز مرورنا . هذا هو الدليل الوحيد الذي يمنحنا الحق في امتلاك ارضنا . حافظي عليه .. حافظي عليه .. حافظي عليه..

تشعر انه لم يعد هناك ما يربطها بخالد . تعود الى غرفتها في دار الطالبات المغتربات . تفتح حقيبة سفرها .. ستملؤها بعد قليل . ترمق كتبها المرصوصة فوق المكتب ببرود . تقترب .. تقلب الدفاتر بلا مبالاة .. تترك كل شيء مكانه ، ثم تفتح احد الادراج . تخرج منه حقيبة صغيرة .. بنية اللون . تخرج منها اوراقاً قديمة مهترئة – تثبت هويتها – تشم فيها عطراً معتقاً من زمنٍ خرافي . تشعر بفرح غريب يسري في بدنها .. يسرقها من غضبها .. ويودعها تحت عرش الشمس . تقبض على الحجر بيد ام حنون . تشمه .. تمسح كل نتوء فيه بخدها . تقبّله بشغف مجنون . ترى فيه وجوه من احبت .. ووجه وائل . تدور في الحجرة.. تدور .. تدور . تسقط فوق سريرها وهي تحتضن الحجر وحقيبة الاوراق وجواز السفر .

فيما يشبه الرؤيا تراهم ينبثقون من الارض .. يخرجون من ثقوب الرصاص في الجدران . يخترقون الازقة .. يعبرون الاسلاك الشائكة .. ويدخلون غابة الموت . لكنهم يعرفون الطريق .. والطريق يعرف خطاهم المغسولة بالدم .. ورائحة المسك .
بأيديهم المخضبة بالدم يشعلون الليل قناديلَ صفراً .. تسبقهم اسراب من طيور بيض . كل طائر يقبض على حجرين . مازالت تراهم . ايديهم متلاحمة.. واصواتهم متناغمة . بنبرة واحدة يرددون ..

سندك .. ندك الاسوار
ونحيل الليل الاسود نوراً ونار ..

( 6 )

اقسم كل من رآه انه عمر …
وانه يأتيهم كل مساء …
متشحاً بالسواد …
ممتطياً صهوة فرس بيضاء .
حاملاً بيمينه سيفاً يومض كالبرق .
وان لحوافر فرسه وقع طبول الحرب .







ثقـبُ صغــيرُ دامٍ





تمزق صرخة حنان سكون الحجرة الغارقة في العتمة . يفيق عمر من نومه فزعاً . يضيء الأنوار . ينظر إلى وجه حنان الذي يتفصد عرقاً . تتسع عيناها الخضراوان وهي تراه يمعن النظر فيها ويحاول أن يستقرئ الأمر .
- هل راودك ذات الحلم ؟
- …
تدير وجهها ناحية الجدار وتجهش بصمت .
- حنان ..!
ترمي نفسها بين ذراعيه وتهمس باكية :
- ضمني إليك … ضمني .
يضمها إلى صدره العريض بحنان ترتعش له هلعاً .

انقضى أسبوعان والحلم – مازال – يتغذى من دمها . ترى عمر – كل ليلة – ينسل من بوابة قصره متشحاً بالسواد … وممتطياً صهوة فرس بيضاء . يدخل – زاحفاً – إلى ارض مسيجة باسلاك شائكة . يحمل تحت مئزره سيفاً يومض كالبرق . يذبح به الكثير من الضباع ، ثم يسحبها إلى الخارج ويرمي بها إلى غياهب جب معتم ، ثم فجأة يغدو المنظر مشهداً خرافياً . ترى بحيرة ماء عذب . تجلس حولها سبع فتيات يرتدين البياض . وجوههن بلا ملامح … لكنهن جميلات . يختفي المشهد خلف ضباب كثيف . يخرج من وسطه أخوها علي . يحمل بيده أيقونة – اعتاد عمر أن يعلقها برقبته – منقوش عليها اسمه . يتلاشى الضباب لترى عمر ممدداً على الأرض – وهو يرتدي بدلته الكاكي – وفي صدره من ناحية القلب يلوح ثقب صغير دامٍ .


تمطر …
تمطر نبالاً تخترق جلدها . تدور في الحجرات هلعة ، تشرع الأبواب والنوافذ وتترك للريح والمطر حرية العبث بها . تفتح الدواليب والأدراج المقفلة، ثم تتركها تتنفس هواءً ملوثاً بالأنين .

تمطر …
وهي مازالت منذ سبعة أيام تذرع حجرتها ذهاباً وإيابا ويدها تتلمس حانية بطنها المنتفخ . تمسك التقويم بين يديها . تفتش فيه عن يوم ما … يوم كانت تنتظره وعمر بفارغ الصبر .

- عدني يا عمر بان تعود وتخيب رؤاي .
- أعدك باني سأعود … وسأخرج من هنا .
وأشار إلى بطنها .

تحس أن صدرها حقل سنابل يغزوه الجراد ، وأنها مكبلة إلى كرسي خفي. وغراب اسود ينقر كتفيها … ينقر أهدابها … يدمي وجهها ، وهي عاجزة عن الحراك . جرس الهاتف يجلجل في أركان المنزل . قلبها يخفق كجناحي طائر حبيس فتح أمامه باب القفص . ترفع السماعة . قلبها ينطق قبل لسانها :
- عمر …
- حنان أنا علي … هل من خطب ؟!

تقضم أظفارها بقلق … وبيدها الأخرى تتحسس الأرض التي كانت بوراً… وفجأة – بعد سبع سنوات من الانتظار – ستطرح أول ثمارها . تشعر بشيء ينبض … يتحرك … يتمطى في أحشائها . تسند رأسها إلى جدار شرفة عمر ، وتظل ترقب أوراق الأشجار وهي تحتضن القطرات ، وترقص على إيقاع مزاميرها . تغيب مع أحلامها لتستحضر صورة عمر :
- هل ستتأخر ؟
- عشرة أيام وأعود … سأطلب إجازة . لا داعي للقلق .
- كيف لا اقلق والحرب تكاد تستعر ! وهذا الذي انتظرناه سبع سنوات …
تصمت . قبلها ثم همس في أذنها :
- ثقي بي .

مازال صدرها ينبض بحنانه ، لكنه سيعود . قلبها مرتاب من صوت مجهول ، لكنها تثق به . تخرج بدلته الكاكي . تشمها … ثم تدفن وجهها في طيات سترته . قال لها قبل أن يسافر :
- أنها متسخة وبحاجة إلي الغسل والكي .
لكنها أبقتها من دون غسيل . وها هي تحتضنها وتشم رائحته . تلمح علياً من خلف السور . تنزل السلم الطويل . تتوقف في منتصفه وهي تمسك بالإفريز . ألم حاد في بطنها . شيء ما يحاول أن يمزق أحشاءها ليخرج . تبتلع صرخاتها وتجلس على درجات السلم . أنفاسها تضيق . تصرخ :
- عمر …

تراه يعدو في الخندق الطويل … رأسه محني قليلاً … وهي تعدو وراءه في الممرات المكسوة بالبياض ، والعرق يتفصد من جبينها … وكلما حاولت الوصول أليه يضيع منها في خندق أخر . نور صاخب يغشى عينيها … تتمتم بأنفاس متقطعة :
- عـ… مـ ... ر ….. عـ... مـ ... ر .


صراخ ناعم يمزق صمت الحجرة البيضاء … تلمح علياً حاملاً بيده الأيقونة وخلفه يتمدد عمر ... وعلى وجهه ارتسمت ابتسامة عريضة ... وفي صدره من ناحية القلب يلوح ثقب صغير دامٍ .



( 7 )

حين يضيع من بين ايدينا كل شيء ..
حين نصبح صفراً على شمال الحياة ،
تركع الدنيا ..
والحرية
تحت اقدامنا ..
امرأة عارية الجسد ..
تنظر بعيون وقحة الى عالم جميل
اضحى رماداً .















اليوم الثامن
















في اليوم الأول دخلت إلى مكتب البريد . كانت تتوقع – بعد شهر من الغياب – أن تجد كومة من الظروف الملونة في صندوقها الصغير . تسمرت أمام الصناديق الكثيرة لثوانٍ وهي تحاول العثور على المفتاح . حين فتحت الباب الصغير فوجئت برسالة يتيمة تنام بين جدران الصفيح الباردة . أخرجتها ثم رمقتها باستغراب . تمتمت ساخرةً :
- بعد ثلاثة أعوام !
كان اسمه محفوراً على جهة المرسل لظرف أنيق … ازرق اللون ، مع عنوانه- في ذلك البلد البعيد- الذي وعدها بان يرسله لها قبل ثلاثة أعوام .

عادت إلى المنزل . دخلت حجرتها وأقفلت الباب – على الرغم من أنها تعيش وحدها . رمت بالحقيبة فوق السرير . قلّبت الرسالة بين يديها . كانت خفيفة كالريشة … وكأن لا وزن لها . لا تشعر برغبة في فتحها ، حتى قلبها لم يعد يخفق كما كان دائماً حين يقع بصرها على اسمه … أو حين تلمس شيئاً يخصه . وضعت الظرف الأزرق جانباً وظلت ترمقه ببرود .

في اليوم الثاني فضت الظرف فلم تجد فيه غير قصاصة ورق .. وسطر يتيم:
اشتقت إليك . اكتبي لي . أنا بانتظارك .

في اليوم الثالث حملت من دون وعي – كدمية تحركها ساحرة ما من وراء الحجب – دفترها … وقلمها … وحبرها الأخضر ، ثم كتبت :
كنت افتقدك …

في اليوم الرابع رسمت شمساً تأفل .
في اليوم الخامس تركت بقية السطور بلا كلمات .
في اليوم السادس نظرت إلى وجهها في المرآة ، فاسترجعت الأعوام الثلاثة … وبكت بصمت .

مع بزوغ فجر اليوم السابع فتحت باب حجرتها . حملت علبة الثقاب … رسالته … وأوراقها وصعدت بها إلى سطح المنزل .






( 8 )
الليل يوغل في العتمة ،
والشارع يمتد طويلاً ..
ويتشعب كمتاهات سحيقة
لا نهايات لها .
وانا ..
زهرة دوار شمس ..
- عبثاً -
افتش عن وجهك ..
لالتجئ اليه .



ســـريـر بحجــم الــورد





في صباح ذلك اليوم ، طاف في اروقة احلامها ما لم تقوَ على تناسيه ابداَ. لقد رأت سريرها يطفو في مهرجان من الزهور . ورود .. وزنابق بيض .. وجوري صاخب باحمراره الجريء . وفي باحة المستشفى البارد كان ثمة حمامة رمادية مسجاة على الارض .

تفتح عينيها على نافذة كبيرة .. مطلة على سماء رحبة . تلمح سرب حمام رمادي يحلق عالياً ، ويدور بشكل متناسق ، فيظهر تارة .. ويختفي تارة اخرى. تجيل بصرها في الحجرة الباردة – التي حاولت الهروب منها يوم امس – بجدرانها المطلية باللون الابيض ، وتفوح منها رائحة الادوية والمعقمات النفاذة . في احدى الزوايا يقبع كرسي بعجلات كبيرة . تحاول – جاهدة – النهوض ، لكنها تشعر بثقل اكداس من الرمل فوق ساقيها .. وانبوبان طويلان – مزروعان في ذراعها .. يعيقان حركتها – ينحدران من كيسين معلقين بمسند حديدي فوق رأسها . نوبة صداع شديد تداهما . تئن .. كومضات برق متقطع تمر الصور في ذاكرتها .

كانت تقف وراء الباب الموصد – بعد ان دخل نادر الى حجرة الطبيب – في ذلك المستشفى الكبير ، حاملاً بيده صور اشعة لرأسها الجميل بشعره الاسود.. ووجهه الناصع البياض . حبست انفاسها .. واسترقت السمع – بقلب وجل – لما يقولون في الداخل :
- سيبدأ شعرها بالتساقط .. ورويداً رويداً سيزداد الالم . لقد تطور المرض بسرعة . ايامها اصبحت معدودة . انا اسف .
التصقت بالجدار القريب . نشبت اظافرها فيه ، تردد بألم :
- لن ابكي .. لن ابكي ..
وكلمات الطبيب – المغلفة بحزن مفتعل – ترن في اذنيها كناقوس صدئ .

تعدو هاربة من المستشفى قبل ان يقيدوها الى سرير حديدي بارد في زنزانة فردية . تصطدم باحدى الممرضات في الممر الطويل . تصرخ في وجهها :
- انتبهي ايتها الحمقاء .
لكنها لا تكترث . تشعر ان رئتيها امتلئتا بهواء ملوث بجميع الاوبئة والامراض.. وانها بحاجة الى هواء نقي . تتجه صوب السيارة . تجلس خلف المقود ، ثم تنطلق بسرعة جنونية في الشوارع المزدحمة . تجتاز سيارة .. اثنتان .. خمس . تتجاهل ابواق السيارات والوجوه التي تشتمها من خلف الزجاج، فغداً او بعد غد ستموت . تضرب مقود السيارة بغضب . لماذا يحدد الطبيب موعد موتها .. كما كان يحدد والداها نوع طعامها وشرابها ، وشكل ثيابها ؟

تعاود النظر الى النافذة . على سطح البناية المقابلة تقف حمامة رمادية وحيدة . تجرجر جناحها الايمن وهو ينزف ، وتتطلع الى السرب المحلق في الاعلى بأسى . يحط بالقرب منها طائر رمادي . يقترب منها . يداعبها ، لكنها تهرب منه .

ومضة برق اخرى تمر من امام عينيها . مازالت السيارة تدور بها في الشوارع المغلفة بالاضواء والصخب . تدير مؤشر الراديو على موجة تبث اغاني حزينة . تنزلق صورة نادر امام عينيها . تردد بلهفة ممزوجة بالحزن :
- نادر .. نادر .. نادر ..
لن تذهب الى موعده – كما وعدته . ستتركه ينتظر في ذلك المكان الخرافي عند البحر . سيغتاظ . تعرف ان ذلك يغيظه .. وانه لن يكلمها الا بعد ان تتوسل اليه، وتعطيه الف عذر وعذر ليصفح عنها . لكنها لن تفعل ذلك . لن تذهب .. لن تتوسل .. ولن تبرر . هذه المرة سيأتي هو باحثاً عنها .. لكنه لن يجدها .

تتابع الدوران في الشوارع المتخمة بالذكريات ، وعند كل منعطف تراه فاتحاً ذراعيه ليضمها . لكنها تدير عجلات السيارة وتهرب مسرعة لتنسى .. فقط لتنسى موعده واللحظات الفريدة التي لن تستطيع – بعد اليوم – ان تقضيها معه .

تمر من امام محل كبير للورد . تنبثق في رأسها فكرة جنونية . تترجل من السيارة . تلج باب المحل . يتقدم منها بائع الورد :
- هل من خدمة ؟
- اريد دفع ثمن ورد – يغطي مساحة سرير – استلمه غداً .
- عيد ميلاد ام زواج ؟
استدرات ناحيته مذهولة . قال لها نادر ذات مرة :
سافرش لكِ الارض ورداً يوم زفافنا . وسأغطي سريركِ بالزنبق الابيض والجوري الاحمر .
تضع يديها على صدرها – كمن يضم شيئاً ثميناً يكاد يفقده . الورد .. الزنبق الابيض والجوري الاحمر .. سيغطيان نعشها بدل السرير !
تفيق من شرودها على صوت بائع الورد :
- عفواً سيدتي .. اقصد نوع المناسبة . اهي زواج ام ..
قاطعته متجاهلة سؤاله :
- سأختار الزنبق الابيض مع الجوري الاحمر .
نقدت صاحب المحل المال ، ثم اعطته عنوان نادر .

مازال الطائر الرمادي يلاحق الحمامة .. وهي تهرب منه . يدور حولها . تقف على حافة البناية الشاهقة . يقترب منها . تفرد جناحها الاخر .. وترمي بنفسها في الهواء . تنظر اليها بأسى . تحاول النهوض ، لكنها لا تستطيع . ترمق الانبوبين المغروسين في ذراعها ببرود . احدهما احمر .. والاخر لا لون له . تمد يدها الاخرى نحو ساقيها . تتحسسهما . مازالا هناك . تنشب اظافرها في اللحم الابيض . يسيل منه سائل احمر كالذي يجري في الانبوب الموصول الى ذراعها ، لكنها لا تشعر بهما . الم حاد في رأسها يذكرها بكلمات الطبيب التي ترن في اذنيها :
- سيزداد الالم .. ايامها معدودة .. معدودة .
تمد يدها .. تسحب الانبوبين من ذراعها .. وتتركهما يتأرجحان في الهواء . تتناثر قطرات حمر على الارض .. وعلى اغطية السرير . اشكالها تشبه وروداً صغيرة. تشعر بالدوار .. والغثيان . غيمة سوداء تغشي عينيها ، وطنين غريب يصم اذنيها. نبضها بدأ يخفت .. اجفانها تثقل .. وانفسها تضيق .

ومضة برق اخيرة تمر من امام عينيها . توقف السيارة امام هاتف عمومي. تدير رقم نادر . يجيبها صوته الملتاع :
- الو .. الو ..
- ….
تصغي لصوته الملهوف .. المتوسل .
- الو .. شمس أجيبيني .. اعرف انك على الهاتف الاخر .. الو .. شمس .. الو ..
- ….
تضع السماعة مكانها من دون كلمة . تعود الى مقود السيارة . تدخل زقاقاً مظلماً . تشعر بالخوف وهي ترى اشباح وخيالات حفرة مظلمة تفغر فاها لتضم جسدها . تدير الراديو على محطة صاخبة . ترفع صوته . تضغط على دواسة البنزين محاولة الهروب من العتمة . نور صاخب - لشاحنة كبيرة - يغشي بصرها. تضغط على مكابح السيارة .

تصرخ ..
تمتزج صرختها بصرير عجلات السيارة .. وصخب الراديو .





( 9 )



ذات هاتف ..
قررت ان تتمادى في اللعبة ،
وان تتحدى قدرات الكاتبة ..
التي تتملكها حالة عشقية دائمة ..
الى قلم ..
وبياض ورق .
كاتبة تشتهي السير فوق خطوط من الجمر ..
لكنها لا تملك لها درباً
الا الذي يقودها الى صمت محتم .



بــريـق الصـمــت







ليس مهماً متى رأها .. واعجب بها .
ليس مهماً كيف انجذبت اليه - بعد ذلك – فاطمئن قلبها .. وارتاحت نفسها ، فالطيور – دائماً - على اشكالها تقع .
هذا ما فكر به – اول وهلة – وهو يحدثها على الهاتف ليلاً .. مدعياً انه روائي مغمور .. يبحث عن فكرة جديدة ليبدأ بها روايته ، وانه طلب رقماً عشوائياً – فقط – ليستلهم من اول محدث له – عبر الهاتف – ما يحفزه على الكتابة .

كانت لعبته مكشوفة لها منذ البداية .. وفي لحظة ما همّت بأن تغلق الخط، لكنها فكرت قليلاً .. ثم قررت ان تتمادى في اللعبة .. وتنجرف الى حيث تقودها خيوط الوهم .. لعلها تستقدم فرحاً مؤجلاً .. وربما تنتشي بحلم ما .. ينسيها ما دمره اعصار مضى .

منذ شاهدها تجلس قرب الشاطئ .. شاردة البال .. تائهة العينين .. ادرك ان في قلبها خنجراً صغيراً .. وطعنة حب طاغية .
بالنسبة لها .. اصبح رجل المورفين .. يأتي ليلاً ، ليبعث في عينيها النعاس .
بالنسبة له .. كانت امرأة يشي بها الصمت .. والحزن الباذخ .
ثمة وجوه تتناسب والحزن تناسباً طردياً .. وجوه يفضحها الصمت .. وجرعات الوفاء . وهذا ما جعله يلتصق بها اكثر .. وربما احبها .. على الرغم من انها كانت قد وسدت قلبها ملاحاً تائهاً .. او ميتاً .

في ذلك المساء الحاني ، قررت ان تكتب .. تكتب أي شيء . قال لها :
- من المهم جداً .. بالنسبة الى كاتبة مثلك .. ان لا تهمل الابجدية .. فاجمل القصص تلك التي تأتينا بغتة لتداهمنا على غير موعد .. واجملها ايضاً تلك التي تستنزف قوانا .. واحزاننا لتخرج على غير ما انتظرنا .

جلست الى كرسيها .. محاولة التقاط جملة كانت ترددها طيلة النهار . فتحت الدفتر الذي اثار شهيتها لرسم كائنات حبرية .. وصياغة لغة جديدة .. جديرة بتلك الشخصيات . امسكت بالقلم .. حاولت سحبه على بياض الورق المشتهى ، لكن الذكريات تفخخ كل شيء في رأسها .. الافكار .. الاحلام .. وحتى الكلمات.

رمت بالقلم فوق المنضدة .. فراح يتدحرج الى الوراء . ظلت تتابعه بعينيها حتى سقط على الارض . قال لها ذات هاتف :
- ليس مهماً ان نفشل مرة .. او عشرة .. فالفشل يقودنا – بطريقة ما – الى النجاح .
الفرح عقيم ..
والحزن وليد لحظات جميلة لن تتكرر .
لا تتركي الحزن يمتص ما تكتنزه ذاكرتك من الم .. بل استغليه في كتابة نص ما، وسترين كم سيكون مدهشاً .
انحنت على الارض . التقطت القلم .. وراحت تنظر اليه كمن ينظر الى مخلوق غريب يراه اول مرة ، فاسرعت تخفيه في درج المكتب .

امام مرسمها الصغير – الذي لم تدخله منذ ما يقارب العام – وقفت . فتحت بابه بأنامل مرتعشة .. ففاجأتها رائحته التي تشبه – الى حد كبير – رائحة البحر . اضاءت النور .. فأطل وجه بحار بعينين زرقاوين – وهو يبتسم – من احدى لوحاتها . تقدمت ناحية اللوحة .. مدت يدها تتلمس وجهه الباسم . احست باللوحة تنبض تحت اناملها . همت بالخروج ، لكنها توقفت امام لوحة – قرب الباب – كانت قد اسمتها .. " والبحر يغرق " .

_ _ _

ذات غروب رست سفينته على شاطئ حلمها البريء .. حيث اشعلت عودان من البخور .. ونثرت بعض ازهار القرنفل على الشاطئ ، ثم وقفت ترسم بزهو .

كان يقف خلفها تماماً .. على بعد خطوات مدروسة منها .. ينظر الى اللوحة التي نصبتها قبالة البحر تارة .. والى الفرشاة – التي اضحت اصبعاً سادسة في يدها – تارة اخرى .. وهي تمزج الالوان برشاقة لتخرج منها تشكيلة اكثر اتساقاً.. تتناغم مع صمت اللحظة الهاربة امامها .. وهي تحاول - بمهارة - اقتناصها .

هكذا وقف على الرمل .. حافي القدمين .. رافعاً بنطاله حتى الركبة – مثلما فعلت هي . ظل يراقبها بصمت .. تاركاً لها حبل الحلم ليسحبها حيث تريد.. منتشياً بمنظرها .. وهي تمر بلحظات المخاض الاولى .. لتخرج الى الوجود لوحة خرافية .

كانت قد انتهت من رسم اخر موجة في لوحتها .. موجة سريعة .. وعنيفة، كأول موجة رسمتها في دربه المجهول .
اقترب من الخلف .. احاطها بذراعه ، ثم همس في اذنها :
- مهارتك في الرسم لا تجارى .
التفتت اليه .. انفاسه الدافئة تثير انوثتها . مازالت يده حول خصرها . اخذ الفرشاة من يدها ، ثم غمرها في ماء البحر .. وراح يمزج الالوان بها .. قال :
- هكذا تصبح اللوحة اكثر واقعية .. لها طعم .. ورائحة البحر .
ماذا ستطلقين عليها ؟
غابت في عينيه الزرقاوين زمناً .. ثم همست :
- … والبحر يغرق .

_ _ _


شعرت ان انفاسه مازالت تغمر جو الغرفة .. وتغمرها وسط لوحاتها التي عبث بها يوماً ، فترك عليها بصماته .. ورائحته . اغلقت الباب .. وهربت مسرعة نحو الهاتف .
قالت لرجل الهاتف – بكلمات قاطعة – وقلبها ينزف :
- يجب ان نلتقي .. الان .

وقفا معاً امام البحر – قبل الغروب . كانت تنظر الى سرب نوارس يحلق في الاعلى .. بينما راح هو يسترق النظر اليها بشغف . سألته :
- اتراها بهذا الارتفاع تبصر الضفة الاخرى ؟
رد عليها مستغرباً :
- من ..!؟
نظرت اليه متعجبة عدم فهمه لسؤالها .. وقالت :
- النوارس ..!
ثم عاودت النظر الى السماء .. بينما عاد هو يختلس النظر الى عينيها المعلقتين بجناحي نورس جنح بعيداً عن سربه .

بين صمتين .. وغياب ، ادرك معنى ان يمتلك جسداً لا روح فيه .. معنى ان يكون مجرد رجل للعبث . اخرج لفافة من العلبة ، وقبل ان يهم بإشعالها سأل بشيء من الامبالاة:
- هل كتبتي تلك القصة التي وعدتني بأن تطلعيني على بعض تفاصيلها ؟
نظرت اليه .. كان وجهها محض مسافات احتضار .. تطفو على قسماته خيبات .. وتداعيات حاولت – جاهدة – اخفاءها . ارادت ان تقول له بأنها تعلم– منذ البداية – انه ليس روائياً كما ادعى .. وانه حاول ان يشرع لها نوافذ تخترقها الريح والشمس ، لكنها بدلاً من ذلك راحت تنزع جراحها – التي احتفظت بها كنياشين للحب – الواحد تلو الاخر .. وبصوت مشحون بالأسى قالت :
- يعتريني اللحظه شعور فادح بالخيبات التي لا بداية لها ..او نهاية . انكسار مخيف .. ونزف متواصل . انه الصمت الذي يلف كل ما قبله بالرحيل .. ولا يعد برجوع مرتقب .
اما انت ...
همست بحنان ، ثم نظر كل منهما الى الاخر .. وبعد صمت - لا يذكر مداه – اردفت قائلة :
- فبعد ذلك كله .. تطلع من وسط افكاري المتزاحمة ببراءة الاثم الصادق .. لتحرضني على نفسي .
اشاح بنظره عنها ليشعل لفافته . تابعت – وهي تنظر اليه – بنبرة ساخرة :
- بامكاني ان اريك فداحة الحزن ..
اما السعادة .. فلا مقاييس لها . قد تمر بجانبك .. تغمرك .. لكنك لا تشعر بها الا بعد ان تسبقك بزمن .. تدرك بعده انها انتهت . نحن نتذكر – دوماً – الاشياء التي تبكينا .. اما تلك التي تضحكنا .. فزمنها وهم .
سحب نفساً عميقاً من لفافته ، ثم اطلق لدخانها عنان الاندغام مع الريح .. همس بلهفة :
- الا ترين ذلك الوعد المنتظر بحلم ما .. مدجج بصباحات لازوردية .. تتفتق له جراحك ليفترعها – من جديد – دروباً يحفر فيها اثاره ؟
نظرت اليه باستغراب .. وكأنها لم تكن تتوقع منه ما قد قال . احمرت وجنتاها.. وولدت على شفتيها ابتسامة طفلة . كان يترقب نظرة من عينيها بعطش من ينتظر هطول امطار سخية . التمعتا ببريق مبهم غطى على مساحة الحزن فيها .
- تريد ان تعرف من اين تبدأ الحكاية ؟ اعني القصة التي اهم بكتابتها ؟
قالت وهي تنظر الى يده التي كانت على مرمى اشتهاء . لا تدري كيف امسكت بها .. وكيف خفق قلبها بنظرة من عينيه مشحونة بالحرائق . اغمضت عينيها ، ثم اردفت :
- تبدأ من هنا ..
ووضعت يده على صدرها .. حيث يخفق قلبها وسط ينابيع من رائحة الكاردينيا .. وشذا البرتقال . وكمن عثر على اول الخيط – فامسك به – فتحت عينيها .. وبنبرة واثقة قالت .. وهي تنظر اليه :
- من هنا تبدأ الحكاية ..
من قصاصة قلب .. من ارقام سبعة .. وحروف اربعة ، لم تميز حينها اكان اسمه.. ام صفته ! ثمين ..!
جلس على ذرات الرمل الدافئة .. فجلست قربة .. وتركت للامواج حرية مطلقة لملامسة قدميها . اخرج لفافة اخرى .. واشعلها . نظر الى اناملها وهي ترتعش حباً . تابعت :
- من هنا تبدأ الحكاية ..
من جمرة لسعت اطراف اناملها .. وهي تدير قرص الهاتف ، فاستلذت روحها تلك اللسعة حتى ادمنتها .. وباركتها كلمات تسللت – من دون وعي – من القلب.. وصولاً الى القلب .

بين صمتها واحتراقه .. شعر ان شيئاً في صدره يخزه .. يأكل قلبه .. شيء يشبه الغيرة من ذلك الغريب .. او بتلك الشخصية الحبرية التي كانت تدعي الحديث عنها . لم يكن بحاجة الى ان يستدرجها اكثر من ذلك . كان يعلم ان الشرارة الاولى قد اشعلت الفتيل .. ولن ينطفئ حتى تتفجر جميع اصابع الديناميت التي تفخخ احلامها وذكرياتها بالحب .

عاودت النظر صوب الشمس التي اقحمت نفسها عنوة بين البحر .. وخط الافق . قالت – وهي تحاول التشبث باخر شعاع منها :
- من اين تبدأ الحكاية ؟
تبدأ من شرفة مسائية الالق .. مطلة على البحر .. وفي مساء تموزي لاهب .. حيث وقفت فتاة بعمر الحب ، تداعب شعرها نسمات بحر مجنون . وفي اللحظة التي التقت فيها عيناها بعينيه .. سحرته بحزنها .. او بنظرة حب كانت تدخرها له.. له وحده .. ولو لم يأت .. لما منحتها لسواه .

كان قد انهى لفافته .. وسحق عقبها بقدمه . سألها متوجساً :
- وكيف ستضعين النهاية لشخصية البطل ؟ اعني ذلك الثمين ؟
نهضت من مكانها .. ونظرت صوب السماء ، ثم قالت – بنبرة قاطعة :
- ثمين دخل البحر .. وهي تدرك ذلك .. وتدرك ان من يدخل البحر يغرق .. ولا يعود الى بره مطلقاً .
اراد ان يسألها فيما اذا كانت ستبقى تحبه .. ام انها ستشرع قلبها لملاح اخر ؟ لكنه آثر بريق الصمت .

كان قد اشعل لفافته الاخيرة .. عندما وقف الى جانبها .. ليتابع معها اخر انفاس الشمس .. وهي تلفظها بحب .. لتغرق – وتندغم في عناق مميت – مع البحر المجنون .




( 10 )


باسماً يطل وجهه
من بين طيـات الليـــل
المحترق ..
مـاداً يـديـه
لها ..
ولصغيرها .





استجــداء لاهـث للحلــم






تماوج وجهه بين طيات الليل الاسود – وهو يرتدي خوذته وبدليه الكاكي ويتمنطق بسلاحه . تراقصت ابتسامته الغائبة بين مسافات الاحتضار تنوس - حالمة - بان تطال الحنايا السمر . مدت يدها عبر النافذة تستجدي الحلم من وجه البدر الحزين .. وعبثاً ترتد اليد خاوية .. منكسرة . عبثاً تفتش و تنبش باظافرها جسد الليل لتجد ما يريح قلبها وهو بعيد .

قبضت بين اناملها على خاتمه الفضي – الذي اعتاد ان يتركه معها في كل مرة يلتحق فيها بوحدته العسكرية – وهو يهمس في اذنها :
- احتفظي به حتى اعود ..

يقبلها ويمضي . تهمس باكية .. ونبض دخيل يخفق بين جوانحها :
- اتراك ستعود حقاً يا ليث .. ؟

تلتفت الى سريره .. وتتمتم متالمة :
- وهذا الذي يتوسد فراشك .. ولما يبلغ الرابعة بعد .. لمن تتركه !؟

نظرت اليه بحنان .. يشع بريق عجيب من الابتسامة المرتسمة فوق شفتيه الطريتين . تتقرى وجهه باناملها .. تقبله بشغف مجنون .. تداعب كفيه الصغيرين، ثم تستلقي الى جانبه محاولة ان تغفو . تتململ في فراشها من دون ان يغمض لها جفن .. وكأن وسائد الريش امتلأت بالشوك .

اعتدلت في جلستها . نظرت الى صورته المعلقة على الجدار . يطالعها بوجهه الذي لوحته الشمس .. وعينيه الحادتين – كعيني صقر – وهو يرتدي بدلته الكاكي .. وبالكاد يرسم الابتسامة فوق شفتيه . وقفت امامه .. طالعته بعينين متلهفتين، دامعتين .. وقلب وجل . مدت يدها تتلمس وجهه في الصورة ، وكأنه يبثها دفئاً حميمياً . تغمض عينيها .. وتبتسم .

كانت يدها الصغيرة تنام في كهف يده ، وهما يسيران بجانب النهر صامتين .. يصغيان الى خرير الماء واصوات الحشرات بين الحشائش القصيرة . فجأة توقف.. ثم تقدم ناحية النهر وراح ينظر اليه بعمق ، وبعد صمت طويل قال :
- اتعلمين .. لو قيل لي ان مياه دجلة مرهونة بحياتي لما توانيت عن تقديمها .

اسندت رأسها الى صدره .. وقالت – بنبرة يملؤها الدلال :
- اتحب دجلة اكثر مني ؟
- بل اكثر من الدنيا وما فيها .

تفيق من شرودها على عويل صافرات الانذار . تقفز فزعة من مكانها الى حيث ينام صغيرها . تضمه الى صدرها بحنان . تهمس في اذنه :
- ليث .. اين تراك الان ؟

تشده الى صدرها .. تشده اكثر .. تتمنى لو يلتحم جسدها بجسده حتى يتكونا من جديد عظاماً.. ولحماً .. ودماً واحداً . تصمت صافرة الانذار ليتحول السكون الى وحش مخيف يتحين الفرصة لينقض على فريسته . تنصت بترقب لما سيحدث . لا تسمع سوى انفاس الطفل الذي بدأ يتضايق من ضمة امه ، لكنها تابى ان تفلته .

ما زالت تصغي .. وهي تنتظر الاسوأ .. اسوأ من عويل صافرة انذار من بعد منتصف الليل . تمر الثواني بتثاقل .. ثمة موت بطيء يذرع زوايا المنزل . تنظر الى صورته من جديد وتردد – محاولة ان تستحضر صوته الغائب :
- ليث .. ليث .. ليث ..

تغمض عينيها لوهلة .

كانت تجلس واياه تحت ظل شجرة كبيرة . تسند ظهرها الى جذع الشجرة .. بينما يتمدد هو على الارض مسنداً رأسه الى ساقيها .. تاركاً اناملها الناعمة لتداعب شعره تارة .. وتمسح جبينه تارة اخرى . كان القمر بدراً – كهذه الليلة – والسماء صافية . قال متنهداً :

- سيشيخ القمر غداً .. وسيحل الشتاء قريباً .. وسترمي الشجرة بظلالها ، ولن يعود هناك ملجأ يأوينا .

قالت - بنبرة متفائلة :

- سيولد القمر بعد خمسة عشر يوماً ..
وسيحل الربيع بعد الشتاء ..
وستتفتق البراعم الجديدة لتأوينا .
- سارحل غداً
- وسوف تعود بعد اسبوع .

رفع رأسه عن ساقيها .. قبّل يديها ، ونظر في عينيها ثم قال :
- سافتقدك .
قبلت جبينه – وبنبرة مليئة بالحب همست في اذنه :
- سانتظرك .


تفيق من الحلم على كابوس الانفجارات المتتالية .. واصوات المدافع وهي تحاول اقتناص العدو المحلق في الاعلى . تصلي في سرها ، تدعو الله ان يحفظه لها من كل مكروه . تشد ذراعيها على الطفل الذي بدأ يستيقظ .

ß ß ß

على الجانب الاخر .. كان ليث يقف وسط الجنود ليصد هجمات العدو . تقدم احدهم وقال :
- سيدي .. استلمنا اشارة بالانسحاب . انهم يكثفون القصف على هذا الموقع . كما انهم يحاولون نصب كمين لنا .

تطلع الى جهة العدو بناظوره الليلي ، ثم التفت الى الضابط الذي تحت امرته وقال:
- اخلوا هذا الموقع .. وعودوا الى المركز العام .

اخرج من جيب سترته ظرف صغير واعطاه الى الضابط ، ثم اردف :
- ان لم اعد .. اوصله الى زوجتي .
- لكن .. الن تأتي معنا ..؟!
- سأشاغلهم بينما تنسحبون .. وسأوقعهم في الحفرة التي حفروها لنا . خذوا ما يكفيكم من الذخيرة ، واتركوا قذائف الهاون لي .

ضم الضابط بين ذراعيه .. وصافح جنوده ، وقال :
- ليرعاكم الله .

ثم تركهم ينسحبون الى موقع اخر .. بينما ظل هو يشاغل العدو بالرمي من اماكن متفرقة .

ß ß ß


ما زالت تضم صغيرها الى صدرها . يقترب صوت الانفجارات . تنظرالى الجدران التي بدأت تهتز كاوراق في مهب الريح . ترتل سوراً من القرآن .. يبتعد صوت الانفجارات .. ويتلاشى صوت الطائرة . يخيم الهدوء على المكان . تفك رباط ذراعيها عن الصغير ليتنفس . تتمتم بوجل :

- لن يقتلوا المدنيين .. هذا ما قالوه ..

لم تكمل عبارتها حتى تهاوت الجدران وتكسر زجاج النوافذ .









( 11 )







عطر الاياب

يحس ان رأسه عبارة عن ماكنة ، لا تتوقف عن الدوران .. وان هذا الليل يضيّق الخناق عليه .. وهو وحيد من دونها .

الساعة تجاوزت التاسعة مساءً بعشر دقائق .. وهي لم تعد بعد . قالت له بنبرة جادة :
- سأترك لك البيت والاولاد .. وسأرحل . ارني ماذا ستفعل من دوني ؟

عبّ فنجان قهوته الثالث .. وهو يذرع حجرة الاستقبال ذهاباً .. واياباً ، وكلما اقترب من الشرفة يفتح ستارتها .. متأملاً ان يراها تفتح الباب الكبير .. وتدخل ، ليتوقف عقله عن التفكير بالاشياء السيئة التي قد تصيبها .

القى بجسده المتعب على الاريكة .. وراح يقلب صفحات مجلة للازياء ، غير آبه بمحتوياتها .
- اتراها ستنفذ تهديدها .. ؟
همس لنفسه وهو ينظر الى صورتها المعلقة امامه .

قبل شهر .. او اكثر ، قالت له والدموع تغمر عينيها :
- لقد تعبت من البقاء وحيدة طيلة النهار .. والليل ، وانت غارق في اعمالك التي لا تنتهي ابداً .

اتجه ناحية غرفته بتردد . ادار اكرة الباب ودخل . ما زال عطرها يغمر الاركان الصغيرة .. وكأنها كانت هنا قبل ثوانٍ .
استلقى فوق السرير .. مرخياً ازرار قميصه – العليا – وحزام بنطاله .. فاتحاً ذراعيه على اتساعهما .. معلقاً عينيه في سقف الحجرة المعتم . كان يتنفس ببطء .. مغلقاً جفنيه .. مصغياً بحواسه الى حركة ما .. قد تعود في اية لحظة .. قد تسامحه .. وتغفر له هفوته . ينصت الى صوتٍ ساخر ينبع من اعماقه وهو يردد :
- هفوة ..! هفوتان ..! عشر هفوات ..!

صوت اصغر اولاده الثلاثة يبكي . صدى بكائه يوقظه من غفوته . يسرع نحو الحجرة المقابلة . يفتح بابها .. يرى اطفاله وهم يغطون في نوم عميق .
- لابد انه الحلم ..!

يشعر بالانهاك .. والماكنة – في رأسه – تتابع دورانها من دون توقف . يعود الى حجرته ضجراً . يتخلل عتمتها نور القمر . يضطجع من جديد فوق السرير . الريح تداعب مخمل الستائر .. وتلفح وجهه ببرودة يرتعش لها . يمد يده الى مكانها قربه .. ما زال خاوياً .. وبارداً . يرمق الساعة في يده .. يتفحصها بعين نصف مفتوحة – على مرمى شعاع خافت للقمر . تشير الى الحادية عشرة .

ينهض مضطرباً .. يشعل لفافة . يسحب منها نفساً عميقاً . تباغته نوبة سعال شديدة . قالت له قبل اسبوعين :
- عليك ان تترك التدخين .. لقد بدأت اثاره السلبية تظهر عليك .
اطفأ اللفافة .. وعاد ليضطجع فوق سريره .

اغمض عينيه .. ولوهلة سمع صريراً خافتاً لباب يفتح ، لكنه ابقى عينيه مغمضتين .. وراح يستحضر صوتها الدافئ .. ووجهها الناعم . انفاس دافئة تقترب من وجهه .. تقبله في خده الايسر . يبتسم . تتحرك الانفاس نحو الاعلى .. تطبع قبلة فوق جبينه .. فوق جفنيه .. يل
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد

ملخصات تغذية الموقع
جميع حقوق النشر محفوظة 2009 - (صنعاء نيوز)