بقلم: احمد عبد المعطي حجازي -
أظن أن باستطاعتنا اليوم أن نطرح للنقاش قضية ألف ليلة وليلة طرحا مباشرا, بعد أن قدمنا لها تقديما كافيا في المقالين الأخيرين: ما الذي يأخذه المحامون التسعة علي ألف ليلة وليلة؟
ولأن المحامين التسعة ليسوا مجرد محامين, وليسوا مجرد تسعة, وإنما هم جماعة تكاثرت وتعددت مجالات نشاطها وأصبح لها أنصار وحلفاء يؤيدونها ويمشون في ركابها. ولأن هذه الجماعة دأبت علي الترصد للأدباء والمفكرين والفنانين المصريين والتفتيش في انتاجهم لعلها تجد فيه كلمة أو عبارة تسوقها وتسوق صاحبها إلي المحكمة بتهمة الخروج علي ما يسمونه ثوابت الأمة فلابد أن نأخذ هذه الجماعة بشئ من الجد وأن نناقش هذه العبارة التي أصبحت شعارا مرفوعا وعلامة مسجلة علي كل ما يناقض العقل ويمنع من التفكير والاجتهاد.
ونحن نري أن الأمة, أي أمة, لها ما تتفق عليه وما تختلف فيه الأمة أجيال وطبقات, ومذاهب وديانات, وأحزاب وطوائف. وهذه كلها اختلافات لا تمنع الأمة من أن تكون جماعة متضامنة لها تاريخها ولغتها وثقافتها ومصالحها وأهدافها التي تهم أفرادها جميعا, وتضمن لهم الأمن والحرية والرخاء. أما الأمة بمعني الرعية, أو الملة, أو الكنيسة التي ينفرد بالسلطة, فيها فرد أو أفراد يعتبرون أنفسهم مرجعا وحيدا, ويظنون أن مايرونه هم حقائق ثابتة يفرضونها فرضا علي غيرهم فهذا من مخلفات العصور الوسطي التي فقدت مبررات وجودها في العصور الحديثة. وعلي المتخلفين الذين يصلصلون بهذا الشعار ويخوفوننا به أن يكفوا, فلسنا في مهرجان, ولسنا في كوميديا تاريخية, ولسنا في كرنفال نستعرض فيه أزياء العصور الماضية, أو نتحدث بلغتها, أو نرفع شعاراتها.
نحن أبناء هذه العصور الحديثة. ومن حقنا أن نفكر بحرية, وأن نعبر بحرية, وأن نختلف فيما بيننا حتي علي الثوابت. لأن الثوابت ليست واحدة بالنسبة للجميع ولا بالنسبة لكل عصر. والذين يريدون أن يجعلوها واحدة يريدون أن يستبدوا برأيهم هم ويفرضوه علي الجميع كما كان عمدة القرية أو شيخ العشيرة يفعل. لكننا الآن أفراد ولسنا عشائر, وأحرار ولسنا أرقاء. فمن حقنا أن نتفق ونختلف حتي علي الثوابت.
لا يحق لأحد بالطبع أن ينفي حقيقة ملموسة, سواء كانت مادية أو معنوية. لكن من حقه أن يتصورها كما يراها وأن يفهمها بقدر ما يستطيع. ولنا الحق في أن نختلف معه في التصور والفهم وأن نناقشه لنقترب معه من الصواب ونبتعد معه عن الخطأ, فماذا يقول المحامون التسعة عن ألف ليلة وليلة؟ إنهم يتهمونه بالفحش. ونحن لا نختلف معهم بالطبع في رفض الفحش, وإنما نختلف معهم في تصوره.
يقولون إن الكتاب فيه كم هائل من العبارات الجنسية الصريحة المتدنية الداعية إلي الفجور والفسق واشاعة الفاحشة وازدراء الأديان... ونحن نعرف جميعا أن في كتاب ألف ليلة وليلة عبارات جنسية صريحة, لكننا نعرف أيضا أن هذا الكتاب تمثيل صادق للتراث الشعبي بكل ما فيه من عفوية وصراحة وبعد عن التزمت والتكلف ورغبة في التحرر والانطلاق. ونعرف بالاضافة إلي ذلك أنه قصص وحكايات تصور مختلف الفئات والأوساط والنماذج البشرية, فليس منتظرا أن يتحدث الإسكافي كما يتحدث الفقيه, أو تتصرف الفتاة البريئة كما تتصرف المرأة المجربة.
والجنس ليس كله فحشا, وليس مجرد شهوة أو رغبة حيوانية, وإنما هو الغريزة التي تحفظ للانسان نوعه, وتضمن للبشرية أن تواصل حياتها وتقدمها وتحضرها.
هذه الوظيفة البالغة الخطر والحيوية تفرض علي البشر أن يحترموا الجنس ويحيطوه بشروط تحميه من القهر والغصب والابتذال, وتجعله مودة ومحبة وليس مجرد حاجة عضوية, وكما عرف الانسان اللغة وخرج من الصياح والنباح الي التفكير والتعبير, عرف الحب, وتغني بالمحبوبة, وتغزل في جمالها الذي جسد له جمال الحياة. فالحياة الحب والحب الحياة كما يقول شوقي. هو من سرحتها سر النواه/ وعلي صحرائها مرت يداه/ فجرت ماء وظلا وجني!
ولقد قدس أجدادنا القدماء الجنس واتخذوه آلها يعتبر من أقدم الآلهة المصرية, وهو مين الذي كان يصور في هيئة رجل يرفع بإحدي يديه شارة من شارات الملكية, ويمسك بيذه الأخري عضوه المنتصب ولأنه إله الجنس فهو آله الخصوبة, ولهذا كانت أعياده تقام في مواسم الحصاد. والجنس لم يضطهد إلا في العصور الوسطي التي اضطهدت الحياة كلها واعتبرتها خطيئة يجب التكفير عنها والفرار منها الي الأديرة.
لكننا نعرف أن حياة الحرمان في الأديرة لم تحول البشر الي ملائكة, وانما حولت الرغبة الجنسية الطبيعية لدي البعض إلي سلوك مريض قرأنا عنه في الصحف الايطالية التي تحدثت أخيرا عن مئات الأطفال الذين تعرضوا للاعتداءات الجنسية من جانب بعض الرهبان.
والذي يحدث في هذه الأديرة يحدث في كل المجتمعات المغلقة ومنها مجتمعنا الذي تعمل بعض الجماعات علي تحويله إلي دير ضخم أو معتقل ديني لكل المصريين ترتكب فيه أبشع الجرائم كما حدث في جمعية الطفولة السعيدة التي تعرض فيها الأطفال المصريون المعاقون لما تعرض له الأطفال الايطاليون!
هكذا يتحول الجنس إلي فسق وفجور. فالتشدد يصيب الناس بنوع من الهوس يصبح فيه الجسد الانساني كله عورة أو تهمة يجب اخفاؤها والتبرؤ منها وكبت احتياجاتها ورغباتها الطبيعية إلي الحد الذي ينتهي بالانفجار والانحلال الذي نسكت عنه ونحاول ستره علي السطح فنفرض الحجاب والنقاب, ونفصل بين الجنسين, ونطالب بمصادرة ألف ليلة لأنها تحتوي علي بعض العبارات الصريحة, لكننا نغض النظر عن الانحلال الحقيقي الذي ينخر في الداخل ويعبث فسادا في الأعماق.
ان جرائم الاغتصاب, والاعتداء علي الأطفال, وتزويج القاصرات للسياح العجائز, وقتل الزوجات والأخوات والأمهات بحجة الدفاع عن الشرف ـ هذه الجرائم لا تتسبب في ارتكابها الكتب والأفلام التي يطالب المحامون التسعة بمصادرتها, وانما يتسبب فيها التشدد والكبت والعنف والفقر وسواها من الأمراض والمشاكل والظواهر التي تحول دون قيام علاقات طبيعية بين الرجال والنساء, وتؤدي الي استفحال ظاهرة العنوسة, في الوقت الذي يتصدع فيه بنيان الأسرة.
العبارات الجنسية الصريحة ليست مصدر الخطر الذي يهدد أخلاق المصريين والكلام في الجنس لا يتعارض دائما مع العفاف والحياء. والفحش ليس مجرد كلمات أو عبارات, ولكنه سياق وتصور. التعري في عيادة الطبيب غير التعري في الشارع. والأم الشابة التي ترضع طفلها من ثدييها علي قارعة الطريق لا يمكن أن تتهم بالفحش. ولا يمكن أن تثير فينا إلا أرق العواطف وأنبلها, أما الجنس فلن يستثار إلا عند المهووسين به من المرضي والمحرومين ومدعي الطهارة والمتاجرين بالكلام عن الأخلاق والدين. وللحديث بقية.
جميع حقوق النشر محفوظة لدى مؤسسة الأهرام،و يحظر نشر أو توزيع أو طبع أى مادة دون إذن مسبق من مؤسسة الأهرام
راسلنا على البريد الاليكترونى
[email protected]