صنعاء نيوز/محمد عبد الوهاب الشيباني -
في اغسطس 1989 تعرفت اول مرة الى حاضرة لحج وعاصمتها مدينة الحوطة ، ما اثار انتباهي حينها طابع الحياة البسيطة للناس ، وتعاملهم مع وسائل (بدائية) في تدبير شئون حياتهم ابتداء من استخدام عربات (جواري) الجمال والحمير لنقل مستلزماتهم واغراضهم . سيارات (لاند روفر) العتيقة والقليلة فقد كانت تمثل اللحظة الاكثر تطورا في مظهر التنقل ، اما الافران القديمة و (معاصد) الحلويات اللحجية الشهيرة فكانت تتكوم امام ابوابها احمال الحطب التي تستخدم كوقود .
صحيح مثل هذه المظاهر كانت حاضرة ، وان بنسب اقل في المناطق الشعبية من عدن وتحديدا في مناطق الشيخ عثمان و دارسعد وبقية مدن الجنوب آنذاك ـ التي بدأت تتخلص من التحامها بحداثة الوسائل منذ استقلال 1967ـ لكنها لم تكن مثل العادة المتطبعة في حياة كل الناس على نحو اهل الحوطة ، الذين كانوا يستبدلون الشقاء هذا بالإقبال على الحياة من ابوابها الاكثر بساطة ، اذ كنت لا تعدم وانت العابر في ازقتها وحواريها ، سماع اصوات الطرب اللحجي الاصيل ، واشتمام روائح (الفل والكاذي والمشموم والبخور) المنبعثة من المساكن والدور البسيطة في العصاري والاماسي .
مظاهر الحياة هذه لم تزل حاضرة بقوة في ايام اهل الحوطة ، وكأن العصر لم يمد يدا جانية على رأس المدينة ،التي كانت احدى بناته المخلصات قبل سبعة عقود !!
منذ سبعة اعوام لم تنقطع زيارتي للمدينة (بحكم عملي) وفي كل زيارة يتكرر ويكبر بداخلي نفس السؤال:
لماذا هذا الاهمال لمدينة الحوطة ؟؟ التي تحضر في ذاكرة التاريخ كواحدة من معاقل العلم والجمال والثقافة وهي التي منذ اواسط اربعينيات القرن المنصرم (عرفت في تاريخها النظم الإدارية والقوانين وغيرها من وسائل حكم الدولة العصرية، وهذا ما جعلها عاصمة أهم سلطنة في جزيرة العرب في تلك الفترة من التاريخ) ودلت الوثائق ان كثير من القوانين التي اعتمدت لإدارة شئون السلطنة ومنها قانون تعيين السلطان نفسه التي جاء في احداها :
( أن منصب السلطان في السلطة العبدلية ليس بالتوريث ، ولكنها عملية انتخابية تقوم بها الهيئة التقليدية الانتخابية اللحجية المؤلفة من 14 عضواً من الأمراء والمشايخ والعقال ، الذين هم منتخبون ويمثلون جميع شرائح الشعب ومن مهامها الدستورية عزل السلطان، إذا كان بقاؤه سوف يمس الأمن القومي والمصالح العليا للبلاد ، وتعيين السلطان الجديد بالانتخاب من بين المرشحين من الأسرة الحاكمة ممن تتوفر فيه شروط الكفاءة، والإخلاص والأمانة وهذا ما كان يتم مع أسلافه من السلاطين). اما اول دستور في الجزيرة العربية ينظم شئون الحكم وعلاقة المواطن بالدولة صدر في فبراير من العام 1951 في عاصمة الدولة العبدلية بالحوطة.(*)
على مدى السنوات المنصرمة ، لم الحظ أي عناية بالمدينة من ناحيتي العمران او الخدمات ، وان المباني الحديثة القليلة وخصوصاً مباني المؤسسات الرسمية زرعت في فضاءات اقرب للعشوائيات في اطراف المدينة او في حواريها المزدحمة، ولم تضف أي ملمح جمالي للمدينة وان الخدمات العامة تتناقص يوما بعد اخر واخرها ازمة المياه المتواصلة فيها وهي القابعة على اكبر حوض مائي في دلتا تبن.
في الاشهر الاولى بعد الوحدة سمعت ُطُرفة تقول ان مجموعة من وجهاء المدينة قرروا الذهاب الى المحافظ حاملين معهم هموم المدينة وحالها المتدهور وكان المحافظ حينها يدعى( الاعجم) وحين وصولهم الى مسكن المحافظ خرج اليهم الحرس وابلغوهم اعتذار المحافظ عن مقابلتهم لمرضة فصاح احدهم قائلاً (اعجم ومريض كمان!!).
ستكشف السنوات اللاحقة ان حظ المدينة مع المحافظين خلال ربع قرن منذ الوحدة سيكون بذات العثرة ،فلا واحد منهم ترك اثراً لمحبته للمدينة يتشكره عليه الناس .
المدينة تتآكل من الداخل ، وتحولت مع سنوات الاهمال الطويلة الى فقاسة لجماعات العنف ،منذ بدأت هذه الجماعات الاعتداء على الاضرحة والقبور والمزارات التي تشتهر بها المنطقة، منذ سنوات الوحدة الاولى، دون ان تجد من يردعها.
نفسيات الناس والشباب منهم على وجه الخصوص تتدمر بشكل فاجع ، وتلقائيا تجد تنفيساتها في الاشتغال (المناطقي) الفج ، الذي لا تسلم من ايذائه المجموعات البسيطة من المواطنين المنتمين الى مناطق في الشمال ، الذين بدأوا بترك المنطقة الى فضاءات اخرى تنفتح فيها اذرع التعايش الحانية.
الاثنين الماضي 26 مايو2014 كنا في زيارة ميدانية لإحدى مدارس منطقة الحمراء ، في ضواحي الحوطة واثناء قيامي بالتصوير همس في اذني احد الزملاء من ابناء المنطقة كن حذرا المنطقة صارت احد بؤر جماعات العنف في المنطقة، التي ترى في التصوير منكراً بائناً ، وفي طريق العودة تفاجأنا بوجود نقطة لمجموعة من المسلحين الملثمين قيل لنا انهم من اللجان الشعبية التي تشكلت برعاية رسمية لمجابهة جماعات العنف بذات الوسائل ،عوضاً عن الاجهزة الامنية، الغائبة عن حياة الناس.
احد الاصدقاء في الحوطة قال سيستضيفني حتى قبل المغرب بقليل او الاقامة لديه الى اليوم التالي، دون المجازفة بمغادرة المدينة ليلا الى عدن! سألته لماذا ؟؟قال ان المدينة تتحول الى مدينة اشباح حينما يهبط الليل، وفيها تنتشر الجماعات المسلحة ، وتكثر التصفيات واعمال القتل المجاني، لهذا لا يغامر الكثيرون بالخروج من مساكنهم ليلاً لأي سبب كان !!
اثنا تجولنا في شوارع المدينة وحواريها لتصوير اكوام القمامة المغطاة بالذباب ـ التي لم ترفع منذ اشهرـ وطفح المجاري ـ التي صارت اشبه بأنهر جارية ـ وسرحان المواشي والحيوانات في الشوارع العمومية المخلعة ـ واختلاطها بالناس كمثل مدونة لسيرة التلاحم ـ ،قام بدور الحارس الشخصي ، لخوفه من تعد بلطجي لكسر الكاميرا، خصوصاً اذا اشتم من لهجتي اني لست من ابناء المنطقة!!
ومثل كثير من مدن ومناطق الجنوب نقول ان الحوطة تدمر كمكان وبشر بطرق بشعة ، وان هناك من يتواطأ مع هذا الفعل من ابنائها انفسهم، الذي من المفترض ان يخطوا الخطوة الاهم في تنظيف المدينة، وتجميلها وانتاج فعل توعوي بتاريخ المدينة ، واسهاماتها التحديثية الباكرة في المنطقة في اوساط ابنائها البسطاء ، الذين بحاجة لمن يرشدهم الى الفضاءات الاكثر تسامح ومحبة لمدينتهم .
(*) من تاريخ سلطنة لحج العبدلية صحيفة 14 اكتوبر 5 نوفمبر 2012 |