صنعاء نيوز/بقلم / محمد نعيم فرحات -
منذ أمد بعيد موغل في القدم، بنى الغرب عموماً، والقوى المتنفذة فيه خصوصاً، موقفاً عدوانياً إزاء العالم العربي والإسلامي، قام على سوء فهم مقصود ومنحرف، تولت الاعتقادات والأفكار المشوهة المدعّمة بالممارسات الخاطئة تحويله إلى سوء فهم مقدس، ثم قامت هيئات ومؤسسات عاتية على غرار مؤسسة الاستشراق الانجلو سكسوني تحديداً – بإعادة إنتاجه وتنميته وتصعيده وتأكيده أو كما يقول إدوارد سعيد «تحويله لمصاف ممارسة ثقافية صلبة»، وحدها فقط، الأمم الممتلئة بذاتها، تجنّبت هذا المنزلق على غرار ما فعل الألمان و«بعض» الاستشراق الفرنسي.
لا، لم يسبق لأمة أو طرف أو جهة أو إمبراطورية، أن اهتمّت بثقافة أخرى مثلما اهتمّ الغرب بالثقافة العربية الإسلامية وحامليها، على نحو مشوّه وغاشم وظالم عموماً، وقد وفّر بعض «المحسوبين قهراً وزوراً» على الثقافة العربية الإسلامية وهم كثر كغثاء السيل، ما يدعم وجهة نظر الغرب المصمّمة سلفاً عن العرب والمسلمين، هنا ليس من المثير في شيء، أنّ المحسوبين زوراً على العروبة والإسلام هم بالذات حلفاء الغرب الموضوعيين وشركاؤه في التشويه، وقد تجنّب الغرب عن قصد، وعن وعي خبيث، التعامل مع البنيات الحقيقية والأصيلة التي تمثل جوهر الثقافة العربية الإسلامية الحقيقية القادرة على بناء الشراكات المجدية والمتينة.
وقد عبّرت هذه العدوانية عن نفسها قديماً وحديثاً، بصور وأشكال مختلفة امتدّت من التصوّرات والتمثلات إلى الوقائع، وإذا كانت حروب الفرنجة نموذجها القديم، فإنّ عملية استعمار العالم العربي بعد تفكيك الامبرطورية العثمانية قد كانت نموذجها المتجدّد الذي واصل الموروث القديم وأضاف له فصولاً كثيرة، وصل لذروته عبر مساهمة الغرب الحاسمة في إقامة دولة «إسرائيل» في قلب العالم العربي والإسلامي وفي صميم جغرافيته وروحه معاً، ولم يدّخر الغرب ذاته جهداً في رعاية «إسرائيل» كفكرة فدولة فسياسات وتدعيمها وتوظيفها. «إسرائيل» التي يرى أديب ديمتري بأنها تمثل «ذروة العدوان الغربي على الشرق».
وعدوانية الغرب وغرائزيتها ولؤمها، هي المعطى الذي يفسّر الخلفية الحاكمة لفهمه وتعامله مع المنطقة وشعوبها وقضاياها، وفي هذا السياق استخدم الغرب العقل بصورة سلبية ومدمّرة، معادية للمنطق السليم، حتى من زاوية تحقيقه لمصالحه الحيوية، كما كان استخدامه للعقل على خصومة مع الموضوعية، لأنّ الموضوعية تفترض من الغرب طريقة أخرى في التعامل، تضمن له مصالحه المشروعة وتحققها على نحو أدوم وأفضل وأحسن وأليق… مقبول ومتوازن، وبفهم ممارسات الغرب من هذه الزاوية يمكن العثور على كلّ ما من شأنه أن يدين عقله العدواني، ويكشف عن تناقض أخلاقي وفكري وسياسي فادح، يقوم داخل منظومة تفكيره، كما يكشف عن مدى فساد رؤيته وسلبيتها، وهنا يصبح من الطبيعي أن نرى المنطق السليم والموضوعية في رؤية الأشياء وفهمها كضحايا لهذا الفساد.
كما أنّ العدوانية اللئيمة ذاتها، هي التي تفسّر موقف الغرب المعادي على نحو حاسم، للنزعة التحرّرية الاستقلالية ومن يحملها في المنطقة، التي قامت في حواضر العرب تحديداً، من جمال عبد الناصر والحالات التي سبقته، أو من الانعتاق الجزائري، أو من دولتي «البعث» في سورية والعراق أو من تحرير اليمن، أو موقفه من الحقوق الوطنية للفلسطينيين، التي كان الغرب الماكر يرى نتائج مساهمته الحيوية في تحطيمهم كشعب، دون أن يرفّ لعقلانيته المدّعاة جفنا، وادّعاءاته عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها.
وفي كلّ لحظة أو موقف يرتبط بالمنطقة وقضاياها برهن الغرب على سقوط أخلاقي للمنطق الذي يعتمده ضدّ النزعة التحرّرية لشعوبها والحركات التي مثلتها، علماً أنها حركات لم تطلب سوى ممارسة حقوقها الطبيعية المشروعة، ولم تشكل تهديداً لأحد، ولم تطرح مساساً بمصالح أحد، طالما أنه لا يمسّ مصالحها وعواطفها ويحترم طموحاتها، ولم تطالب بغزو أحد، بل طالبت الجميع بكفّ يدهم عن إيذاء شعوب المنطقة واستغلالها واستباحتها، ودعت الغرب حصراً، نظراّ لاعتبارات عدة، لعلاقة سوية متوازنة، تلبّي المصالح المشتركة، وتقوم على الاحترام. ورغم ما كانت توفره هذه الخصائص من فرص للغرب لتعديل أخلاقه وتصويب نظرته للمنطقة ولشعوبها، إلا أنه أبى، وكان تكفيرياً بالمعنى السياسي والثقافي والفكري في هذا الصدد.
ورغم أنّ الغرب ذاته، ناهيك عن «إسرائيل» بالطبع، كان يرى حجم المتغيّرات الحاصلة في المنطقة بحكم مفاعيل عدوانيته في وعي المغلوبين والمظلومين وضحايا سياسته، وما ترتب عن ذلك من مقاومات، إلا أنه لم يجنح لتعامل عاقل معها، وعوضاً عن اختياره للتفاهم مع القوى التحررية التي تحمل مشروعاً تحديثياً له علاقة بالعصر، تمادى في عدائيته من جهة، وعزز روابطه وحمايته لتركيبات تقليدية محلية متخلفة أو مشتبهة لا تمتّ إلى العصر وقيمه بِصلة، ودعم حضورها كضامن ضعيف لتحقيق مصالحه ورؤياه ومواقفه، وأخيراً أفصح عن روابطه المتعدّدة مع التطرف والإرهاب ومنتجيه وحاضنيه، كأدوات يستخدمها لتدمير المنطقة وحواضرها، كما ظلّ يمعن في تدعيم «إسرائيل» حتى وهي تتحوّل إلى عبءٍ ومأزق.
وصيرورة الصراع المركب المتواصل بين عدوانية الغرب من جهة، والمقاومات المتعاقبة في المنطقة ضدّها من جهة أخرى، تكشف عن تحوّلات ذات مغزى سيكون لها أثرها العميق، إذ يلاحظ بأنّ عدوانية الغرب والوعي الذي يقف وراءها تتحوّل من عدوانية لئيمة إلى عدوانية حمقاء وعبيطة وغبية وقاصرة عن التكيّف العاقل مع ضغوطات الواقع، حيث حافظ الغرب فيها على تعامله القديم الذي لم يعد نافعاً مع متغيّرات المنطقة الجديدة، بينما كانت المقاومات المتتالية والمتراكمة في المنطقة ترث بعضها بعضاً وتتجاوز نواقص التجارب السابقة، وقد بلورت أبعاد نموذجها المُجرّبِ في ميادين الصراع، والذي أظهر بأنه غير قابل للانتكاس أو الانكسار، كما برهن على أنه يتعاطى مع المشهد بوعي عميق وبأدوات تناسب اللحظة ويحشد ويوفر شروط التواصل والإنجاز ذهنياً ومادياً.
ومنذ وقت ليس قصيراً أصبح زمن المنطقة واحتمالاته يتغيّر في غير صالح القوى النافذة في الغرب، وفي غير صالح «إسرائيل»، ولكن الوعي الحاكم فيهما لا يريد أن يرى ذلك، بل إنه راح يزوّد منطق العدوان بقوة التكفير.
وفي المنعطف الخطر الذي تعبره المنطقة والعالم، الذي يمكن وصفه بأنه الأخطر منذ ألف عام، تجري معارك الحشد والتمكين والتخندق الإيديولوجي والنفسي والمادي جنباً إلى جنب مع المعارك الفعلية، وتتواجه على نحو قاس ومركب قوتين، لهما امتداداتهما المحلية والإقليمية والكونية، قوة التحرّر والانعتاق الساعية للتحكم الحرّ بالمصير مقابل قوة الهيمنة والاحتلال المستندة الى غباء العدوانية وحماقاتها ولؤمها.
وفي هذا السياق يمكن أن نفهم مثلاً، كيف أنّ الاعتداء على الصحيفة الفرنسية لم يفضِ بفرنسا – التي لم تكن بحاجة لبيان دموي في شوارعها – لمراجعة السياسات الخاطئة والعقيمة والموتورة التي انتهجتها إزاء المنطقة وشعوبها وقضاياها. كما يمكن أن نفهم كيف انّ تضخم الإرهاب والتكفير في المنطقة، والذي تمّ برعاية وتوظيف غربيين لتحقيق مأربه فيها، بات يرتدّ على نحو أو آخر على صانعيه ويقوم بجولات أفق في عواصمهم، ومع ذلك فإنّ هذا لا الأمر لم يدفع بالغرب ذاته نحو مقاربة مختلفة للمشهد في المنطقة.
وفي هذا الإطار نستطيع أن نفهم، كيف أنّ غباء القوة هو الذي قاد «إسرائيل» إلى عملية القنيطرة، التي استدرجت لها مهانات استراتيجية مباشرة وبعيدة المدى والأثر، دون أن تضع العملية كما سابقاتها حداً من أيّ نوع للمخاطر التي تهدّدها.
تشهد البيئة الاستراتيجية في المنطقة تبدّلات عميقة تتبلور في سياق منظومة من المعارك التي تمتدّ نيرانها في اتجاه يتفاقم من معركة إلى أخرى، بما يحدّ من قدرة الغرب و«إسرائيل» معا على التصرّف بالقوة الهائلة التي بحوزتهما ويضعهما في كنف ضائقة عميقة، حيث لم يعد بمقدورهما الاستباحة والبطش بدون حساب وأثمان.
وعلى نحو أو آخر، يمكن معاينة كيف يعود الغرب «كأزعر» للعالم و«إسرائيل» «كبلطجي» في المنطقة فيما يداهما مغلولتان من حيث القدرة وليس من حيث القوة. بينما التاريخ الماكر، والمفترسون الكثر، والصاعدون الى حقهم، يملأون المساحات ويغتنمون ضعف القدرة وفرضيات الفشل الغربية «الاسرائيلية» الإقليمية المتحالفة، ويوظفون نتائج العطب البنيوي العميق الذي لا شفاء منه الذي يحكم نظرة الغرب للمنطقة وشعوبها وحقوقهم.
وفي المعارك المترامية والمتنافذة على مسرح حواضر العرب تحديداً، من سورية الى العراق الى لبنان الى مصر فاليمن، وملف ملفات المنطقة المتمثل في المسألة الفلسطينية وصولاً الى إيران فرهانات روسيا والصين، تتكاتف المعطيات التي تجعل من الحرب الكبرى ضرورة لحلّ قضايا المنطقة، حرب تقوم عبر معارك متعدّدة لا ينقصها سوى إطلاق النيران الموسع والشامل والمكثف بين المتحاربين بالجملة، ووصولها إلى الفصل الحاسم، وفي هذا المنحى بالذات تلعب العدوانية الحمقاء وممارساتها دوراً رئيسياً في تسعير الحرب واستقدامها وتسريعها.
وفي تدرّج المعارك المختلفة نحو الحرب المركبة وتحوّلها الى «أمّ معارك» تكمن صياغة العالم جديد، حيث سيكون الاندحار الثقيل للطرف الخاسر بالنقاط، كما سيكون الفوز المكلف للرابح أيضاً بالنقاط، بيد أنها حرب تقول مؤشرات الواقع بأنّ الذي سيفوز بها، هو الطرف الذي يتمتع بالمناعة الوجودية، وبالأحقية وبالإيمان، وصاحب الخيال الاستراتيجي والإرادة والتصميم الذي يوظف المعرفة والمهارة والقدرة في إطار أخلاقي، وسيخسرها أصحاب العدوانية اللئيمة والحمقاء الذين لم يروا الشرق يوماً كما هو وكما يرى نفسه، بل كما صمّموه وغرّبوه عن نفسه وعن سجاياه.
كاتب واستاذ جامعي من فلسطين
* نقلاً عن صحيفة البناء