صنعاء نيوز/عبدالكريم المدي * -
كنت في جلسة مع الدكتور القدير عادل الشجاع وبعض الإخوة الأعزاء ، ومع اشتداد القصف وقوة الانفحارات وكثافة الدفاعات الجوية خرج الأستاذ طه أحمد علي للشارع محاولا التعرف على مكان تلك الانفجارات الضخمة ، قلت له اسرع بالدخول الشضايا والراجع خطرة عليك ، وكان قد ادرك أن القصف والانفجارات في جبل نقم على مقربة من سكني الذي تتواجد فيه عائلتي ، قال لنا : هي نغادر ، غادرنا وبينما نحن نقترب أكثر وأكثر أدركت حجم الكارثة ، أدركت إن أولادي وزوجتي وشقيقي مفضل الذي سبق وأن أتصل بي وسأل أين أنا ، وغادر من فوره باتجاه براكين نقم التي تطلق حممها في كل مكان ، كلما كنت أقترب من المكان أحس إن روحي بالفعل تكتوي بين ذلك الكم الهائل من الهلع والدمار والغازات والخوف المنتشر في الأرجاء ..كنت أضغط على دواسة البنزين بكل قوة .
وبعد أن نقلت باسل وأمه إلى مكان الصافية، عدت أبحث عن البقية ، وجدت محمد ، ولم أجد لجين وسعاد ، المتواجدتان في بيت آخر بنفس الحي ، لم يرد على إتصالاتي وطرق باب ذلك البيت أحد ، كاد قلبي يتشقق وأقدامي تتسمر في المكان، أحسست من جديد إن العالم مظلم ودمي لم يعد يتدفق في أركان أوردتي ، حلقي وفمي يزدادان جفافا ، كنت أحاول التخفيف من بكاء قلبي وأنين روحي المشطورة بمنادة محمد وضمه إلى صدري، كنت أرى لجين وسعاد في كل ثانية ألف مرة وهن يتقافزن أمام عيني ، تفقدتهما بين مئات الأطفال الذين رأيتهم يسبحون في بحرمن الضياع والخوف والظلام والدخان الذي يغطي الشوارع والأزقة، كنت ، أصرخ : لجين ، سعاد ، مفضل ، لكن لم يجبني أحد... ، غادرت جسدا وبقيت روحا وعقلا وقلبا . غادرت خوفا على حياة محمد ورحمة بالنساء والأطفال الذين سبق وأن أقليتهم معي في السيارة.
ومن فوري أجريت مكالمة متعلقة بلجين وسعاد..
نقلت من كانوا على سيارتي لهنا وهناك وبينما كنت أطلب من محمد الترجل من السيارة ، إذبمكالمة تأتيني بصوت مكلوم ومتعب ، لكنها كشفت عن صدري وعيوني ونفسي غيمة وغمة ، إنه شقيقي مفضل ، الذي تم منعه من تجاوز الطريق لباب اليمن ومنها إلى نقم .. طلبت منه أن ينتظرني تحت جسر الصداقة في التحرير ..ذهبت مسرعا إلى هناك وسط وحشة وظلام وشضايا زجاجات تتطاير في كل اتجاه وأناس يهرعون ولا يعلمون إلى أين..!
تحت جسر الصداقة وقفت بالسيارة وأخذت أركض هنا وهناك بحثا عن شقيقي ، كان المكان يعج بالظلام الدامس وآلاف الناس الذين يتسابقون باتجاهات مختلفة وكلها تبد نحو المجهول واللامكان .
بأعلى صوتي كنت أنادي : مفضل ، مفضل ، مفضل . طاقة مخفية ومخيفة كانت تمتص نداءاتي العالية وتبتلع معها أي صدى، في أكثر من مكان واتجاه تحت الجسر بحثت عنه، وأخيرا أستسلمت وغادرت عائدا نحو منطقة الصافية ، والفوضى والسكون تعم كل زاوية وكل ياردة.
وبمجرد وصولي للصافية أتصل بي أخي مفضل ، طلبت منه أن يمشي راجلا باتجاه شارع الشرطة وصولا للمالية ، رغم أدراكي لحجم الخطر الذي يتهدده ، سواء بسبب شضايا الزجاجات والقذائف التي تتساقط في مختلف الجهات ، أو غيرها ، لكن الحقيقة كان هذا هو خياري الوحيد.
بعد دقائق توجهت إلى جولة المالية وبعد صراع بين اليأس والرجاء ، الفرحة والدمعة ، ناديت بكل ما أملكه من قوة في حبالي الصوتية الممزقة : مفضل ..مفضل ، لم يخب ظني ورجائي بالله ، رد قائلا : أيوه .. مباشرة وضعت يدي على وجهي فرحا لا أستطيع أن أعبر عنه ، أقترب مني ، بعد مرثون خاضه بين التحرير وشارعي القيادة والشرطة وباب اليمن والصافية رأيته متعبا بصورة كبيرة ، جسده منهك وعيونه غائرة ، غارقة وكأنها قادمة من أعماق دهر من التعب والصراع مع البقاء والخوف على أحباء .
أخذت بيده ومضينا..
أما لجين وسعاد ، فقد أكد لي الأخ العزيز/ نشيد دغيش بأنه تم نقلهن إلى مكان آمن ولم يصبن بأذى.
ضرب جبل نقم وقبله عطان وغيره وبتلك الطريقة، في ظل وجود آلاف البنايات والمنازل القريبة المأهولة بالسكان ، جريمة بحق الإنسانية .
لا أظن إن اليمنيين ، وفي مقدمتهم الأطفال الذين فجعوا واصيبوا جراء تلك الاعتداءات ، سينسونها وسينسون من قام بها ، أكيد سيقصونها لأبنائهم وأحفادهم ، سيكتبونها بمداد من القهر والدماء والدموع.