صنعاء نيوز/د/عبدالعزيز المقالح - اخترت عن عمد وإصرار هذا العنوان بالعامية لعله يشد إليه اهتمام أكبر شريحة من الجمهور ولأكثر من سبب منها، أولاً: إنه السؤال الذي يتردد الآن على كل الألسنة بالصيغة ذاتها. وثانياً، لأنني أدركت أن الصيغة الفصحى "وماذا بعد؟" قد أصبحت مستهلكة لكثرة استخدامها ولكونها لم توقظ نائماً ولا حركت ساكناً رغم كل ما قيل بعدها من آراء وأفكار وتحليلات تسعى من وجهات نظر عديدة إلى الدخول في تصورات واقعية لما ينبغي أن يحدث بعد كل هذا الي حدث ويحدث. ولأنه أصبح واضحاً أن الغالبية منا جميعاً رغم انشغالها بالواقع الراهن وما يصاحبه من تطورات مثيرة للتفكير والقلق تحرص على الابتعاد عنه قليلاً للنظر في الغد واستكناه المستقبل واحتمالاته المتوقعة والتي يتمنى الجميع أن تكون مختلفة تماماً ومناقضة لما جرى من قبل وما يجري الآن.
وبعد هذه التوطئة أعود بالقارئ إلى السؤال نفسه، أقصد إلى العنوان "وبعدين؟" لنكتشف من خلاله إلحاحاً شعبياً على ضرورة تجاوز "الآن" بكل مشكلاته وإشكالياته ولكي تستعيد الغالبية روح الأمل ومواجهة ما يبثه الواقع القاتم من عوامل اليأس المغلق حيث لم يعد لدى البعض القدر الكافي على احتمال المزيد. ورياح الأمل تهب من الثقة بالنفس ومن مراجعة التاريخ، تاريخنا وتاريخ العالم لنعرف أن شعوباً كثيرة تعرضت للأزمات وللحروب وللكوارث لكنها لم تقف عندها بل كانت دائماً شاخصة نحو البعيد، إلى المستقبل حيث يتم التصحيح والتئام الجراح وإصلاح ما أفسدته الأزمات والحروب والكوارث. وفي مثل حالنا نحن في هذا البلد فقد تعرضنا لأزمات سياسية حادة قادت إلى الحرب وإلى كوارث الاقتتال، وطالت أثار الثلاثي الفظيع كل شيء لكنها لم تكن تمنع من لحظات أو ساعات للنظر من خلف الغبار والدماء إلى صورة المستقبل وكيف ينبغي أن يكون.
يأتي الاهتمام بالمستقبل انطلاقاً من أن الشعوب الحية المقاومة لا تستطيع أن تعيش في حاضرها حتى لو كان زاهياً، كما لا بديل عن المستقبل المشترك، ولا بديل كذلك عن مواجهة اليأس بالأمل وإلاَّ تكون الشعوب قد اختارت طريق الانتحار الجمعي والاستسلام لمزيد من الانشقاقات السياسية والوصول إلى درجة المهانة والضعف والاستسلام والهوان. وما هكذا يكون حال الشعوب التي انتصرت على طغاتها وحققت في ظروف كانت الأصعب مجموعة من الانتصارات لفتت اهتمام العالم واحترامه تقديره واهتمامه. وحين تكون النوايا، أقصد نوايا القيادات السياسية خالصة ومخلصة لوجه الله والوطن، فإنها لن تعجز عن لملمة صفوفها المبعثرة والوصول إلى المخارج المطلوبة والانتقال من مرحلة التصادم والعداء إلى مرحلة التعاون والتضافر والإحساس بل والوعي بضرورة العيش المشترك بما تقتضيه الاستحقاقات الوطنية العاجلة من نسيان التباينات والاختلافات والإنخراط في العمل الجاد والهادف إلى تصحيح المسار وإعادة الإعمار، وإصلاح النظام السياسي والاجتماعي.
العنوان –كما سبق الإشارة- وسواءً كان بصيغته العامية أو بصيغته الفصحى يدل –كما يتردد في الأفواه- على الملل والسأم من طول المعاناة ومن تركيز الأحاديث على اللحظة الراهنة بالآمها وحسراتها وعدم استشراف آفاق ما بعد هذا الواقع والتطلع إلى حياة جديدة يسودها التعقل والرؤية الشاملة والتبشير بيمن جديد خال من التصادمات والاستفزازات، ومن محاولة فصيل سياسي بعينه السيطرة والاستئثار بالحكم دون الآخرين. وإذا لم يكن الحال فيما "بعدين" أو فيما "بعد" مختلفاً ومستفيداً من التجربة العتيقة وما رافقها وسبقها فإن الخروج من الدوامة الدموية لن يكون سهلاً، ولن يتحقق الحد الأدنى مما يبشر به العقلاء من إنصاف وتقديم الخيار الأخلاقي والوطني على الخيارات الذاتية وتغليب الرأي الواحد. وسيبقى الخوف من المستقبل المجهول شديد الوطاة على الملايين التي ما تكاد تخرج من نفق مظلم إلاَّ لكي تقع في نفق أشد ظلاماً. |