صنعاء نيوز/فاتن صبح -
يؤكد الكاتب التركي اورهان باموق تأثير الثقافات العالمية على الحضارات القومية، وعالم السياسة المتغير والحافل بالاضطرابات، ويرى أن السياسة التركية اليوم حافلة بكم هائل من الاستقطاب والعدائية، ويدعو السياسيين الأتراك إلى وضع حدّ لذلك. ويصف في حواره مع خدمة «تريبيون نيوز سيرفيس» البريطانية، روايته الأخيرة «غرابة في عقلي» بالقول:
«تحمل الرواية خاصية القصة الخرافية المتخيلة، إلا أنها تتمتع كذلك بسمات الملحمة المتعلقة بالهجرة حول العالم». ولا يبخل في شرح مقصده والتوغل في تفصيل آرائه عن طبيعة الإنسان ومكوناته وطباعه والمزيج المتناقض من الأفكار والأهواء البعيد عن تصنيفات الخير والشر والحداثة والتقليد، وارتباطها جميعاً بالمجتمع التركي الاسطنبولي تحديداً، مسرح روايته، حيث يعترف بأنه «يستخدم شخصية مولود كوسيلة لسبر الأغوار البعيدة المتناقضة للمجتمع التركي».
اقتباس
انطلاقاً من مفارقة بارزة تشير إلى اقتباس باموق لعنوان روايته من عبارة وردسورث الشهيرة «غرابة في عقلي... إحساس بأني لست أنتمي إلى ذلك الزمان والمكان»، وتصف الشعور بالخسارة والانسلاخ والضياع الذي ينتاب المهاجرين النازحين من الريف إلى المدن الكبرى، ينطلق المحاور بالسؤال عن تماهي الرواية مع قصة الزمن الحاضر والهجرة الكثيفة من الريف بقدر ما تتحدث عن شخصيات محددة.
يعتبر باموق أن قصة مولود قد تبدو شخصيةً جداً لأنها تتمتع في الواقع بمزايا القصة، ويقول: «لقد فكرت بدايةً، بكتابة قصة قصيرة حول رجل يفقد عمله في بيع البوظة واللبن والأغراض التقليدية بسبب التحول الصناعي، إلا أنها تطورت من قصة أخلاقية حول صراع فرد، إلى ملحمة متعددة الشخصيات والأصوات، لأني أصبحت أشعر بالفضول حيال طرق انتقال المهاجرين إلى اسطنبول والبقاء فيها، حيث تصف روايتي تفاصيل الأحداث من خلال الشخصيات.»
وبالعودة إلى شخصية الرواية الرئيسية، مولود، والوظائف المتضاربة التي كان يمتهنها بما تمثله من هويات منقسمة تجسد هجيناً بين القديم والجديد، ومدى تماهيها الفعلي مع حقيقة الهويات، يقر باموق بأن أحد أهم الأمور التي تعلمناها من العصور الحديثة..
وقبل ذلك في عهد ما بعد النهضة من شكسبير إلى دوستويفسكي، هو أننا لسنا وليد خاصية أو صبغة أو فكرةٍ واحدة. فالفرد نتاج صفات متعددة متزامنة، وغالباً ما يسير المنطق والرغبات باتجاهين متناقضين، ويتبلوران بطرائق معقدة غالباً ما تكون بعيدةً عن الشفافية. ويشير إلى أن فهمه لشخصيات روايته في هذا الإطار يتخذ طابعاً دوستويفسكياً.
انتماء
يقول باموق تنتمي شخصيات العديد من رواياتي إلى الطبقة الأرستقراطية من الأتراك العلمانيين، الذين على الرغم من توقهم لمعانقة القيم الأوروبية، يرغبون بالارتماء في أحضان الأخلاقيات والقيم والديانة التقليدية المريحة، لذا فإنه يتعذر علينا تصنيف الأشياء على أنها «حديثة» أو «تقليدية»، بينما تذوب وتمتزج إحداها بالأخرى.
ما يجعل بني البشر مثيرين للاهتمام مضيّهم التشبث بأفكار متناقضة في مزيج يكوّن شخصيتهم المتفردة، على غرار الأمم. هكذا، وكما هو الأمر مع الأفراد، لا يمكن النظر إلى المسرح الدولي والقول إن هذا البلد «جيد» وذاك «سيء»، حيث أن الصفتين متلازمتين. وفي الجزء الخاص بي من العالم، تعيش أفكار المساواة والاستبداد الطاغية، جنباً إلى جنب مع المفاهيم الليبرالية.
الحداثة
وفي منحى جدلي آخر للرواية، حيث إنه كما أعادت الحداثة صياغة الطرق الإسلامية التقليدية، حوّلت تركيا أتاتورك إلى حداثة غير غربية. ويعتبر باموق في ردّ على السؤال حول إذا ما غير مفهوم الحداثة والإسلام التقليدي أحدهما في الآخر، أن اسطنبول قد أصبحت أكثر ميلاً للمحافظة والتدين بفعل موجات الهجرة من المناطق الريفية المتمسكة بالتقاليد. وظهرت بالتالي ثقافة جديدة، واشتهرت الأفلام الميلودرامية القائمة على أحاسيس المهاجرين.
أما الإسلام السياسي نفسه فقد تحول بنظر باموق من موقف ثابت إلى سياسة تطور اقتصادي شهدت على انتشار ناطحات السحاب التي غيرت معالم اسطنبول. وبرزت بالتزامن مع ذلك نوع من الشخصانية الجديدة، التي تدعو الأفراد لشق طريقهم بأنفسهم في المدينة الكبيرة، مما ولّد بدوره استجابةً قائمة بذاته كتلك التي نراها لدى مولود، الذي زاده إحساس الوحدة في غابة المدينة الحديثة انغماساً في أحضان العائلة.
ويؤكد باموق أن التأثيرات الثقافية الجديدة تبلغ من السرعة والثراء ما يخلق ثغرةً في الثقافات القومية، ويقول «لكنني أود أن أشير إلى نقطة اختلاف واحدة مع سولتيديرك، مفادها أن الناس يتكيفون..
كما فعل مولود، فارتمى في أحضان العائلة، كما أشرت آنفاً.» وإسقاطاً على الأوضاع السياسية، ومدى تأثير عواقب التغيير السريع على الاضطراب السياسي القائم في تركيا اليوم، يأمل باموق بأن تهدأ الأوضاع في تركيا وتجتمع الأطراف المعاضة تحت راية الوطنية الجامعة، على نحو يحتضن تنوع المجتمع التركي كشرط لإحلال الاستقرار والديمقراطية، معرباً عن أمله بغد أفضل لتركيا.
«غرابة في عقلي» صورة عن اسطنبول بين أعوام 1969 و2012
ترتقي رواية «غرابة في عقلي» إلى مصافي الدقة الخرائطية، إنه عمل ضخم مدجج بأدوات الفهرسة، وقوائم الشخصيات والاقتباسات، لكنه عمل عاطفي بامتياز؛ صورة بانورامية عن اسطنبول بين أعوام 1969 و2012، من مختلف وجهات النظر، وكأنه يقول للقارىء: «لا تجزع، سنقوم فقط بتوليف ما يزيد على 40 سنة من التاريخ الحديث من قلب إحدى أكثر المدن الصاخبة ثقافياً في العالم..
بينما نتابع مسار عدد من الشخصيات عبر خطوط متقاطعة طبقياً وسياسياً ودينياً وباختلاف الجنس، تتحلق جميعها حول»مغامرات وأحلام«بائع متجول بسيط. تكمن حقيقة»غرابة في عقلي«في الواقع، في مكان ما بين هزلية باموق وطابع أكثر تعقيداً، في رواية تتحزب للبساطة في خضم الصراع مع تعقيدات المدينة المتغيرة أبداً.
بين عالمين
يتأرجح مولود، بطل الرواية على غرار بقية شخصيات باموق بين عالمين، أما الصراع بين التقليد والحداثة في الثقافة التركية فتشكل الموضوع الأساس في مهنة باموق، الذي تؤدي شخصيات روايته مهمة مزدوجة تتراوح بين نتاج اللحظات التاريخية وأفقها.
يشق مولود قراطاش طريقه في المشهد المتغير، يتعانق فيه القديم مع الحديث ويلتقي الشرق بالغرب، حيث يبيع اللبن والأرز والبوظة، ويتجول في»الشوارع الفقيرة المهملة المعبدة بالحصاة في أمسيات الشتاء مناديا، مذكراً إيانا بسنوات قرون مضت، وأيام زمن جميل ولّى«.
الطيبة
يتميز مولود بأنه أكثر شخصيات الرواية عاطفيةً، وأطيبهم قلباً وأقلهم طموحاً، فيظنه ابن عمه سليمان ساذجاً بطريقة يصعب تفسيرها، في حين يعتقد صديقه الماركسي فرحات أنه»غريب الأطوار نوعاً ما، لكنه يملك قلباً من ذهب«، وتنعته زوجة أخيه بأنه»ظريف كولد صغير«. وتخدم تلك الملاحظات الصبيانية لإبراز عجز الآخرين عن فهم تعقيدات تركيبة مولود الداخلية.
القلق الغامض
ويكافح مولود لفهم نفسه، و»الغرابة«في عقله، ذلك القلق الغامض الذي يظهر جانب منه في نهاية الرواية التي تعكس فصولها الأولى حبّي مولود العظيمين، وأولهما رايحة التي يتزوجها في مشهدية كوميدية شكسبيرية بامتياز، لأنها في الواقع شقيقة الفتاة، التي أغرم بها من النظرة الأولى في حفل زفاف ابن عمه، وقرر الهروب معه.
لكنه يتدارك خطأه ويمضي في زواجه ليجد حباً أصدق من ذاك الانجذاب الأعمى. ولا تتوقف فصول أخلاقيات مولود هنا، بل تتطور نحو دراما نفسية معقدة فيما تتواصل ارتدادات»الخدعة«المبدئية لتصوغ حياة مولود، وتشكل حبكة الرواية المطلوبة.
تجول
أما عشقه الثاني فيكمن في التجول في شوارع اسطنبول ليلاً لبيع البوظة، مدركا ما تنطوي عليه من مفارقة تاريخية تنسبه لزمان مختلف» كذخيرة حية من الماضي سقطت اليوم من قاموس الموضة السائدة. وكأنه بائع ذكريات، لكنه مؤمن بالله وأكثر منه بالبوظة، حيث يقول لصديقه: «عدم انتماء شيء ما للإسلام حكماً، لا يعني بالضرورة أنه لا يمكن أن يكون مقدساً، فالموروثات المنقولة من أسلافنا يمكن أن تحمل القداسة أيضاً.»
كما أن البوظة بنظره لا تحمل بعداً اجتماعياً وحسب بل سياسياً كذلك، سيما أن الحياة كلها بمفهوم يلخص حكمته، تتحقق من خلال البوظة. خلافاً ل«آلاف الناس» الذين التقاهم في شوارع اسطنبول، الساعين وراء وهم الحداثة ومعايير النجاح ممتنعة الوصف، أناس «يعتقدون بأن كل حادثة ومعركة تقف أيد خفيةٍ ما»، أدرك مولود بفطرته أن العالم، على الرغم من أنه أكثر تعقيداً من فهمه بكليته، فهو مكون من أشياء وأحداث بسيطة قابلة للمعرفة.
لكن اسطنبول بالنسبة لمولود أكثر من مجرد أشخاص، حيث يدخل باموق عناصر من التاريخ المادي للمدينة في روايته، لتصبح «غرابة في عقلي» تسلسلاً هائلاً من الشخصيات والأمكنة والسياسات والثقافة المجتمعة حول بطل مليء بالشجون، في حبكة سيكولوجية ملتفة.
الحالم المتأمل
تشكل رواية «غرابة في عقلي» بطرافتها وميلودراميتها وأحاسيسها وفضولها النهم حيال موائل الحضر، عمل باموق الأكثر تشبعاً بروح ديكنز، حيث يفصل التناقضات والأقطاب التي تحيط مفاهيم مدينته الأم وبلاده بشكل عاطفي، فنعود، كما في كل رواياته إلى البطل الأوحد الهائم في الشوارع المسكون، الحالم المتأمل بوجود «مملكة أخرى على مقلب من العالم، مخبأة خلف جدران مسجد، في أنقاض منزل خشبي، أو داخل مقبرة». فالروح والمدينة بالنسبة لمولود، كما لباموق عنصران يلتقيان عند نقطة واحدة. |