صنعاء نيوز/عبد الباري عطوان* -
هناك مثل تركي يقول ان المرء لا يستيطيع ان يحمل بطيختين تحت ذراع واحد.. ولكن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الذي يعرف هذ المثل جيدا، وجد نفسه يحمل اربع بطيخات، وربما اكثر تحت الذراع نفسه، وجميعها من الوزن الثقيل جدا.
تركيا الآن تخوض حربا شرسة ضد المتمردين الاكراد بقيادة حزب العمال الكردستاني وحلفائه شمال غرب سورية، مثلما تنجرف بشكل متسارع الى حرب باردة تسخن تدريجيا مع الروس، وتغرق في الملف السوري، دون وجود اي طوق للنجاة في الافق، تعيش ازمة متفاقمة في العراق بسبب اعتراض السلطات العراقية على وجود قواتها قرب الموصل، وانحياز واشنطن الى جانب السيد حيدر العبادي رئيس الوزراء في مطالبة الرئيس اوباما بضرورة انسحاب هذه القوات التركية فورا.
***
السيد اردوغان دعم المعارضة السورية بقوة من اجل اطاحة النظام السوري ورئيسه، وتبنى ثورات الربيع العربي خاصة في مصر وتونس وليبيا، وها هو يجد نفسه يشرب من الكأس نفسه بعد اسقاطه الطائرة الروسية، ويجد نفسه يقاتل وحده على عدة جبهات في الوقت نفسه.
من سوء حظ الرئيس التركي ان روسيا اصبحت تحاصره في الشمال والشرق، وباتت بعد تدخلها العسكري في سورية دولة شرق اوسطية، وتصعد من وتيرة محاولاتها لاسقاطه وحكومته بشكل متدرج، ابتداء من العقوبات الاقتصادية، وانتهاء بالتدخل في الشؤون الداخلية التركية، ودعم المتمردين الاكراد.
التاريخ يعيد نفسه، فمن المفارقة ان روسيا دعمت حزب العمال الكردستاني في الثمانينات، وطلبت من حليفها الرئيس حافظ الاسد ان يوفر الملاذ الآمن لزعيم الحزب، عبد الله اوجلان على الارض السورية، بهدف زعزعة استقرار تركيا التي كانت تمثل الخط الامامي لحلف الناتو في مواجهة الامبراطورية السوفييتية في عز الحرب الباردة، ولكن انهيار هذه الامبراطورية وانهيار الكتلة الاشتراكية، وحلف وارسو، ترك العالم برمته مفتوحا امام القوة الغربية المنتصرة بزعامة امريكا، واستخدمت تركيا اوراق ضغط عديدة على سورية، من بينها تخفيض حصتها الى النصف من مياه نهر الفرات بعد تشييد سد اتاتورك، والتلويح باستخدام القوة من خلال حشد القوات على الحدود السورية، مما دفع بالرئيس الاسد الاب الى ابعاد اوجلان الى كينيا، حيث تمت عملية اعتقاله وتسليمه الى انقرة.
الرئيس فلاديمير بوتين يريد الانتقام لاسقاط طائرته السوخوي بعد رفض الرئيس اردوغان شروطه بالاعتذار وتقديم تعويضات، وكان لافتا دعوته للسيد صلاح الدين دمرداش، زعيم حزب الشعوب الديمقراطي ذات الاغلبية الكردية الى موسكو، وتأكيد وزير خارجيته سيرغي لافروف الذي استقبل الاخير استعداد بلاده دعم الجماعات الكردية المسلحة في سورية، وربما في تركيا ايضا.
السيد احمد داوود اوغلو رئيس الوزراء التركي ندد بانتقادات وجهها السيد دمرداش لاسقاط الطائرة الروسية ووصفها بأنها “عار” و”خيانة”، ولكنها السياسة ومقتضياتها والاعيبها، فعندما تتدخل في شؤون الآخرين عليك ان تتوقع ان يفعلوا الشيء نفسه، وبالطرق نفسها، فلا احد يملك حصانة في هذا الصدد.
طموحات تركيا في سورية تتآكل، وسياساتها الخارجية تتغير بفعل التطورات المتسارعة، فاللافت ان المطالبات باقامة مناطق عازلة على الحدود التركية السورية الشمالية الغربية بطول مئة كيلومتر، وعمق اربعين مترا، لكي تكون مأوى للاجئين السوريين، ونقطة انطلاق للمعارضة السورية المسلحة تراجعت، بل وتبخرت كليا منذ التدخل الروسي العسكرين، وقرار مجلس الامن الدولي رقم 2254 الاخير بشأن سورية الذي ينص على التفاوض، ومرحلة انتقالية، ودون اي ذكر لحاضر الرئيس الاسد او مستقبلة.
الرئيس اردوغان استخدم الحرب على حزب العمال الكردستاني، وقال سيخوضها حتى النهاية، ومهما كلف الامر للوصول الى الفوز في انتخابات اعطته فرصة العودة الى الحكم بحكومة اغلبية، وربما يؤدي هذا اللعب على ورقة الوطنية التركية الى وصوله الى الدولة الرئاسية التي يتطلع اليها، ولكن ربما يكون الثمن باهظا، اي تثوير الاقليات في تركيا، وغرق البلاد في حرب اهلية، اي عكس ما اراده اردوغان في سورية، اي تثوير الاكثرية ضد الاقليات، ولاسباب طائفية في معظمها.
***
لا نعرف كيف سيحافظ الرئيس اردوغان على توازنه وهو يحمل هذه البطيخات الاربع تحت ذراعه، واذا نجح هذا التحدي فالى اي مدى ومتى، اشهر ام سنوات؟ وما هي البطيخة التي ستسقط وتتهشم اولا؟ هل هي الحرب الباردة مع روسيا المرجحة للتحول الى صدامات مسلحة؟ ام هي سياسته في سورية؟ ام تلك المتعلقة بالاصرار على عدم انسحاب قواته في العرق؟ ام الرابعة، وهي الحرب مع الاكراد؟
لا نملك بلورة سحرية تمكنا من قراءة المستقبل التركي وتطوراته، لكن ما نملكه هو الاجتهاد بالقول انه في الوقت الذي يخرج فيه النظام السوري عدو الرئيس اردوغان الاكبر من عنق الزجاجة تدريجيا، بدعم ايران وروسيا، وخنوع امريكا ودول غربية، يدخل الرئيس اردوغان الى زجاجة اخرى، وبعنق اكثر احكاما.
الغاز الاسرائيلي ربما يعيد بعض الدفيء الى العلاقات بين انقرة وتل ابيب، ولكن تطبيع العلاقات هذا لن يكون حلا، بل ربما يزيد من المأزق التركي، خاصة ان بنيامبن نتنياهو يرفض شروط التطبيع التركية، وابرزها رفع الحصار عن قطاع غزة، ويستغل الحاجة التركية للغاز والاصدقاء لممارسة ابشع انواع الابتزاز.
السياسة التركية بحاجة الى مراجعة شاملة لتجنيب البلاد العديد من الالغام شديدة الانفجار المزروعة في طريقها، وابرزها، بل واكبرها، لغم تفجير الجبهة الداخلية وحالة الاستقرار التي اوصلت تركيا الى الانجازات الكبيرة التي حققتها في الاعوام الـ15 الاخيرة، بفضل حكمة الرئيس اردوغان وحنكته وسياساته الخارجية والداخلية، وابرزها سياسة صفر مشاكل مع دول الجوار.
اردوغان البراغماتي والسياسي المحنك يجب ان يذهب الى موسكو، وليس الى تل ابيب، اذا اراد فعلا السير ببلاده الى الامان، والاستقرار والمزيد من الازدهار.
* رأي اليوم |