|
|
|
صنعاء نيوز/بقلم:احمد صالح الفقيه - الإهداء
إلى فنانينا وأدبائنا القادمين
لكل فن من الفنون أرضيته الثقافية ومنطلقه الفكري، ولعل هذا الكتاب يساعد كل مبدع على وعي منطلقه.
أحمد صالح غالب الفقيه
صنعاء – ربيع 2002م
الفهرس
المقدمة.
علم الجمال.
النظريات الكلاسيكية.
مقاربات مبكرة أخرى
علم الجمال الحديث..
علم الجمال والفن.
أكبر التأثيرات المعاصرة
الماركسية والفرويدية.
الوجودية.
جدل أكاديمي..
الفن الحديث..
خصائص الفن الحديث..
النشأة الأولى.
الفن الحديث في العقود الأولى..
الفافية.
التكعيبية.
المستقبلية
التعبيرية الألمانية.
التسامي والبنائية.
الأسلوبية (دي ستيجيل).
الموضوعية الجديدة
الدادائية.
السوريالية.
النحت في أوروبا
الفن الحديث بعد الحرب العالمية الثانية.
التعبيرية التجريدية.
تطورات ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا
التجريد في النحت..
عودة الدادائية.
مذهب الإقلال
فن البوب..
ما بعد الحداثة.
فن الأداء
فن الفكرة
الواقعية الفوتغرافية.
التعبيرية الجديدة
التعددية
الجمال ومذاهبه
اهتم علماء مسلمون بقضايا الجمال، وكانت لهم مقاربات شبه فلسفية أسست ما يشبه فلسفة علم جمال إسلامي. ومن جهة أخرى، كانت الأعمال النقدية قوية وإبداعية بصورة بارزة كما تجلت في أعمال الناقد العظيم عبد القاهر الجرجاني على سبيل المثال لا الحصر. وقد كانت إحدى أجمل النظريات الجمالية الإسلامية مؤسسة على الآية القرآنية الكريمة (وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين) الأعراف172 . وتقول النظرية: أن البشر طرا قد شاهدوا وهم بعد في عالم الذر جمال الله وجلاله وسمعوه عندما أشهدهم على أنفسهم – حسب ما جاء في الآية الكريمة – فكان استحسانهم لكل جميل من المشاهد أو الأصوات من أثر تلكم الرؤية وذلكم السماع. وكنت قد ضمنت هذه النظرية قصيدة لي بعنوان (درة الخلق) قلت فيها:
أي مس من الفتون تراءى
مبدع اللون والسنا مهرجانا
أنطق الصخر فنه معجزات
قد وشاها وصاغها أفنانا
وشفيف الحروف ثر المعاني
وضرام الخيال يندى حنانا
صفحة مجلوة لــــم تعــــاني
كدر الكره ظلمة واضطغانا
روحه تعرف الجمال المصفى
مذ تجلى ودعـــاها عيــانا
يــــوم نـــادى ألست؟ فقـــالت بلى! حملت ثمة الأشجــانا
جبل الحـــب والصفـــاء فكانا
درة الخــلق مبدعـــا فنــانا
احمد صالح غالب الفقيه
علم الجمال علم الجمال هو أحد فروع الفلسفة وهو يهتم بجوهر الجمال، وفهم الجمال والقبح. كما يتعامل علم الجمال مع أسئلة مثل هل للجمال والقبح وجود موضوعي في الاشياء أم أنهما موجودان في عقل المتلقي؟ وهل أن فهمنا للأشياء يتم من خلال نموذج جمالي أم أن الأشياء تملك في داخلها صفات خاصة جمالية؟ وتثير الفلسفة كذلك أسئلة عن الفرق بين الجمال والجمال المطلق.
ومن جهة أخرى، فإن كلا من النقد وعلم نفس الفن، على الرغم من استقلالهما عن بعضهما، فإنهما يهتمان بأسئلة لها علاقة بعلم الجمال. فعلم نفس الفن يهتم بعناصر فنية مثل ردود أفعال الإنسان على اللون والصوت والخط والشكل والكلمات، والطريقة التي تكيف بها العواطف ردود الأفعال تلك.
أما النقد فإنه يحصر نفسه في أعمال فنية محددة، ويحلل بنيتها ومعانيها ومشاكلها ويقارنها بأعمال أخرى ثم يقومها.
ويرجع الفضل في نحت مصطلح علم الجمال إلى الفيلسوف الألماني الكساندر غوتليب بومجارتن في العام 1753، وإن كانت دراسة طبيعة الجمال سابقة عليه بقرون متطاولة على يد الفلاسفة الذين انحصرت هذه الدراسة بهم. إلا أن الفنانين قد ساهموا منذ القرن التاسع عشر في هذا الميدان.
النظريات الكلاسيكية كانت نظرية أفلاطون هي أول نظرية جمالية ذات شأن. فقد آمن أفلاطون أن لكل موجود حقيقي في عالم الواقع أصلاً أو أنموذجاً أصلياً في عالم المثل الذي يقع خارج نطاق حواس الإنسان. وأن الفيلسوف إنما يحاول من خلال فحصه وتأمله لما هو موجود أن يصل إلى الحقيقة التي تمثلها أو تحاكيها هذه الموجودات وأن الفنان إنما يقوم بمحاكاة ما هو موجود أو يستعمله كنموذج لعمله الفني ولذلك فهو مقلد للمقلد.
وكان لتفكير أفلاطون هذا بعد آخر مهم. فقد ذهب في كتابه الجمهورية إلى حد إقصاء بعض أنواع الفنون من مجتمعه المثالي لأنها كانت في رأيه تشجع على الانحطاط الأخلاقي أو تعرض قيماً وضيعة. كما رأى أن بعض أنواع الألحان تسبب الكسل أو تدفع الناس إلى الشطط ومجانبة الاعتدال.
وقد تكلم أرسطو أيضاً عن الفن كتقليد أو محاكاة ولكن ليس بالمعنى الأفلاطوني. فالفنان كما يرى أرسطو يقلد الأشياء ويجعلها (كما ينبغي أن تكون)، (وأن الفن يكمل ما عجزت الطبيعة عن إكماله)، فالفنان يفصل الشكل عن المادة التي يختبرها كالشجرة أو جسم الإنسان، ويفرض ذلك الشكل على مادة أخرى هي مادة التمثال أو ألوان اللوحة الفنية. إذن والحال هذه، فإن الفن ليس تقليداً لأنموذج، وليس استنباطاً للرمز من الأصل، وإنما هو تجسيد لجانب من جوانب الشيء أو الأشياء. ومن ثم فإن كل عمل فني هو محاكاة للكمال الكوني.
ولم يكن علم الجمال لدى كل من أرسطو وأفلاطون منفصلاً عن الأخلاق والسياسة. وقد كتب الأول عن الموسيقى في كتابه (السياسة) قائلاً: إن الفن يؤثر على أخلاق الإنسان ومن ثم على النظام الاجتماعي. ولأن أرسطو كان يعتقد بان السعادة هي هدف الإنسان في الحياة فقد رأى بأن المهمة الأساسية للفن هي توفير المتعة للإنسان. وفي كتابه (في الشعر) وهو مؤلفه الهام في مبادئ الدراما، جادل أرسطو بأن التراجيديا تثير مشاعر الشفقة والخوف التي اعتبرها مشاعر مريضة وغير صحية. ولأن المشاهد يتماهى مع شخصيات العرض فإنه يتخلص في نهاية العرض المسرحي من هذه المشاعر. وهذا التطهر من المشاعر المرضية يجعل المشاهد أكثر صحة ومن ثم أكثر قدرة على الشعور بالسعادة.
وقد تأثرت الدراما الكلاسيكية الجديدة بأفكار أرسطو كثيراً منذ القرن السابع عشر. وكانت أعمال راسين وكورنيل وموليير على وجه الخصوص تستمد قوانينها من الوحدة بين الزمان والمكان والحدث. وقد طغت هذه المبادئ على النظريات الأدبية حتى القرن التاسع عشر.
مقاربات مبكرة أخرى كان فيلسوف القرن الثالث أفلوطين قد ولد في مصر ودرس الفلسفة في الاسكندرية. وعلى الرغم من أنه كان أفلاطونياً جديداً من حيث مذهبه الفلسفي، فإنه قد أولى الفن اهتماماً أكبر بكثير مما أولاه إياه أفلاطون. وقد رأى أفلوطين أن الفن يكشف عن أشكال الأشياء بصورة أوضح كثيراً مما تتيحه الخبرة العادية. وأنه برفع الروح إلى مستوى تأمل الكلي. ويرى أفلوطين ان اللحظة الصوفية هي أعظم لحظات الحياة وهي اللحظة التي تتحد فيها الروح في عالم المثل بالإلهي الذي يشير إليه أفلوطين باسم (الواحد). ويقول أفلوطين بان التجربة الجمالية هي أقرب ما تكون إلى التجربة الصوفية لأن الإنسان يفقد إنيته اثناء تأمله للجمال.
كان الفن في العصور الوسطى في أوروبا تعبيراً دينياً وكانت مبادئه الجمالية مرتكزة على الأفلاطونية الجديدة إلى حد كبير. وقد أصبح الفن أكثر علمانية خلال عصر النهضة في القرنين الخامس عشر والسادس عشر وأصبحت جمالياته كلاسيكية ترجع إلى الفنين الإغريقي والروماني أكثر مما تستمد مرجعيتها من الدين.
وقد حدثت الإندفاعة الكبرى لعلم الجمال في ألمانيا في القرن الثامن عشر. فالناقد الألماني جوثولد أفرايم ليسنج جادل في كتابه (لاكون) عام 1766 بأن الفن يحمل محدودياته في داخله وأنه لا يمكن الوصول إلى أعلى مراتبه ما لم يتم إدراك تلك الحدود. ثم جاء الناقد وعالم الآثار الألماني جوهان جواكيم وينكلمان ليبعث الفكرة الإغريقية القائلة بان افضل الفنون هي التي تخلو من النوازع الشخصية. وأن الفن الأفضل هو ذلك الذي يعكس أجمل المقاييس والنسب والتوازن في الاشياء بدلا من أن يعكس الروح الفردية للمبدع.
واعتبر الفيلسوف الألماني جوهان غوتليب فيخته أن الجمال قيمة أخلاقية، لأن الفنان يبدع عالماً يبلغ الصدق والجمال فيه غايتهما متنبئأً بالحرية القصوى التي هي هدف وغاية الإرادة الإنسانية. والفن عند فيختة فردي وليس اجتماعياً ولكنه يحقق هدفاً إنسانياً عظيماً.
علم الجمال الحديث في القرن الثامن عشر كان الفيلسوف الألماني ايمانويل كنت مهتما بالأحكام والذوق. وافترض أننا نحكم على الشيء بانه جميل عندما يرضي هذا الشيء رغبة عليا غير متعلقة باهتمامات واحتياجات الإنسان العادية. وينتج من ذلك أن الأشياء الجميلة ليست غرضية ذات هدف محدد وأن أحكام الجمال ليست تعبيراً عن التفضيلات الشخصية ولكنها ذات طابع كوني كلي. ومع أن الإنسان لا يمكن له أن يتأكد بأن أحكامه الجمالية تتفق مع أحكام الآخرين إلا أنه يمكن للمرء القول على الأقل أن الآخرين أيضاً ينبغي لهم أن يروا الجمال الذي رآه. ويكمن اساس استجابة الإنسان للجمال في بنيته العقلية.
وأن الفن ينبغي أن يحقق الإشباع السامي الذي يحققه جمال الطبيعة. وأن المفارقة تكمن في أن الفن يمكن له أن ينجز ما لا تستطيع الطبيعة إنجازه وذلك بالجمع بين الجمال والقبح في شيء واحد، فالرسم المتقن لوجه قبيح يظل جميلاً.
وطبقاً للفيلسوف الألماني هيجل في القرن التاسع عشر فإن الفن والدين والفلسفة أساس التطور الأعلى للروح. فجمال الطبيعة هو ما تجده الروح ساراً ومطابقاً لممارستها حريتها الفكرية والروحية. وأن كثيراً من الأشياء في الطبيعة يمكن جعلها أكثر مدعاة للسرور، وهو ما يتعرف عليه الفنان وينجزه ليجعله مصدرا لإرضاء الاحتياجات الجمالية.
أما الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور فقد آمن أن الأشكال الكونية مثلها مثل أشكال افلاطون الأزلية موجودة خارج نطاق عالم التجربة، وان الإشباع الجمالي يتحقق عن طريق تأملها من أجل ذواتها، وكوسيلة للهروب من عالم التجربة اليومية المؤلم.
ويقع كل من فيخته وكنت وهيجل في نسق واحد متصاعد. وقد هاجم شوبنهاور هيجلاً ولكنه كان متأثراً بوجهة نظر كنت عن التأمل المتعالي المتجرد من الحاجة والرغبة.
وقد اقتفى الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه أثر شوبنهاور في البداية ولكنه عاد ليختلف معه فيما بعد. فقد قرر نيشتة أن العالم مأسأوي، ولكن على المرء أن يتقبل هذه المأساوية بروح مرحة تبلغ ذروتها في الفن. وأن الفن يجابه رعب العالم ويقاومه، ولذلك فهو يخص الأقوياء. وأن الفن قادر على تحويل أي تجربة إلى جمال، وإذ يفعل ذلك يتيح للإنسان تأمل الرعب الكامن فيها بمرح واستمتاع.
علم الجمال والفن كانت الفكرة القائلة بأن الفن محاكاة للواقع طاغية ومسيطرة على علم الجمال التقليدي في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وقد قدم الأدباء مثل جين اوستن وتشارلز ديكيز في بريطانياً وكارلو جولدوني والكسندر دوماس الصغير في فرنسا صورا واقعية عن حياة الطبقة الوسطى. وكان الرسامون سواء كانوا كلاسيكيين جدداً مثل جين أوجست دومينيك انجرس أو رومانسيين مثل يوجين ديلاكروا أو واقعيين مثل جوستاف كوربيه يرسمون موضوعاتهم بحرص شديد على التفاصيل كما هي عليه في الواقع.
وكان من المعتقد في علم الجمال التقليدي أن القطع الفنية ذات فائدة بالإضافة إلى جمالها. فاللوحة يمكن أن تقوم بتخليد ذكرى الحوادث التاريخية أو أن تشجع القيم الأخلاقية وأن الموسيقى يمكن أن تهيج المشاعر الوطنية وأن الدراما وخاصة على يدي دوماس والنرويجي هنريك إبسن قد تقوم بأداء وظيفة النقد الاجتماعي المؤدي إلى الإصلاح.
وفي القرن التاسع عشر كانت أفكار حركة (أفانت جارد) أو إلى الأمام أيها الحرس، قد أخذت تتحدى وجهات النظر التقليدية. وكان التغيير الذي احدثته أكثر ما يكون وضوحاً في فن الرسم. فالفنانون الانطباعيون الفرنسيون مثل كلودي مونيه شجبوا الفنانين الأكاديميين لأنهم كانوا يرسمون ما ينبغي أن يرى لا ما يرونه فعلاً وهي تلك الأسطح ذات الألوان المتعددة والأشكال البراقة التي يخلقها التلاعب بالضوء والظل والتغير فيهما مع حركة الشمس.
وفي أواخر القرن التاسع عشر أصبح ما بعد الإنطباعيين مثل بول سيزان وبول جوجان وفينسنت فان جوخ أكثر اهتماماً ببنية الرسم والتعبير عن مشاعرهم النفسية أكثر من تقديم الأشياء في عالم الطبيعة. وفي القرن العشرين تطور هذا الاهتمام البنيوي أكثر على يد التكعيبيين مثل بابلو بيكاسو وانعكست اهتمامات التعبيريين في أعمال هنري ماتيس والفافيين الآخرين، وكذلك في أعمل التعبيريين الألمان مثل إرنست لودفيك كيرشنر. وكانت التأثيرات التعبيرية على الأدب المكتوب واضحة في مسرحيات السويدي أوجست ستريندبيرج والألماني فرانك ويدكند. وقد تطابق مبدأ الفن للفن مع هذه الحركات اللاتجسيدية الفنية وهو المبدأ الذي اشتق من وجهة نظر الفيلسوف كانت القائلة بأن الفن لديه أسبابه الخاصة للوجود. وقد استخدمت هذه العبارة للمرة الأولى من قبل الفيلسوف الفرنسي فيكتور كوزين في العام 1818. وكان هذا المبدأ الذي دعي في وقت من الأوقات بالمبدأ الجمالي قد اشتهر في إنجلترا على يد الناقد والتر هوراشيو باتر، وعلى يد رسامي ما قبل الروفائيلية، ثم على يد الرسامين الأمريكيين مثل جيمس آبوت، وماكنيل وسلر. أما في فرنسا فقد كان مبدأ الفن للفن تعويذة الشعراء الرمزيين من أمثال شارلس بودلير. ويختزل مبدا الفن للفن معظم أعمال حركة أفانت جراد الغربية في القرن العشرين.
أكبر التأثيرات المعاصرة كان لأربعة من فلاسفة أواخر التاسع عشر وأوائل القرن العشرين أكبر الأثر على علم الجمال المعاصر. ففي فرنسا عرف هنري بيرجسون العلوم بأنها موهبة خلق نظام من الرموز التي يفترض أن تصف الحقيقة وفي نفس الوقت تخدعنا عنها. وأن الفن يقوم على الحدس الذي هو الإدراك المباشر للحقيقة بدون وساطة التفكير. ولذلك فإن الفن يخترق الرموز والعقائد عند الناس والحياة والمجتمع ويضع الإنسان أمام الحقيقة وجهاً لوجه.
وفي إيطاليا مجد الفيلسوف والمؤرخ بنديتو كورسي الحدس ولكنه اعتبره الإدراك الفوري للشيء والذي يمنح هذا الشيء شكله. وأنه إدراك الإنسان للأشياء قبل أن يفكر فيها. وأن الأعمال الفنية هي التعبير المادي عن الشكل وعن هذا الإدراك، أن الجمال والقبح ليسا صفتان للعمل الفني ولكنهما من صفات الروح التي عبرت عن نفسها بالحدس في تلك الأعمال الفنية.
أما الفيلسوف والشاعر الأمريكي جورج سانتايانا فقد جادل قائلا: أنه عندما يحس الإنسان بالسرور من شيء ما فإن ذلك السرور يمكن اعتباره صفة للشيء ذاته بدلاً من اعتباره استجابة ذاتية للشيء، بالضبط كما يقوم الإنسان بوصف عمل إنسان آخر بأنه طيب في ذاته بدلاً من أن يصفه بأنه عمل طيب لمجرد أنه يوافق عليه، ولذلك يمكن للمرء أن يقول أن بعض الأشياء جميلة ليس لأن إحساسه الجمالي بألوانها وأشكالها هو ما دفعه إلى القول بأنها جميلة.
في حين أن الفيلسوف ورجل التعليم جون ديوي يرى بأن التجربة الإنسانية غير مترابطة، ومجزأة، ومليئة بالبدايات الغير مكتملة، وكأن التجارب وسائل متعمدة تستخدم للوصول إلى النهايات. وهذه التجارب المتميزة التي تتدفق من بداياتها إلى نهاياتها الممتعة، هي خبرات جمالية. والخبرة الجمالية هي الاستمتاع لأجل الاستمتاع، وهي كاملة ومنطوية على ذاتها كما أنها عابرة وليست وسيلة إلى أي غاية أخرى.
الماركسية والفرويدية وقد رفضت حركتان قويتان هما الماركسية في الميدان الاقتصادي والسياسي والفرويدية في علم النفس مبدأ الفن للفن وأكدت على أن للفن أغراضا عملية. فالماركسية تعامل الفن باعتباره تعبيراً عن بنية العلاقات الاقتصادية التحتية للمجتمع، ويقول أنصار الماركسية أن الفن لا يكون عظيماً إلا حينما يكون تقدمياً وذلك عندما يناصر قضية المجتمع الذي يبدع هذا الفن فيه.
أما سيجموند فرويد فقد آمن بأن قيمة الفن تكمن في استعماله كعلاج إذ أن الفنان والمجتمع يستطيعان كشف الصراعات الخفية وتفريغ التوترات. فعندما تدخل الخيالات وأحلام اليقظة إلى الفن تتحول من عملية هروب من الحياة إلى طريق لمقابلة الحياة، ويستخدم اللاوعي في الشعر والرسم السورياليين كمصدر لمادة الفن. وتيار تقنيات اللاوعي والخيال في روايات الكاتب الإيرلندي جيمس جويس لم تكن مشتقة من أعمال فرويد ولكنها كانت مشتقة جزئياً مما جاء في كتاب مبادئ السايكولوجيا (1890) للفيلسوف وعالم النفس الأمريكي ويليام جيمس وجزئيا كذلك من الرواية الفرنسية لن نذهب إلى الغابات (1887) للكاتب إدوارد دوجاردان التي ترجمت إلى الإنجليزية في العام 1957 .
الوجودية قام الفيلسوف والكاتب الفرنسي جان بول سارتر بالترويج لشكل من الوجودية يرى فيه الفن كتعبير عن الحرية واختيارات الفرد وعليه يعرض الفن مسؤولية الفرد عن نفسه واختياراته. فاليأس كما انعكس في الفن ليس نهاية ولكنه بداية لأنه يمحو الذنوب والأعذار التي يعاني منها الناس عادة، وبذلك يفتح لهم الطريق إلى حرية أصيلة.
جدل أكاديمي تمحور الجدل الأكاديمي في القرن العشرين حول معنى الفن، فقد ادعى الناقد والسيمانطيقي البريطاني آيفور آرمسترونج ريتشارد بأن الفن لغة وأضاف يقول: أن هناك نوعان من اللغات، لغة رمزية تنقل الأفكار والمعلومات ولغة عاطفية تنقل الذكريات والمشاعر والسلوك. واعتبر آرمسترونج الفن لغة عاطفية تشيع النظام والوحدة في الخبرة والسلوك دون أن تحتوي على أي معان رمزية.
وكان عمل ريتشارد مهماً أيضاً بسبب استخدامه للتقنيات السيكولوجية في دراسة ردود الأفعال الجمالية. ففي كتابه النقد العملي (1929) وصف تجارب كشفت أنه حتى الأشخاص الذين نالوا قسطاً كبيراً من التعليم يتكيفون بواسطة التعليم الذي تلقوه، أي أنهم يحملون أفكاراً تم تلقينها لهم كما يتكيفون بالظروف الاجتماعية والعناصر الظرفية في ردود أفعالهم الجمالية. وقد علق كثير من الكتاب على الأثر التكييفي للتقاليد والموضة والضغوط الاجتماعية الأخرى ملاحظين على سبيل المثال أن مسرحيات وليام شيكسبير كانت تعتبر في أوائل القرن الثامن عشر بربرية وساذجة سذاجة الفن القوطي.
الفن الحديث يتكون الفن الحديث من مدارس وحركات فنية وأساليب وتقنيات متعددة. وتتراوح الأساليب في الفن الحديث بين نماذج واقعية تكاد تقترب من الكلاسيكية كما في لوحة القوطي الأمريكي American gothicالتي صور فيها جرانت وود عام 1930 زوجين من الغرب الأوسط وبين الإيقاعات التجريدية للّونين الأبيض والأسود المصبوبين على لوحة الرسم كما في لوحة أبيض وأسود من العام 1948 لجاكسون بولوك. وحتى لو أمكننا تقسيم الفن الحديث إلى فن تجسيدي أو محاك للواقع كالقوطي الأمريكي وإلى فن تجريدي كلوحة الأبيض والاسود فإننا سنظل نجد تنوعاً مدهشاً في هذين الصنفين أو القسمين من أقسام الفن الحديث. فكما أن الفن القوطي واقعي فكذلك لوحة مارلين مونرو لكونينجز من العام 1954 التي يمكن اعتبارها واقعية أيضاً على الرغم من ضربات الفرشاة العريضة التي لاتكاد تفصح إلا بالكاد عن حدود الجسم البشري وتفاصيل الوجه. ويكشف التجريد من ناحية أخرى عن عدد من التوجهات ابتداءً من الإيقاع الديناميكي لبولوك في لوحة أبيض وأسود
رسمت لوحة القوطي الأمريكي للفنان جرانت وود في العام 1930 وهي تمثل الاتجاه الواقعي في الفن الحديث
إلى الهندسة القائمة الزاوية للوحة (المزج بين الأحمر والأصفر والأزرق) التي رسمها الهولندي بيت موندريان في الفترة من 1937 إلى 1942، والذي توحي خطوطه وأشكاله الرباعية بالدقة الميكانيكية للمصنوعات الآلية.
بعض الفنانين الآخرين فضلوا إشاعة الإضطراب في مفهوم الجمال كما فعل الفنان الألماني كورتس سشويترز الذي مزج بين قصاصات الجرائد وطوابع البريد والمتروكات الأخرى ليخلق اللوحة التي سماها (صورة ذات مركز خفيف) في العام 1919.
وهكذا فإن فن القرن العشرين يقدم تنوعاً في الأسلوب كما يقدم ما هو أكثر منه، فالفنانون في أيامنا هذه شرعوا في إضافة كل ما هو متاح لهم إلى قائمة اللوحات بحيث لم يعد الرسم يقتصر على اللوحات البيضاء فقط. وهذا التجديد قاد إلى تطورات أكثر راديكالية مثل فن الفكرة وفن الأداء وهي حركات وسعت من تعريف الفن لكي يتسع لا للأشياء التي لها وجود فيزيقي فحسب بل للأفكار والتصرفات أيضاً.
لوحة أبيض واسود(1948) للفنان التجريدي التعبيري جاكسون بولوك وقد رسمت بأسلوب يسمى أحياناً بالرسم الحركي ولم يكن تكوين بولوك للوحة مرتبطاً بحجم قماشة الرسم التي كان غالباً ما يقوم بتهذيب اطرافها بعد إنجاز اللوحة
خصائص الفن الحديث وبالنظر إلى هذا التنوع فإنه من الصعب تعريف الفن الحديث بدقة بحيث تندرج فيه كل مدارس الفن الغربي الذي انتج في القرن العشرين. فبالنسبة لبعض النقاد، أهم خصائص الفن الحديث هي محاولته جعل النحت والرسم منحصرين في ذواتهما، أي بمعنىً يميز بين الأشكال الحديثــة من الفن والأشكـــال التي تنتمي إلى فترات أقدم زمنياً والتي كانت تحمل أفكاراً تنتمي إلى ديانات قوية أو مؤسسات سياسية ذات شأن. وحيث أن الفن الحديث لم يعد يمول من قبل هذه المؤسسات الدينية والسياسية فقد أصبح حراً في تقديم وجهات النظر الشخصية للفنانين والمعاني التي يرون أنه من المناسب أن تنطوي عليها أعمالهم. ويفصح هذا التوجه عن نفسه في مبدأ الفن للفن؛ وهي وجهة نظر تم تفسيرها غالباً بأنها تعني الفن الذي ليست له دوافع سياسية أو دينية. وعلى الرغم من أن المؤسسات السياسية والدينية لم تعد تسيطر على التوجهات الفنية فإن كثيراً من الفنانين المحدثين لايزالون يحملون أعمالهم الفنية رسائل سياسية أو دينية. وعلى سبيل المثال فإن الفنان الروسي فاسيلي كاندينيسكي شعر أن اللون مصحوباً بالتجريد يمكن أن يعبر عن الحقيقة الروحية الكامنة خلف المظهر العادي للأشياء والأوضاع، بينما عمل الفنان الألماني أوتو ديكس على انتاج أعمال فنية ذات طبيعة سياسية صريحة تنتقد سياسات الحكومة الألمانية.
وتدعي نظرية أخرى أن الفن الحديث متمرد بطبعه وأن هذا التمرد ما هو إلا بحث عن الأصالة ورغبة محمومة لا تهدأ في خلق الصدمة. وكانت لفظة "أفانت جراد" التي تطلق على الفن الحديث بالفرنسية معبرة عن هذه المعنى؛ إذ أنها تعني إلى الأمام أيها الحرس. الأمر الذي يشي بأن الهدف من الفن هو هدف هجومي وأن كل فن حديث هو بالضرورة فن جديد وأصيل ومقطوع الصلة بغيره.ومما يؤكد ذلك أن كثيراً من فناني القرن العشرين حاولوا إعادة تعريف معنى الفن أو توسيع تعريف الفن ليشمل الأفكار والمواد والتقنيات التي لم يكن لها صلة بالفن في الماضي.
ففي العام 1917 قام الفنان الفرنسي مارسيل دوشامب بعرض يومي يقدم فيه المنتجات المصنعه، التي تنتج بكميات ضخمة للإستهلاك الشعبي بما في ذلك عجلات الدراجات وأواني التبول، كأعمال فنية.
لوحة مارلين مونرو 1954 للفنان الأمريكي الهولندي الأصل وليم دي كونينج، وينتمي أسلوبها إلى المدرسة التجريدية التعبيرية.
وفي العام 1950 و1960 قام الفنان الأمريكي آلان كابرو باستعمال جسده ذاته كوسيلة فنية في عروض فورية كان يقدمها معلناً أنه هو نفسه عمل فني. وفي السبعينيات من القرن العشرين قام فنان التربة الأمريكي روبيرت سميث سن باستعمال مواد خام من الطبيعة كالتراب والصخور والمياه باعتبارها مواد لمنحوتات فنية. وبالنتيجة أصبح كثير من الناس يربطون كل فن حديث بكل ما هو مزعج وصادم وراديكالي. وعلى الرغم من أنه يمكن القبول بفكرة التمرد ونسبتها إلى الأصالة التي ينشدها عدد كبير من فناني القرن العشرين، فإنه من الصعب تطبيق ذلك على فنان مثل جرانت وود الذي يظهر فنه الأمريكي القوطي بوضوح رفضه لكل الأمثلة الحديثة لفن هذه الأيام.
خصيصة أخرى من خصائص الفن الحديث، هي الحماس الشديد للتقنية الحديثة ومقدرتها الميكانيكية على الإنتاج وإعادة الإنتاج، بما في ذلك التصوير والطباعة.
لوحة سندباد البحار للفنان السويسري بول كلي الذي كان معجباً برسومات الأطفال وكان يضمنها في لوحاته
ففي العشر الأولى من القرن العشرين عمل الفنان الإيطالي أمبيرتو بوكسيني على تمجيد دقة وسرعة العصر الصناعي في لوحاته ومنحوتاته. وفي نفس الفترة ذاتها تقريباً كان الفنان الإسباني بابلو بيكاسو يضمن لوحاته قطعاً من الصحف والمطبوعات الأخرى في تقنية فنية جديدة اشتهرت فيما بعد باسم الكولاج. وفي الاتجاه نفسه، حاول بعض فناني الفن الحديث استيحاء الإلهام الفني من رسوم الأطفال العفوية في محاولة لاكتشاف تقاليد جمالية لا علاقة لها بالثقافة الغربية عامة، وبثقافة العصر الصناعي على وجه الخصوص. وكان الفنانان الفرنسي هنري ماتيس والسويسري بول كلي متأثرين بعمق برسوم الأطفال، بينما كان بابلو بيكاسو يتأمل الأقنعة الإفريقية عن قرب وباهتمام شديد. وكان أسلوب بولوك في صب الدهان على اللوحة متأثراً جزئياً بفن سكان أمريكا الأصليين في الرسم بالرمل.
وهناك وجهة نظر أخرى ترى أن الدافع الأساسي للفن الحديث هو محاولة إقامة حوار مع الفنون الشعبية. وكانت وجهة النظر هذه تستند إلى أعمال بيكاسو التي تتضمن قطعاً من الصحف، وإلى رسومات روي ليشتينستاين التي قلد فيها أسلوب وموضوعات القصص الكوميدية المصورة، وكذلك إلى التماثيل التي صنعها آندي وارول من علب الشوربة. ولكن إذا كان كسر الحاجز بين الفن الراقي والفنون الشعبية هدفاً لفنانين مثل بيكاسو وليشتينستاين ووارول، فإن ذلك لم يكن أبداً ضمن أهداف موندريان وبولوك ومعظم الفنانين التجريديين الآخرين.
كل من هذه النظريات مثير للاهتمام بطبيعة الحال وهي تشرح جزءا كبيراً من الاستراتيجيات التي استخدمت في الفن الحديث. ومع ذلك، فإن فحصاً سريعاً للمسألة يكشف بوضوح أن فن القرن العشرين أبعد ما يكون عن القابلية للاحتواء تحت أي تصنيف من هذه التصنيفات، فكل نظرية تستطيع أن تسهم في إيضاح جزء من اللغز ولكن لا يمكن لأي نظرية بمفردها الإدعاء بأنها قد حلت اللغز بكامله.
النشأة الأولى كان لفن القرن التاسع عشر الاهتمامات والخصائص ذاتها المذكورة أعلاه التي للفن الحديث في القرن العشرين. ويتضمن ذلك فكرة الفن الفن والتركيز على الجدة والاحتفاء بالتقنية الحديثة والحماس للبدائية وإقامة الصلة بالفنون الشعبية. وكان احتفاء الفن الحديث بفكرة الفن الفن قد ابتدأ مع الفنانين الإنطباعيين الفرنسيين بما فيهم إدوارد مونيه وإدجارد ديجاس وكلودي مونيه وبيرث موريسوت. فقد قام كثير من هؤلاء الانطباعيين بكسر الصلة مع مؤسسة الفن الفرنسي في العام 1870 وابتعدوا عن الموضوعات الدينية والتاريخية، ثم أقاموا معرضاً لرسوماتهم بصورة مستقلة منطلقين من ضرورة ابتعاد الفن الحديث عن الاعتماد على المؤسسات القائمة وضرورة قيامه بتأسيس استقلاليته الخاصة. وقد وسم الانطباعيون الفرنسيون الفن الحديث بالشعبية من خلال رسمهم للحياة اليومية في الحانات والمسارح . كما أنهم وسموا الفن الحديث بسمة الاعجاب بالمنتجات التقنية من خلال رسوماتهم التي احتوت على السكك الحديدية والجسور والمباني الحديدية.
لوحة حديقة الخضروات في الهيرميتاج 1879 للفنان الانطباعي الفرنسي كاميل بيسارو
ثم أظهروا حماس الفن الحديث للجدة من خلال تقنياتهم الفنية الرائدة كالاقتصاد في استعمال الألوان، وبالضربات السريعة المتقطعة من الفرشاة، وعن طريق تركيز الألوان. وقد قام فنانون القرن التاسع عشر هؤلاء بتوسيع مفهوم العمل الفني عن طريق اعتبار المخططات الأولى للعمل الفني أعمالاً فنية ناجزة وليس مجرد اسكتشات. إضافة إلى قيامهم بعرض أعمال أنجزت بسرعة دون روية أو تخطيط مسبق أو أناة في رسمها.
ما بعد الانطباعية وفي العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر ظهر عدد من الفنانين الذين ألهمهم أسلوب الانطباعيين وتقنياتهم ولكنهم على الرغم من ذلك انقلبوا على الانطباعيين بقوة. وهؤلاء الفنانون الذين تمت تسميتهم بـ (ما بعد الانطباعيين) أسسوا عدداً من الطرق والأساليب البديلة في الرسم. وكان كل من هذه الطرق والأساليب مقدمة قوية لفن القرن العشرين. وعلى سبيل المثال رفض بول جوجان أسلوب الانطباعيين في الرسم بضربات قصيرة منفصلة للفرشاة وفضل عليه استخدام مساحات واسعة من لون واحد محاطة بخطوط كنتورية ثقيلة. وقد أثرت هذه التقنيــــة في ماتيس وفي مجموعة من الفنـانين الذين استخدموا اللون فيما بعد كوسيلة للتعبير بدلاً من اعتباره وسيلة لمحاكاة ونقل ما في الطبيعة من ألوان. وفي العام 1981 قرر جوجان أن يستقر في جزيرة تاهيتي الواقعة في المحيط الهادي وكان دافعه إلى اتخاذ ذلك القرار رغبته في ترك الحضارة الغربية وممارسة أسلوب أبسط للوجود وقد أسهمت أعماله الفنية التي أنجزها هناك في إحداث موجة من التعلق بالفنون الغير غربية لدى الفنانين الحداثيين.
الغربان في حقل القمح 1890 للفنان فان جوخ والتي رسمها قبل وفاته وتظهر ضربات الفرشاة القوية توتر الفنان العاطفي كما تظهر الغربان المنذرة بالموت تشاؤمه
واستخدم صديق جوجان الرسام الهولندي فينسينت فان جوخ الألوان والفرشاة لترجمة حالته العاطفية وإظهارها في اشكال مرئية إضافة إلى ذلك حمل رسوماته بمعان دينية و رمزية كالغربان التي كان يرمز بها إلى الموت على سبيل المثال متحدياً بذلك تركيز الانطباعيين على الملاحظة المباشرة.
وكانت أعمال الرسام النرويجي إدوارد مونش قائمة على الاعتقاد بأن الرسم يستطيع أن يضحي بالوضوح والصدق في نقله للطبيعة لأسباب تتعلق بالتعبير الفني. واستخدم مونش مزيجاً خشناً من الألوان وأشكالاً مشوهة ووجهة نظر مبالغ فيها حتى يتمكن من التعبير بشكل مرئي عن اغتراب الإنسان في المجتمع الصناعي الحديث. وكانت أعمال جوجان وفان جوخ ومونش قد أسست للتطورات اللاحقة في المدرسة التعبيرية في فن القرن العشرين.
وهناك فنان ما بعد انطباعي اتخذت ردة فعله على الإنطباعية شكلاً مختلفاً فالفنان جورج سورات حاول رفع فن الرسم إلى مستوى العلم عن طريق تطبيق أحدث النظريات العلمية في الضوء واللون في أعماله. وقد قام بتقسيم الألوان إلى مكوناتها الأصلية (الوردي إلى أزرق وأحمر، والأخضر إلى أزرق وأصفر على سبيل المثال) وقام بتطبيق هذه الألوان على قماش الرسم نقطة نقطة من أجل الحصول على الإحساس النهائي باللون عن طريق امتزاج النقاط ذات الألوان المختلفة على الرقعة الواحدة. وهذا الأسلوب الذي يدعى النقطية كان مقصوداً به إلغاء كل ثقافة ومعرفة مسبقة من نشاط فن الرسم واستبداله بالتطبيق العلمي الميكانيكي.
لوحة الصرخة 1893 للفنان التعبيري النرويجي إدوارد مونش
أما الفنان المابعد الانطباعي الآخر بول سيزان فقد حاول إيجاد بنية لما كان يصفه بالممارسات غير المنظمة للانطباعية وقد ظهرت الموضوعات المرسومة أكثر صلابة ومصداقية في رسوماته من مثيلاتها في لوحات رفاقه الانطباعيين. ولكن ورغم هذه الزيادة في الصلابة فقد حاول سيزان أكثر من أي فنان سابق زعزعة تكامل الشكل من خلال التشويه الرقيق والمظهر غير المضبوط لما يرسمه في لوحاته الكثيرة لمظاهر الحياة الساكنة. فالأشياء لا تستقر بثبات على قواعدها والمزهريات التي تظهر من الأمام يبدو على الجزء العلوي منها حدود كما لو كانت ترى من أعلى، وأحياناً تبدو الحواف المستقيمة للمناضد من جانبي الغطاء دون أن تتطابق معه. وبدا الأمر كما لو كان سيزان يحاول تفكيك نفس الصلابة التي حاول إعادة الاعتبار إليها . وقد قدم سيزان أعمالاً تجديدية راديكالية في أعماله مثلما فعل في لوحته جبل القديس فيكتوار (مونت سانت فيكتوار 1906) فكانت حافة الجبل التي يجب أن تكون صلبة مشقوقة تتخللها مساحات من السحاب وبهذه التقنية البسيطة غير سيزان مجرى تاريخ الفن. فهذين المعلمين الطبيعيين الأرض والسماء الذين ظلا دائماً منفصلين وقابلين للتمييز أحدهما عن الآخر قد أصبحا الآن متداخلين. وبدا كما لو أن سيزان كان يقول أن العالم كما هو وكما يرى ليس مهماً أهمية قوانين الرسم. وبعد الأمثولة التي قدمها سيزان أخذ عالم الحقيقة وعالم الفن يتجهان في طريقين منفصلين وهذه التجزئة التي ابتدأت بعمل سيزان كانت رأس الحربة في تجريبية بيكاسو اللاحقة مع الشكل واختراعه للتكعيبية.
اسم اللوحة الكامل (جبل سانت فيكتوار من الجنوب الغربي مع أشجار ومنزل) 1906 للفنان الفرنسي التعبيري المابعد انطباعي بول سيزان
لوحة (بعد ظهر يوم أحد على جزيرة لاجراند جات) 1884-1886 للفنان جورج سورات الذي ابتدع الأسلوب النقطي في تلوين اللوحات الفنية
الفن الحديث في العقود الأولى لقد ربط مؤرخوالفن بين تجزيئية الشكل في الفن في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وبين التجزؤ في المجتمعات في ذلك الوقت. وقد كان الإلهام المتزايد المستمد من الثورة الصناعية يوسع الهوة بين الطبقة الوسطى والطبقات العاملة. وكانت المرأة تطالب بحق التصويت والحقوق المتساوية وكان منظر العقل الذي عرضه عالم النفس سيجموند فرويد يقول بأن النفس البشرية أبعد من أن تكون موحدة وأنها تعاني من النزاعات والتناقضات العاطفية. وكان اكتشاف أشعة إكس ونظرية النسبية لعالم الفيزياء إنشتاين والإختراعات التقنية الأخرى توحي بأن تجربتنا البصرية لم تعد مطابقة لرؤية العلم للعالم.
ولم يكن من المستغرب أن تعكس أشكال مختلفة من الإبداع الفني هذه التوترات والتطورات. ففي الأدب كان هناك جيمس جويس، وتي إس إليوت، وفيرجينيا وولف، الذين أجروا تجاربهم على بنية الحوار والنحو وحتى الإملاء. أما في الرقص فقد كان هناك سيرجي دياجليف، وإزادورا دونكان، ولوي فولر، الذين أخذوا في إجراء تجارب على الملابس غير التقليدية، وعلى مخططات الرقص المصاحب للموسيقى (الكوريوغرافي). وفي الموسيقى قام كل من أرنولد شوينبيرج، وإيجور استرافينيسكي، بتأليف قطع موسيقية لا تعتمد على البنى اللحنية التقليدية.
ولم تكتف الموسيقى بأخذ نصيب كبير من التجارب الفنية الجديدة، بل أصبحت ملهمة للفنون البصرية. فكثير من النقاد الفنيين في أواخر القرن التاسع وأوائل القرن العشرين، كانوا متأثرين بالفيلسوفين الألمانيين آرثر شوبنهاور، وفريدريك نيتشيه، اللذين كانا قد زعما بأن الموسيقى هي أقوى الفنون على الإطلاق، وذلك لأنها في زعمهما تثير العواطف وتسيطر عليها إثارة وسيطرة مباشرين، وليس عن طريق محاكاة العالم ونسخه. ولذلك فإن كثيراً من فناني الرسم في أواخر القرن التاسع عشر حاولوا محاكاة قوة التأثير الموسيقي المباشر في عالم الرسم. وقد سميت حركتهم الفنية هذه بالحركة الرمزية. وشملت فيمن شملت الرسامين أوديلون ريدون، وجوستاف موروا، وكانت طريقتهما تتلخص في إدراج أشكال تجريدية تمثل المتخيل لا المشاهد. وقد مهد ريدون والرمزيون الطريق أمام المدرسة التجريبية.
الفافية انعكست الفكرة القائلة بأن الرسم يمكن له أن يشبه الموسيقى في عام 1909 في لوحة هنري ماتيس الغرفة الحمراء، أو الهارموني في الأحمر، والاسم الأخير للوحة كان قد استعير من لغة الموسيقى. وقد استعار ماتيس من جوجان المساحات الواسعة ذات اللون الواحد، والأشكال المبسطة، وخطوط الكنتور الثقيلة. وترتبط بساطة أسلوب ماتيس في الرسم بولع جوجان بفنون الثقافات غير الغربية. وقد وظف ماتيس أيضاً التصميمات التدريجية للبسط والأقمشة مقوياً بذلك من تسطح الرسمة بدلاً من محاولة الإيهام بالعمق. وكان اهتمامه بهذه التصميمات دليلا على تأثره بأشكال إبداعية لم تكن غالباً مرتبطة بالفن الراقي.
وعلى الرغم من أن اللوحة الحمراء كان يقصد بها تصوير مشهد سار في سكن عائلة من الطبقة المتوسطة فإن أسلوب ماتيس في الزخرفة اعتبر ثورياً جداً وخاصة في الطريقة التي لون بها الأشياء بألوان ثقيلة ومركزة بصورة تحكمية وليس كما تظهر في الواقع. وقد قامت الصحافة النقدية الفضائحية باطلاق اسم الوحوش البرية على كل من ماتيس وزملائه آندريه درين وموريس ديفلامينك وجورج براك وهي عبارة تلفظ بالفرنسية (فافي) ومن هنا أصبح هذا الاسم علماً على المدرسة الفنية التي كان أولئك الرسامون أعلامها، والتي لا يزال تأثيرها يظهرإلى اليوم في أعمال كثير من الفنانين. وقد دامت الفافية كحركة من العام 1898 حتى العام 1908.
لوحة جسر لندن 1906 للفنان الفرنسي الفافي آندريه دوريان، وتظهر فيها بوضوح خصائص أسلوب الفافيين في رسم الأشكال المشوهة المبسطة والألوان الزاهية
لوحة الهارموني في الأحمر 1908 للفنان الفرنسي الفافي هنري ماتيس
التكعيبية ابتدع بابلو بيكاسو صديق ماتيس اللدود أسلوباً جديداً في الرسم يركز على الخط بدلاً من اللون. وقد تغير فن بابلو بيكاسو جذرياً عندما قرر أن يقتبس في لوحاته بعض أساليب فن النحت الإفريقية. وعلى العكس من المشهد السار الذي رسمه ماتيس لسكن عائلة من الطبقة الوسطى فإن بيكاسو مارس عنفاً شديداً على الشكل البشري عن طريق تبسيطه بصورة راديكاليه وذلك في لوحته (آنسات الآفنيون) حيث قام بعمل تشويه كبير لخصائص الجسم البشري التشريحية والنسب الجمالية فيه، وإلى ذلك فإن فضاء اللوحة لم يكن يتناسب مع منطق المنظور، وهو النظام التقليدي لعرض العمق في اللوحات، وكانت المشاهد مجزأة إلى درجة أنها لم تكن تقرأ إلا بصعوبة بالغة. وتراث العنف الذي خلفه بيكاسو في آنساته فتح الطريق في حوالي العام 1912 إلى لوحاته الغامضة مثل لوحة ماجولي التي رسمها في العام 1912. وفي هذه اللوحة وأمثلة أخرى من التكعيبية التحليلية كان الموضوع في العادة صورة نصفية لشخص (بورتريه) أو مشهداً ساكناً.
لوحة آنسات الآفينيون 1907 لرائد التكعيبية الفنان الإسباني بابلو بيكاسو ويظهر فيها تأثره بفن النحت الإفريقي للأقنعة
وكان المشهد يجزأ إلى سلسلة من الأجزاء المتداخلة والفضاءات الهندسية المتشابكة. ويمكن ملاحظة تأثير سيزان في هذه التجزيئية كما يمكن ملاحظة ولع بيكاسو بالغرابة وجمع النقائض في مكان واحد. ويتشابك الجسم الصلب بالفراغ والقوام بالبيئة والخلفية بالمقدمة بشكل يصدم منطق الرسم التقليدي ومنطق الخبرة اليومية المباشرة. وقد رسم بيكاسو لوحة ماجولي بدرجات لونية مطفأة من الرمادي والبني؛ وهذا الافتقار إلى الألوان يميز التكعيبية التحليلية، كما يميزها إدراج الحروف فيها. وكلمة ماجولي التي تعني بالفرنسية (يا جميلتي) تظهر في أسفل اللوحة في إشارة إلى أغنية شعبية رائجة في تلك الأيام، الأمر الذي زاد من قوة العلاقة بين الفن الحديث والثقافة الشعبية.
وقد ازدادت هذه الرابطة وثوقاً في أعمال بيكاسو اللاحقة مثل لوحاته التي أخذ يدخل عناصر غريبة عن اللوحة، غيرالألوان، في تكوينها. فكان ذلك أول عهد فن الرسم بالكولاج. وقد تبعه في ذلك زميله الفرنسي جورج براك في مخالفة صريحة لتقنيات الرسم التقليدي. ومنذ ذلك الحين لم تعد أية مادة غريبة عن الفن. وفتحا بذلك الباب لإعادة تعريف الفن مرة ومرة خلال القرن العشرين.
لوحة الإفطار للفنان الفرنسي الإسباني المولد جوان جريس، ويظهر فيها أسلوب الكولاج الذي ابتدع في العقد الأول من القرن العشرين
لوحة الجيتار والكأس 1921 للفنان الفرنسي التكعيبي جورج براك، ويظهر فيها أسلوب التكعيبية التحليلية بخصائصها من الشكل المجزأ إلى اللون الوحيد لكل عنصر
وقد أثبتت تكعيبية بيكاسو تأثيرها الطاغي. فالفنانون الفرنسيون الذين انخرطوا في موجة التجريب التكعيبي كانوا نخبة منهم آلبيرت جليز وجين ميتزينجر وروبيرت ديلونيه وفيرناند ليجر وجوان جريس. ويتميز أسلوبهم الذي يمجد الحياة الحديثة في علاقتها بالتكنولوجيا عن أسلوب بيكاسو وبراك. وعلى سبيل المثال فقد قام ليجر بتبسيط الأشكال في لوحته (المدينة) عام 1919 واختزلها إلى مساحات مسطحة من اللون أو مشاهد لمكعبات أو اسطوانات ذات ثلاثة أبعاد. وفي هذا العمل أثمر أسلوب بيكاسو التكعبيبي عند ليجر وتحول إلى نوع أكثر ميكانيكية. وهذا الانزياح يعكس اعتقاداً سياسياً مؤداه أن شخصية الفرد يجب أن تذوب لتخدم المجتمع ككل. ورؤية ليجر في (المدينة) للمجتمع المثالي أو اليوتوبيا كان عبارة عن مزج بين الآلة والإنسانية.
المستقبلية المستقبليون مجموعة من الفنانين الإيطالين الذين عملوا بين الفترة من العام 1909 إلى العام 1916 وقد شاركوا ليجر في حماسه للتكنولوجيا ولكنهم اندفعوا بحماسهم هذا إلى مدى أبعد. وكما تدل التسمية التي اطلقت عليهم فإن المستقبليين مجدوا كلما يتعلق بالتكنولوجيا والآلية وحقروا كل ما له علاقة بالتقاليد. وقد أعلنوا أن السيارة السريعة أكثر جمالاً بما لا يقاس من أي تمثال إغريقي. وتمثل لوحة لاعب الكرة لآمبيرتو بوكسيني نموذجاً للفن المستقبلي حيث مزج بين نقطية سورات وتجزيئية بيكاسو. وأكثر ما يثير الانتباه في لوحة بوكسيني هي الاقدام الكثيرة للاعب الكرة تعبيراً عن الحركة. ولتحقيق مشاهد الحركة هذه، اعتمد المستقبليون على التصوير الفوتغرافي المتتابع لحركة الإنسان التي التقطها المصور إدوارد مايبريدج والعالم جوليوس ماري إتيني. وقد هتف المستقبليون قائلين: "إن الحصان الذي يجري ليس له أربعة أرجل فحسب ولكن له من الأرجل عشرين." وقد اعتقد المستقبليون مثل ليجير أنه بالإمكان بناء مجتمع جديد إذا ضحى المواطنون بفرديتهم من أجل مصلحة الجموع الكبيرة.
لوحة (رجل عار ينزل الدرج) 1912 للفنان الفرنسي المستقبلي مارسيل دوشامب، ويظهر في أسلوب اللوحة تأثره بالتصوير الفوتوغرافي المتتابع للحركة والتأثر بالآلية الصناعية
والإنسان الجديد المثالي الذي ظهر في لوحات بوكسيني كان آلة أكثر منه إنساناً وهو يبدو قوياً وذا طاقة عظيمة ولا شخصية له ولا ملامح وربما كان عنيفاً. ومن الفنانين المستقبلين الآخرين هناك أسماء مثل جياكومو بالا وكارلو كارا وجينو سيفيريني. ومن الواضح أن أفكار المستقبليين ومن سبقهم مثل ليجر كانت ارهاصات تنذر بالتطورات السياسية اللاحقة التي افرزت كلاً من النازية والفاشية في أوروبا وإن بعد عقود.
التمثال البرونزي (أشكال فريدة للاستمرارية في الفضاء) 1913 للمثال الإيطالي المستقبلي آمبيرتو بوكسيني
التعبيرية الألمانية وبينما كان المزج بين التقنية الجديدة والإنسان هي نقطة الثقل في المستقبلية الإيطالية فقد ظهرت جماعة من الفنانين في ألمانيا تدعى (داي بروك) ومعناها الجسر، وكانت هذه الجماعة تحتفل بالحدس الإنساني وليس بالتكنولوجيا وقد تأسست هذه الجماعة في مدينة درسدن في العام 1905، وضمت كلاً من الفنان الألماني إرنست لودفيج كيرشينير، وإيريك هيكل، وإيميل نولده، وماكس بيشيستين، وكارل شميديت روتلاف. ورأى هؤلاء الفنانون المدينة الحديثة مكاناً للاغتراب. وقد أظهر الفنان كيرشينير في أعمال مثل (مشهد من شارع برليني) 1913 زيف حياة المدينة والطريقة التي يفقد بها الإنسان هويته في الزحام. وكانت شخصياته أشكالاً ذات مقاييس مشوهة وخصائص وجهية غير متمايزة.
و تمكن كيرشينير من إبراز الإحساس بالقلق من خلال الألوان المتضاربة المتجاورة والأشكال ذات الزوايا، وبدا متأثرا فيما يتعلق بالأشكال الزاويّة بالنحت الإفريقي. وقد راقت تلك الأشكال الفنية للتعبيريين ليس بسبب بساطة التشريح البشري فيها فحسب ولكن بسبب خشونتها أيضاً وهي خشونة تكشف آثاراً من يد الفنان والصعوبة التي يجدها في العمل بالخشب.
لوحة (حياة ساكنة، زهور التوليب) 1930 للفنان الألماني التعبيري إيميل نولده من مدرسة التعبيرية الألمانية
وقد قام التعبيريون برسم الجسم البشري وسط مناظر الطبيعة حيث يتحرر من كل القيم الأخلاقية للطبقة الوسطى، مقتفين في ذلك أثر جوجان.
وقد ظهرت في العام 1911 مجموعة جديدة من التعبيريين تم تأسيسها في مونيخ بألمانيا تم تسميتها (الراكب الأزرق)، وضمت هذه المجموعة الروسيين فاسيلي كاندينيسكي، وأليكسي فون جاولينيسكي، والألمان فرانز مارك، وأوجوست ماخ، وجابرييل مونتير، والسويسري بول كلي. وشأن أعضاء داي بروك، أولع فنانو الراكب الأزرق، بالفن غير الغربي وبرسوم الأطفال والفن الفلكلوري والحرف اليدوية. ولكن أعضاء الراكب الأزرق كانوا أكثر اهتماما بالجانب الروحي للإنسانية من الجانب الحدسي. وقد كتب كاندينسكي بحثاً بعنوان (حول الروحانية في الفن) 1912، وربط في هذا البحث بين التجسيد والمادية وبين التجريد والروحانية. وكما فعل الرسامون الرمزيون في القرن التاسع عشر، قال كاندينسكي بالتوازي بين الرسم والموسيقى، واعتقد أن الألوان يمكن أن توقظ المشاعر بذات الطريقة التي توقظها بها الألحان والأصوات المختلفة. وفي لوحته إمبروفيسايشن (الارتجال 28) 1972، تظهر الخطوط الكنتورية غر مكتملة كما لو كانت مفتوحة، كما تبدو الخطوط والألوان مستقلة إحداها عن الأخرى. وعلى الرغم من أن بعض الدارسين يرون بأن هذه الأعمال هي النماذج الأولى للفن التجريدي فإن آخرين اكتشفوا في كثير من اسكتشات كاندينسكي المليئة بالإنفعال إشارات إلى الطوفان ويوم الدينونة ومشاهد إنجليلية أخرى. ويوحي هذا الاكتشاف بأن الروحانية التي نسبها كاندينسكي إلى الفن التجريدي لم تكن مجرد فكرة عامة بل كانت جزءًا أساسياً من موضوعات لوحاته.
لوحة (منظر في شارع برليني) 1913 للفنان الألماني التعبيري ارنست لودفيج
لوحة (الارتجال 28) 1912 للفنان الروسي التعبيري فاسيلي كاندينيسكي
التسامي والبنائية وفي أوائل القرن العشرين حوالي العام 1913 ظهرت مدرستان روسيتان تجريديتان جديدتان. وقد شكل الحركة الأولى(سوبر ماتيزم) أو التسامي كل من الرسام كازمير ماليفيش وإيل ليسينزكي أما الحركة البنائية فقد شكلها المثالان فلاديمير تاتالين والكسندر روديشنكو.
وكان أصحاب مذهب التسامي يعتقدون مثلهم في ذلك مثل كاندينسكي أن التجريد يمكن أن يحمل ويوصل معان دينية. وقد قام ماليفيش في العام 1915 برسم مربع أسود على خلفية بيضاء وعرض اللوحة في غرفة جانبية كانت تقليدياً معرضاً للأيقونات الدينية الروسية. وطبقاً لماليفيش فإن لفظة سوبرمايتزم تعني (سيطرة الشعور النقي) وأن المربع الأسود يرمز إلى الإحساس بينما يرمز الحقل أو الخلفية إلى الفراغ أو العدم. لقد كان ما أراد أن يعبر عنه مالفيش هو الإحساس النقي بالحساسية ذاتها وليس مجرد الإحساس المرتبط بتجربة محددة كالجوع أو الحزن أو السعادة.
لوحة (التسامي) 1919 للفنان الروسي التجريدي كازمير ماليفيش
أما البنائيون فقد كانوا يبحثون عن فن يكون تجريدياً وقابلاً للفهم في الوقت ذاته. وقد احتفت تماثيلهم بخصائص المادة والأشياء كالملمس والقوام. وقد قام تاتلين متأثراً بتقنيات بيكاسو في الكولاج والتكوين بانتاج تماثيل لم يستخدم فيها أياً من التقنيات التقليدية كالنحت أو القوالب وذلك لأن النحت يتطلب إزالة أجزاء من الكتلة للكشف عن المنحوتة أما البناء فهو عملية إضافة يقوم فيها الفنان بتجميع مواد كالمعدن والخشب لتكوين التمثال. وعلى العكس من بيكاسو فإن تاثلين لم يقم أبداً بطلاء المواد التي يستخدمها وأراد لها أن تكشف
اسطحها عن طبيعتها دون تدخل أو تغيير. وفي اقتراحه لنصب (العالمي الثالث) الذي عمل له نموذجاً خشبياً صغيراً في العام 1919-1920 وضع تاثلين تصميماً لبناء معدني هائل للاحتفال بتأسيس الدولة السوفيتية الجديدة. وكان يريد أن يكون ارتفاع النصب أعلى من برج إيفل وأن تكون فيه كتل دوارة تكون مقرات لمكاتب حكومية يدور بعضها مرة كل يوم وبعضها مرة كل شهر وبعضها يدور مرة كل عام. ولم يتم تنفيذ هذا التصميم الغيرعملي الذي يقدم فكرة جلية عن الجوانب المتعددة التي يميل إليها الفن الحديث كالأفكار المثالية (اليوتوبية) وتجربة المواد والتقنيات الجديدة وإزاحة الحدود بين الهندسة المعمارية والفن الراقي.
نموذج مصغر لـ(العمود) 1923 للفنان الأمريكي الروسي الأصل من المدرسة البنائية نعوم جابو
الأسلوبية (دي ستيجيل) قام الرسامان الهولنديان بيت موندريان، وفان دويسبرج، بتأسيس مجموعة فنية تسمى (دي ستيجيل) بالهولندية، وتعنى الأسلوب. وكان من بين أعضائها الرسام بارث فان ديرلينج، والنحات جورج فان تو نجرلو، والمعماري جيريت ريتفيلد.
وكان الأسلوبيون مثلهم مثل أصحاب مذهب التسامي ملتزمين بالتجريدية، ويشعرون بأن التجريد يمكن أن يغير طبيعة المجتمع، وأن يوجد نوعاً جديداً من البيئة الإنسانية. وتكشف لوحة موندريان (المزج بين الأحمر والأصفر والأزرق) 1937-1942، عن ميل الأسلوبية إلى اختزال الرسم إلى عناصره الضرورية فقط. وكانت الخطوط المتعامدة السوداء في لوحة موندريان تقسم اللوحة البيضاء إلى مساحات رباعية، وقد قام الفنام بتلوين بعض هذه المساحات المحصورة بين الخطوط المتقاطعة بالأحمر أو الأزرق أو الأصفر. ولم تكن مساحة اللوحة توحي بأي شيء، كما لم يكن فيها ما يمكن التعرف عليه بداهة. وكان كل شيء يبدو كما لو كان قد سبق تصميمه في ذهن الفنان. وكان الأسلوبيون يرغبون في جعل لوحاتهم خالية من اللمسة والطابع
لوحة (تكوين بالأحمر والأصفر والأزرق) 1937-1942 للفنان الهولندي بيت موندريان من جماعة ديستيجيل أو الأسلوب
الشخصيين وأن تكون شيئاً أشبه بالآلة التي لا تحتوي إلا على ما هو ضروري ولازم.
وقد بدت في أعمال الأسلوبيين اصداء للتكعيبية والمستقبلية وهو ما ظهر في أملهم في إمكانية بناء مجتمع جديد يرفض الفردية ويلتزم بالإرادة الجماعية.
على الرغم من المسافة الشاسعة التي تفصل بين هندسة موندريان ذات الاشكال الرباعية وبين أعمال كاندينسكي الديناميكية والمليئة بالنذر فإن كلا الفنانين كانا ملتزمين بالفن التجريدي ويشتركان في الاعتقاد بأن هذا الأسلوب الفني قادر على حمل مضامين فلسفية. وكما رأى كاندينسكي أن في الأعمال التجريدية رسائل تتضمن الإحساس الروحي فكذلك رأى موندريان في الشبكات المتماثلة للوحته (المزج...) تعبيراً مجازياً عن التوازن بين القوى المتضادة كالإنسان والطبيعية والفرد والمجتمع إلخ.. وكانت هذه الأفكار مركزية في أعمال موندريان الذي كان يرى فيها اساساً لأسلوب جديد في كل من الفن المعماري وفن التصميم الداخلي للمباني. هي رؤيا كشف عنها موندريان وقام فنانون لاحقون بالمساعدة على تطبيقها وتحويلها إلى واقع.
الموضوعية الجديدة فقد بعض الفنانون إيمانهم بالتجريدية بعد الدمار الذي لا مثيل له والذي أحدثته الحرب العالمية الأولى. واعتقد بعضهم أن التجريدية بوجه خاص تبدو سطحية وهزلية في وضع فقد فيه ملايين من البشر حياتهم وأصبحت فيه عشرات المدن تكافح شحة الطعام والفساد السياسي في الوقت الذي امتلات فيه هذه المدن بجرحى الحرب
لوحة (الحرب) 1929-1932 للفنان الألماني أوتو ديكس من مدرسة الموضوعية الجديدة
ومشوهيها. وقد قام عدد من الفنانين في ألمانيا بتأسيس حركة فنية أسموها (الموضوعية الجديدة) وأعلنوا أن مواجهة كل تلك المشاكل يتطلب التوقف عن ممارسة فن ينأى بنفسه عن مجريات الأحداث اليومية وتجاربها أو فن يتناول القضايا الفلسفية التجريدية أو فن يحاول سبر الحالة النفسية لمبدع العمل الفني. وعمل هؤلاء الفنانون الذين كان من بينهم جورج جروز وأوتو ديكس على العودة إلى أساليب تجسيدية تقليدية للتعبير عن القضايا السياسية والاجتماعية الراهنة. وكانت لوحة (بائع الثقاب) 1920 على سبيل المثال قد نبذت التكعيبية والتعبيرية والتجريد لصالح نوع من التجسيد القابل للفهم الفوري. وعالجت اللوحة المعاملة الخالية من الإحساس التي يعامل بها الجنود الذين عرضوا حياتهم للخطر في سبيل البلاد. وتظهر في اللوحة صورة لجندي معاق يبيع علب الثقاب في الشارع بينما يظهر فيها بوضوح تجاهل المارة له. وكان أوتو ديكس مدركاً أن معاملة الجنود بعد الحرب تختلف طبقاً للطبقة الاجتماعيه التي ينتمون إليها فلم تكن لوحته والحالة هذه تشجب الحرب بصفة عامة فحسب بل إنها كانت تستنكر التوتر الطبقي الذي كان يقسم ألمانيا في تلك الأيام.
لوحة (الشفق) أو (بائع الثقاب) للفنان الألماني جورج جروز من مدرسة الموضوعية الجديدة
الدادائية أثرت مذابح الحرب العالمية الأولى في الفنانين بطرق مختلفة فقد شعر البعض بنفس الشعور الذي كان لدى موندريان بان تحسين حال البشر يكمن في إيجاد مجتمع آلي يخلو من النزعة الفردية. بينما اتفق آخرون مع رأي أوتو ديكس القائل بأن تحسين حال البشر يتطلب لفت الأنظار وتركيز الاهتمام على المشاكل السياسية. وكان هناك فريق ثالث توصل إلى قناعة مفادها أن فكرة تغير البشرية إلى الأفضل ليست إلا وهما عديم الجدوى، وأن أي جهد في هذا السبيل لن يكون من ورائه طائل. وبالنسبة لهذا الفريق فإنه إذا كان ثمة درس يمكن استخلاصه من الحرب، فهو إفلاس العقل والسياسة والتكنولوجيا وحتى الفن ذاته. وقد اجتمع على هذه الأرضية الفكرية مجموعة من الفنانين والشعراء وأسسوا حركة أسموها الدادائية. وقد تعمدوا أن لا يكون لإسم الحركة ذاتها أي معنى معروف. وقد سخر أعضاء هذه الحركة من كل شيء له علاقة بالثقافة والسياسة والقيم الجمالية. وبعد أن كانت حركتهم متمركزة في زيوريخ بسويسرا لم تلبث أن انتشرت إلى كل من برلين وباريس ونيويورك وكان من بين أعضاء الحركة الدادائية الشاعر الألماني هوجوبول ومواطنه الفنان كورث سشويترز ثم كل من الرومانيين الشاعر تريستان تزارا والفنان مارسيل جانكو ومن الولايات المتحدة كان هناك الفنان الأمريكي مان راي والفنانون الفرنسيون مارسيل دوشامب وجين آرب وفرانسيس بيكابيا. وهاجم الدادائيون محض فكرة الشعر والفن بإنجازهم أعمالاً من مخلفات القمامة على طريقة الكولاج مثل لوحة سيشويتزر (مع مركز الضوء) 1919، كما قاموا بكتابة قصائد اختاروا كلماتها بالقرعة من بين كلمات مكتوبة على قصاصات موضوعة في قبعة. وكانت الصدفة والحظ من بين الأدوات الإبداعية الشائعة لدى الدادائين.
وكان أحد أكثر أعمال الدادائيين شهرة في الأيام الأولى للحركة (النبع) 1917، للفنان مارسيل دوشامب. وهوعبارة عن مبولة شائعة الاستعمال تم تحويلها إلى عمل فني بمجرد عرضها في قاعة الفنون وإطلاق اسم فني عليها. وكان دوشامب يهدف من ذلك إلى السخرية من أفكار الفن والإبداع والجمال التقليدية، وأن على الفنان (رغم أن دوشامب كان ينكر دوماً أنه فنان) ألا يبدع أعمالاً ذات صفات جمالية اعتماداً على الإلهام والموهبة، وإنما عليه بدلاً من ذلك ان يلجأ إلى قطع مسبقة الصنع وشائعة الاستعمال في الحياة اليومية. وعلى الرغم من أن هذه القطع والأشياء التي يصفها دوشامب بأنها أشياء مصنعة جاهزة كانت قبل ذلك ذات وظيفة خاصة بها، إلا أن دوشامب قام بسلبها تلك الوظيفة عن طريق وضعها في سياق جديد، بأن يضعها في متحف أو قاعة للفنون، وعن طريق تغيير اسمها الأصلي.
السوريالية كان للنقد الحاد المتطرف للدادائيين لكل من العقل والفن جاذبية كبيرة لدى حركة فنية وأدبية أسست في العام 1924 هي السوريالية. وقد أراد السورياليون أن يطبعوا سلبية الدادائية بطابع أكثر إيجابية. وكان السورياليون الذين ألهمتهم كتابات سيجموند فرويد عالم النفس الذي جادل بأن العقل البشري منفصل بين الوعي الظاهر واللاوعي الخفي حيث توجد أفكار ومشاعر ورغبات الإنسان الداخلية. وقد نذر السورياليون أنفسهم لهدف الوصول إلى هذه الرغبات والمشاعر الدفينة والكشف عنها بالطريقة التي تصور به الأحلام تلك الرغبات والمشاعر بالصور وعلاقة هذه بالتالي بالكلمات والفن. وكان الفنانون الذين يسعون إلى الوصول إلى اللاوعي مجموعة من بينها آندريه بيرتون وآندريه باسون وإيف تانجوي من فرنسا والبلجيكي رينيه ماجريت والإسبانيين جون ميرو وسيلفادور دالي والألماني ماكس إرنست. وقد نشأ ضمن السوريالية خطان متميزان. فبعض الفنانين مثل دالي وماجريت حاولوا تصوير الأحلام عن طريق رسم الأشياء رسماً صحيحاً مع إظهارها في أوضاع لا معقولة. وعلى سبيل المثال كانت استراتيجية دالي في هذا الصدد ظاهرة في عمله الموسوم (مثابرة الذاكرة)1931 وفي هذه اللوحة كانت ساعات الجيب الرخوة معلقة من أغصان ميتة، بينما كانت الحشرات وسطح منضدة ووجه مشوه مطروحين على أرض عارية تذكر بالشواطئ والجروف. وكان المظهر الغريب لهذه العناصر يوحي بعالم متجاوز للواقع أو كما يسمى بالإنجليزية (sur-reality). وهو كما نرى ذات الاسم الذي اتخذته الحركة علماً عليها. وتمظهرت محاولات سوريالية أخرى في السماح لليد بالتجول بحرية على قماشة الرسم دون أي سيطرة واعية، وهي تقنية تسمى الآلية أو التداعي الحر في علم النفس. وقد قيل في معرض تبرير الآلية أنه إذا سمح للوعي بإرخاء قبضته، فإن اللاوعي قد يبدأ في إظهار نفسه، ولن تكون خطوط الرسمات عندئذ من نتاج الوعي المتكون من التدريب والقناعات الاجتماعية، ولكنها ستكون ناشئة عن المخزون القوي للعواطف المخبوءة في اللاوعي. وقد بدأت الآلية مع سورياليي باريس مثل بيكابيا، وآرب، وماسون، ولكنها اكتسبت أتباعاً كثيرين في نيويورك في العام 1940 وفي مونتريال بكندا. وكانت لوحة آندريه ماسون (الإرتباك) 1963 أكثر تجريدية من صور أحلام دالي، على الرغم من أنها تدعو المشاهد إلى اختبار سطوحها المعقدة بحثاً عن أدلة مرئية على المعاني الخفية. وهي المعاني التي لم يكن ماسون يقصدها ولكنه كان يؤمن بأنها ترتبط بأعمق المشاعر والرغبات الداخلية وأكثرها خفاءً.
لوحة (ضغط الذاكرة) 1931 للفنان الإسباني السوريالي سلفادور دالي الذي يصف اللوحة بأنها حلم مرسوم
النحت في أوروبا على الرغم من ارتباط كثير من نحاتي القرن العشرين بالعديد من الحركات والمدارس الفنية مثل التكعيبية والبنائية فقد حاول آخرون شق طريقهم الخاص. فهاهو
منحوتة (الآنسة بوجاني) للفنان التجريدي الفرنسي الروماني الأصل قنسطنطين برانكوزي الذي يعتبر رائد النحت التجريدي الحديث
الروماني قنسطنطين برانكوزي الذي استقر في باريس يساعد الريادة التجريدية عن طريق تبسيط الأشكال واختزالها إلى أكثر عناصرها أولية. وإضافة إلى ذلك فقد صقل برانكوزي السطح البرونزي لتمثاله (الطير في الفضاء) 1919 إلى مكسبا إياه سطحاً عاكساً إلى درجة كبيرة. ثم أوجد تبايناً بين السطح الناعم للمعدن والأعمدة الخشبية الحاملة له وملمس حجر القاعدة. وقد أصبح كل من هذه المواد مهماً في حد ذاته ويتم تقديره لخصائصه الطبيعية الخاصة.
المنحوتة البرونزية (رجل يعبر شارعاً) 1949 للفنان السويسري آلبيرتو جياكوميتي
ولم تكن كل المنحوتات الحديثة مكرسة للتجريد، فمن السورياليون مثل النحات السويسري ميريت أوبنهايم من اختار بناء أشياء عادية قيد الاستخدام اليومي، مستعملاً توليفة غير متوقعة من المواد. فقد استخدم في عمله المسمى (الإفطار في الفراء) 1936 أسلوبه ذاك، بأن رسم كأساً عادية وملعقة مغلفين بالفراء. وعلى الرغم من أن توليفة كهذه نمطية في السوريالية، فإنها كانت مثيرة للحيرة بوجه خاص، لأنها تجعل المشاهد يتخيل ملمس وطعم ملعقة وكأس مغلفين بالفراء، الأمر الذي يدخله في تجربة مزعجة تشترك فيها حواس متعددة.
وقد كان النحات السويسري آلبيرتو جياكوميتي مرتبطاً أيضاً بالسوريالية، وكثيراً ما استغل غموضها السار وازدواجية معانيها. وكان عمله الأول متأثراً بعمق بالنحت الإفريقي لدى شعب الدان في ليبيريا في ساحل العاج، الذين نحتوا المغارف والملاعق بمقابض لها شكل أقدام بشرية صغيرة. وبالمثل يمكن النظر إلى منحوتات جياكوميتي إما على أنها منحوتات تجسيدية للجسم البشري، أو على أنها أدوات للاستعمال اليومي. وفي أواخر الأربعينات والخمسينات، نأى جياكوميتي بنفسه بعيداً عن المناظر الهزلية والسوريالية، وأخذ في إبداع أجسام غاية في النحافة وذات طول مبالغ فيه، ولها ملامح خشنة وغير طبيعية في وجوهها. وكان عمله المسمى (رجل يعبر شارعاً) 1949 نموذجاً لتلك الأعمال بأشكالها البسيطة التي تمثل الإنسان المنعزل عن بيئته وعن الآخرين.
منحوتة (الشكل المستلقي) 1938 للفنان البريطاني هنري مور، ويلاحظ فيها تأثره بفن الآزتيك
وهناك نحات آخر تذبذبت أعماله بين المرجعية الشكلية والتجريد هو الفنان الإنجليزي هنري مور، ومن بين أكثر أعماله شهرة الشكل المستلقي لامرأة (الشكل المستلقي) 1938. وقد جمع هذا العمل بين الموتيف المستلقي العاري للفن الغربي، والتقليد المنتمي إلى قبائل الأزتيك في أمريكا في تصوير الأشكال الأفقية. وقد أخذ مور حريته في تشكيل التشريح البشري عن طريق نحت ثقوب عميقة في الشكل، محولاً إياه إلى شكل أكثر تجريدية، وليلفت الأنظار في نفس الوقت إلى الألوان والأشكال المرئية من خلال تلك المساحات المثقوبة. ويعيد الشكل العضوي والمنحني للإنسان إلى الذاكرة لغة المنحنيات السوريالية، التي تستدعي التماثل بين الخطوط الملتفة لجسم المرأة وانحناء سطح الأرض، الأمر الذي يقوي من فكرة الخصوبة المرتبطة بهما في العادة.
الفن الحديث بعد الحرب العالمية الثانية على الرغم من أن أوروبا قد اصبحت المركز المعترف به للفن الحديث في النصف الأول من القرن العشرين فإن معظم النقاد يوافقون الآن على أن هذا المركز قد انتقل إلى الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة التي اعقبت الحرب العالمية (1939-1945). وكان كثير من الفنانين الأمريكين بما فيهم شارلز ديموث وآرثر دوف ومارسدن هارتلي وجون مارين قد حاولوا في العشرينيات والثلاثينيات توظيف عناصر التكعيبية والمستقبلية في أعمالهم. ولكن هذه الحركات كانت تؤخذ على أنها ذات أصل أوروبي ومن ثم فقد كان ينظر إليها في الولايات المتحدة الأمريكية على أنها عناصر أجنبية.
وقد قام فنانون أمريكيون في الثلاثينيات بتمرد قوي ضد التأثير الأوروبي على الفن الأمريكي وقد كانت لوحة جرانت وود القوطي الأمريكي نموذجاً لحركة فنية سميت بالإقليمية والتي كان برنامجها يركز على الاحتفاء بكل ماهو أمريكي وتنفيذه بأسلوب يتجنب كل مرجعية إلى الحداثة الأوروبية. ولكن الفنانين الأمريكيين الآخرين رأوا أن الإقليمية إنغماس في الوطنية قد يؤدي إلى عرقلة الحركة الفنية وإعاقتها.
جدارية (تاريخ اجتماعي لولاية ميسوري) 1934 للفنان الأمريكي الإقليمي هارت بينتون
لوحة (بارسيليوس) 1932 للفنان الأمريكي مارسدن هارتلي وقد خلط فيها أساليب من التكعيبية والفافية والتعبيرية الألمانية
التعبيرية التجريدية وخلال أواخر الأربعينيات بدأت حركة تسمى التعبيرية التجريدية تتطور في الولايات المتحدة الأمريكية تحت تأثير الأفكار السوريالية وخاصة الرغبة في الوصول إلى اللاوعي من خلال تقنيات الآليين. وقد ركزت التعبيرية التجريدية على عملية الرسم في حد ذاتها عن طريق السماح بظهور بصمات الفنان بشكل مرئي على سطح لوحة الرسم. وكان من بين قادة هذه الحركة جاكسون بولوك وفرانز كلاين ووليام ديكونينج وروبيرت ماثيرويل وهانس هوفمان. وتعطي لوحات التعبيريين التجريدين مثل لوحة بولوك (إيقاع الخريف) 1950 انطباعاً عن عفوية لا مثيل لها وعن طاقة فيزيائية. كما أدخل التعبيريون التجريديون مزيجاً شاملاً حيث توزع العلامات البصرية بطريقة لا تسمح بوجود بؤرة في العمل تؤدي إلى تركيز اهتمام المشاهد عليها. وإضافة إلى السوريالية تأثر التعبيريون التجريديون بآراء كاندينيسكي حول التشابه بين التجريد والموسيقى وقدرة التجريد على إيصال المعنى والمحتوى العاطفي. وقد اختار تجريديون تعبيريون آخرون بينهم مارك روثكو وأدولف غوتليب وكليفورد ستل وآد راينهارت وبارنت نيومان طريقة مختلفة.
لوحة (بيتا أوبسيلون) 1960 للفنان الأمريكي التجريدي التعبيري موريس لويس
فبدلاً من التركيز على عملية الرسم ذاتها فقد ابدعوا أشكالاً تؤلف بين مساحات لونية كبيرة وأشكال بسيطة. وقد استخدم بارنت نيومان في لوحته (وانمينت آي) أو وحدانية الأنا على سبيل المثال شريطاً رأسياً نحيلاً لتقسيم حقل لوني كان متماسكا لولا ذلك الشريط،. ويبدو الشكل بسيطاً ولكن نيومان رأى فيه رمزاً على هشاشة الإنسانية (الشريط) أمام الطبيعة (الحقل).
لوحة (ميريون) للفنان الأمريكي التجريدي التعبيري فرانز كلاين
وقد قامت جماعة أخرى من التعبيريين التجريديين سميت برسامي الحقل اللوني، بجمع اهتمام بولوك بالجاذبية وبين صب الدهان على طريقة روثكو وطريقة نيومان في الاهتمام بالأثر البصري للون، فقام الأمريكيون هيلين فرانكينثالر ومورس لويس وكنيث نولاند بمزج دهان الآكريليك حتى أصبح في رهافة الألوان المائية من حيث السيولة. وعندما تم وضع هذا الدهان على قماش الرسم كانت البقع تمتص داخل النسيج بدلاً من البقاء على سطحه الأمر الذي أدى إلى ظهور مصطلح وصفي جديد هو الرسم المبقع. فقد قام لويس في لوحته (نقطة السكون) 1960 بطي قماش الرسم وقلبه ليسمح للجاذبية بتوجيه سائل اللون عبر السطح وبهذه التقنية تخلى الفنان عمداً عن قدر من السيطرة على العمل الفني المنتج.
تطورات ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا ما أن وطدت التعبيرية التجريدية أقدامها في الولايات المتحدة الأمريكية حتى نشأت حركة مشابهة لها في أوروبا. وكان تعبير (آرت إينفورميل) أو الفن العفوي يميز بين الفن العفوي الذي تبدو فيه بصمات الفنان وشخصيته وبين الفن التجريدي الهندسي في أوروبا. وهذه الحركة شرع بها بير سولاجيس مع كل من (هانزهارتوج) و(ولز) وهما فنانان ولدا في المانيا وعملا في فرنسا.
لوحة (بورتريه) 1974 للفنان الفرنسي جان دوبوفيه من مدرسة الفن الخام (Art Prut)
وعلى غرار التعبيريين التجريديين ركز هؤلاء الفنانون على حرية الفنان التي تظهر الطابع الشخصي لضربات فرشاته ثم على الخصائص الفيزيقية للدهان المستخدم وخاصة من حيث الملمس ومظاهر النعومة أو الخشونة. وقد أرادوا بذلك إضفاء العفوية الخالصة على أعمالهم التي لا تقوم على الحسابات والإعداد المسبق قبل الشروع في العمل. وكان مع هذه المجموعة العفوية مجموعة أخرى تسمى (البقعية) أو اللطخية نسبة إلى اللطخة تضم الشاعر والرسام البلجيكي هنري ميشوكس والرسام الفرنسي جيورجيس مايثو ضمن آخرين. وكانت لوحات مايثو الكبيرة الحجم تتسم بالألوان المركزة والأسلوب التجريدي القائم على الخطوط والعفوية في آن معاً، إضافة إلى اهتمامه بفن الخط الأسيوي (كاليجرافي). وكان مايثو ينجز اعماله بسرعة فائقة وأحياناً أمام أعين الجمهور محتفياً بتحرر الفنان من الأفكار المسبقة والنتائج المتوخاة المقدرة مسبقاً. وقد ربط بعض النقاد هذه الخصائص بالفكر الوجودي الذي يركز على حرية الإنسان في عالم غير عقلاني.
ويظهر اهتمام العفويين والبقعيين بملمس ومظهر الدهان في أعمال الفرنسي جين دوبوفي الذي كان على العكس من زملائه التجريديين يركز على الشكل الإنساني والذي كان يستلهم رسومات الأطفال والمرضى العقليين وشرائح أخرى يرى أنها خالية من التاثير المفسد للثقافة السائدة. وقد اختار لفنه هذا اسم (آرت بروت) بالفرنسية، والتي تعني (الفن الخام)، وقد أصبحت هذه التسمية علماً على أعماله. وقد استلهم دوبوفي الفنون غير الغربية مثله في ذلك مثل كثير من الفنانين الحداثيين الذين سبقوه إلى ذلك. وكان يرفض الفكرتين القائلتين بأن الفن يجب أن يكون ساراً من الناحية الجمالية، أو أنه يجب أن يعكس حقائق الواقع . وكان الطابع الخام الغير مهذب والغير مصقول لأعماله متعمداً، وتطلب مجهوداً فنياً بطيئاً وصعباً. وكان بذلك يرفض التناول المباشر والمزاجي للفنانين التجريديين لصالح فن بدائي وخام وقاس إن جاز التعبير.
التجريد في النحت بدأ النحات الأمريكي الكساندر كالدر تجاربه مع الشكل والحركة التجريديين خلال العشرينيا |
|
|
|
|
|
تعليق |
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
RSS |
حول الخبر إلى وورد |
|
|
|
|