صنعاء نيوز/ د. نضير الخزرجي -
هل من المصادفة أن يكون أول ما نزل من الوحي على رسول الله محمد (ص) قوله تعالى (إقرأ)، وهل من المصادفة أن يكون آخر ما نطق به رسول الإسلام ساعة رحيله: (هلُّم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده)، في البداية قراءة وقلم وفي النهاية كتاب وعلم.
ليس في وحي الله مصادفة، إن هو إلا وحي يوحى من لدن رب العلى، كلمات كما تلقاها أبينا آدم من قبل .. بدأت حياة البشرية بالكلمة واستمرت بصحف وألواح ومزامير وتوراة وإنجيل وبينات، فالقلم هو الشاخص في كل مراحل البشرية، والكتاب هو القائم بين ظهرانيها، فالقلم ينادي الكتاب والكتاب يناجيه، وكلاهما يسوقان الناس الى خيرهم في أولاهم وأخراهم، فالمال والبنون زينة الحياة الدنيا، وما يسطره القلم وما يضمه الكتاب هو من الباقيات الصالحات وهو الخير وهو الأبقى.
فالقلم هو المحور، وما ذلّت أمة يجري في قلمها الحبر، وما ضاعت أمّة تسودّت صفحاتها بمداد العلم، وهذه الحقيقة التي هي قطب رحى البشرية، أدركتها أُمم وتقاعست عنها أخرى وتغافلت عنها ثالثة وضيعتها "أمّة القلم"، ولذلك تفاوتت الأمم في رقيِّها، وحتى يُعطى للعلم قيمته اتخذت المنظومة الدولية يوم العاشر من نوفمبر تشرين الثاني من كل عام يوما لتخليد العلوم أسمته (اليوم العالمي للعلوم)، وفيه تظهر منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) بعض تقاريرها عن تطور العلوم هنا وهناك.
وبقدر ما تكون هذه التقارير مشرقة في بلدان تمثل فاجعة في أخرى بلحاظ المقارنة بين مجموع البلدان في مشارق الأرض ومغاربها، وتعظم الفاجعة في البلدان التي تعالى في جبال بيت الله قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، ولأن العلم هو المؤشر على رفعة الأمم وعزتها وكرامتها فإن إمام العلوم جعفر بن محمد الصادق(ع) رفع شعار: (ليت السياط على رؤوس أصحابـي حتّى يتفقّهوا)، وهل من فجيعة أكبر أن تظهر تقارير اليونسكو بأن معدل ما يصرف على الفرد في مجال البحث العلمي في العالم العربي هو 14.7 دولاراً في مقابل 1200 دولار في أميركا، أيعقل أن تنفق أميركا 450 مليار دولار على الأبحاث العلمية خلال الفترة (2007- 2012)، وينفق العالم العربي مئات المليارات لشراء الأسلحة من المعسكرين الغربي والشرقي، أيعقل أن يكون متوسط عدد الباحثين على المستوى العالمي 1081 باحثا لكل مليون وفي العالم العربي 373 باحثا، أيعقل أن تكون عدد الأبحاث المنشورة على مستوى العالم سنة 2012م هو مليونان و945 ألف بحث استأثر العرب منها بـ 38,5 ألف بحث فقط، أيُعقل ... وأيعقل!
لقد لاحظ المهتمون العلاقة المتينة بين صناديق دعم الأبحاث العلمية وتطور العلوم في تلك البلدان، فكلما ازدادت الصناديق ارتفع عدد العلماء وارتفع منسوب الانتاج العلمي والمعرفي، أي نشوء علاقة تفاعلية طردية بين صناديق الاستثمار العلمي وتطور البلد ونموه، وهي حقيقة ليست بنت وقتها، فالإسلام شجع على الاستثمار في المجالات المختلفة، ولاسيما في مجال العلوم وذلك عن طريق نظام الوقف الذي يتلخص بحبس العين وإسبال المنفعة، ولهذا فإن معظم المدارس التي أقيمت منذ عصر الاسلام الأول والى يومنا قامت على نظام الوقف، إذ يوقف المتبرع جزءاً من أمواله على المدارس والمنشآت العلمية، قد يصل إلى حد الثلث من ممتلكاته عند أغلب المدارس الفقهية، فينتفع منها وبها الطلبة والأساتذة والإداريون وتستمر الحياة العلمية، فتبقى العين قائمة والمنفعة دائمة، وهي في عرف الإسلام صدقة جارية لمن أوقف الخيرات لما ينفع فيه البلاد والعباد.
وعدد غير من صناديق الإستثمار العلمي في وقتنا الحاضر ليست ذات طابع حكومي، فهي إما عائدة لجامعات وكليات أو لمؤسسات وجمعيات وشركات، وبعضها عائدة لأشخاص وممولين، وفي الكثير من هذه الصناديق الإستثمارية مردودات مالية تحرّك عجلة المؤسسات العلمية والمعرفية، النفعية منها وغير النفعية.
كما لا يخفى أن الكثير من المؤسسات العلمية والثقافية والإعلامية والتربوية والاجتماعية والأكاديمية غير الحكومية في عالمنا العربي والإسلامي آلت الى الإضمحلال بسبب تقلبات مناخ المال والإقتصاد، وعدم وجود صناديق استثمار او وقفيات كافية لديمومة عملها، وهذه واحدة من الانتكاسات التي تصيب "أمّة إقرأ" التي تبسط يدها في كل شي وتقبضها عند الأبحاث والتطوير العلمي.
وفي حاضرنا، فإن دائرة المعارف الحسينية التي انطلق مشروعها العلمي عام 1987م من المملكة المتحدة على يد مؤلفها المحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي، تمثل أنموذجًا حيًّا وواقعيًّا لمشروع معرفي قام على أكتاف رجل واحد استطاع أن يؤسس لأكبر موسوعة معرفية على وجه الأرض، تتناول بالتفصيل والتدقيق شخصية واحدة هي الإمام الحسين(ع) ونهضته الإنسانية، حيث انطلق من تحت الصفر تقوده إرادته وعزيمته نحو تحقيق ما لم تستطع عليه الحكومات والمؤسسات المدعومة، فتكونت حتى يومنا هذا موسوعة معرفية علمية تحقيقية استطاعت حتى مطلع العام 2016م أن تتخطى حاجز المائة من المجلدات المطبوعة من نحو 900 مجلد، وبمعدل 525 صفحة للمجلد الواحد.
وبعد مضي ثلاثين عاما من بدء مسيرة دائرة المعارف الحسينية، فإن العامل المادي يمثل القلق الذي يساورها وأصاب عمودها الفقري أكثر من مرّة، وهو قلق كبير وكبير جدًا لا يمكن تجاهله رغم الأيادي البيضاء التي امتدت اليها وساهمت في طباعة أجزائها الصادرة، ولكن أصحاب المعرفة يدركون جيدًا أن موسوعة معرفية غير نفعية وغير حكومية ولا تركن في دعمها إلى جهة سياسية أو حزبية، بدأها المؤلف من ركن غرفة في بيت مستأجر، لا يمكن للتبرعات المتقطعة أن تسد متطلبات العمل الموسوعي كافة.
من هنا انطلقت نهاية العام 2015م فكرة إنشاء صندوق استثماري وقفي يذهب ريعه الى دائرة المعارف الحسينية من أجل استمرار عملها ومشروعها المعرفي الذي صدر منه حتى يومنا هذا عُشره، وبقيت الأعشار التسعة التي قد تكتمل في حياة المؤلف وقد لا تكتمل، ولا أظنها لأن أبواب الموسوعة مشرعة على مصاريعها وتتحمل المزيد، وفي الحالتين فإن الموسوعة الناطقة باسم سيد شباب أهل الجنة وسبط نبي الرحمة لابد أن تواصل المسيرة حتى تتجلى حقيقة النصرة لقيم الحق والفضيلة التي تمثلها الإمام الحسين(ع) في واقعة كربلاء عام 61هـ، وحتى يتم الوفاء بجانب من قول كل رائح وغاد في كل مجلس ومحفل وناد: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز معكم فوزا عظيمًا).
وللوقوف على حقيقة المشروع الاستثماري الوقفي صدر في الكويت من إعداد المركز الحسيني للدراسات بلندن كراس من ست عشرة صفحة بعنوان: (المشروع الحسيني للإستثمار لصالح دائرة المعارف الحسينية بصيغة الوقف الإستثماري)، يتناول كيفية قيام المشروع الاستثماري وطريقة دعمه ليصبح حقيقة ناجزة، وهذا الكراس على قلة صفحاته يحكي في واقعه عمّا: (تمخّض من إجتماع العلماء والأعيان معَا، فكرة شراء مبنى أو مبانٍ عدة في دولة مستقرة من حيث الإقتصاد والأمن ... ووقفه وقفًا شرعيا رسميا)، على أن: (يتم تحديد متولٍّ وناظرٍ عليه تحت إشراف هيئة أمناء الوقف المؤلفة من علماء وأعيان الخليج)، وذلك: (ليُصرف ريعه على المركز الحسيني للدراسات في لندن والذي تصدر منه دائرة المعارف الحسينية، وسائر المؤلفات المرتبطة بهذا العمل الجبار)، ويقوم المشروع الاستثماري الوقفي على أساس الأسهم بمقدار ألف دولار للسهم الواحد، وللمتبرع أن يوقف عن نفسه أو غيره من الأموات والأحياء من الأسهم ما رغب وشاء، وهي صدقة جارية أحوج ما يكون إليها في عالم البرزخ وعند الحساب، وهي مصداق قول الرسول الأكرم محمد (ص): (إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا عن ثلاث: صدقةٌ جارية، أو علمٌ ينتفع به الناس، أو ولدٌ صالح يدعو له)، وبالقطع إنَّ من يوقف جزءاً من ماله على مركز من مراكز العلم والمعرفة والتأليف، سيكون شريكا في الثانية فضلا عن الأولى، فينال أجر الصدقة الجارية والعلم النافع، بل ولا ينتابني الريب قيد أنملة إنَّ من ينفق أو يتبرع أو يوقف من ممتلكاته المنقولة وغير المنقولة على ما له علاقة بالنهضة الحسينية ودوام رسالتها الإنسانية الخالدة سيدخل في زمرة مَن نصر الإمام الحسين (ع) في واعيته التي أطلقها يوم عاشوراء: (أما من مغيث يغيثنا! أما من ذابٍّ يذبُّ عن حرم رسول الله)، بل وهنا تظهر معالم النصرة وتحقيق معنى النص الوارد في زيارة الإمام الحسين (ع) في النصف من شهر رجب: (لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَمْ يُجِبْكَ بَدَنِي عِنْدَ اسْتِغَاثَتِكَ وَلِسَانِي عِنْدَ اسْتِنْصَارِكَ فَقَدْ أَجَابَكَ قَلْبِي وَسَمْعِي وَ بَصَرِي).
ولا أقرب الى ترجمة التلبية من نصرة دائرة المعارف الحسينية التي تفرّغ مؤلفها الفقيه المحقق الشيخ محمد صادق الكرباسي لتوثيق النهضة الحسينية في واقعها وحاضرها ومستقبلها والتحقيق في حوادثها ومجرياتها، وقد أحسن معدّ الكراس عندما زيّن صفحاته بعبارات جميلة توضح مغزى صندوق الإستثمار الوقفي في مشروع دائرة المعارف الحسينية، من قبيل: "بهذا السهم داوِ جراحات الحسين"، "بهذا السهم أظهر ولاءك للحسين"، "بهذا السهم روّج عن ثقافة الحسين"، "بهذا السهم إخذل أعداء الحسين"، بهذا السهم سِرْ الى الكمال مع الحسين"، "بهذا السهم تسعد بفضل الحسين"، "بهذا السهم ساهم بترسيخ أهداف الحسين"، "بهذا السهم أقِم صرحًا شامخًا باسم الحسين"، "بهذا السهم إشف مرضاك بكرم الحسين"، "بهذا السهم تزكو أموالك بعناية الحسين"، "بهذا السهم يسِّر أمورك بوجاهة الحسين"، "بهذا السهم إخزِ الشيطان بالتقرب للحسين"، "بهذا السهم تكن قرير العين مع الحسين"، "بهذا السهم أُنشيء صدقة جارية للحسين"، "بهذا السهم إرفع سهمًا من السهام التي أصابت الحسين"، "بهذا السهم إحجز غرفة بجوار الحسين"، "بهذا السهم أَحيي أمر الحسين وأنصار الحسين"، "بهذا السهم ثبّت نفسك في سجِلِّ الحسين"، "بهذا السهم أُنصر الحسين حيث لا ناصر له"، "بهذا السهم فُكَّ أسْرَ مَن ناصروا الحسين"، "بهذا السهم أوصل الخير إلى كل محبّي الحسين"، "بهذا السهم إدفع هوى النفس ببركة الحسين"، "بهذا السهم خلِّد نفسك في الجنان مع الحسين"، "بهذا السهم ذُدْ عن حرم الحسين"، "بهذا السهم إروِ عطشَ أطفال الحسين"، "بهذا السهم أَثبت عشقك للحسين"، "بهذا السهم أُنشر فكر الحسين"، "بهذا السهم سُرَّ قلب أختِ الحسين"، "بهذا السهم أَدخل الفرح على علي بن الحسين"، "بهذا السهم أعلن عن ولايتك للحسين"، "بهذا السهم جاري سبايا الحسين"، و"بهذا السهم تكون قد لبيت نداء الحسين".
ويكفي من كل هذه الشعارات الغنية المضامين، الأخير منها وهو شعار التلبية، الذي تصدح به الحناجر وتصب له المحاجر وتندلع له ألسنة المحابر وتوقد تحته الطناجر، وهو شعار رُفع منذ عام 61 للهجرة وحتى يومنا، قليل في ألفاظه جزيل في معانيه ثقيل في حمله وفير في عائداته، وفي أفقه تُكشف السرائر ويتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من فجر الحقيقة وصدق التلبية.
هل صدق المحبون مع نداء التلبية وأصدقوا القول وهم يرددون: (لَبَّيْكَ دَاعِيَ اللَّهِ إِنْ ...)؟
عندما يتحقق (المشروع الحسيني للإستثمار لصالح دائرة المعارف الحسينية)، ويطمئن راعيها ومؤلفها إلى مسار عمل الدائرة في حياته وبعدها، عندها سيتحدث العالم عن أناس بذلوا الغالي والرخيص من أجل أن يكونوا في زمرة أنصار الحسين (ع)، لبّوا دعوة الإستنصار بقلوبهم وسمعهم وبصرهم وما جادت به بواطن أياديهم وظواهرها، وعندها لنا أن ننتمي بحق إلى "أمة إقرأ" وندفع تهمة الأمم عنَّا بأنَّ "أمة إقرأ لا تقرأ"!
الرأي الآخر للدراسات بلندن
|