صنعاء نيوز -
لا تشكّل التفجيرات الدمويّة التي حصلت أمس الأربعاء في سوق شعبية في مدينة الصدر شرق بغداد رغم هولها (110 قتيلا حتى الآن) تغييراً عن سكّة العنف الفظيعة التي درج عليها العراق منذ الاحتلال الأمريكي للبلاد عام 2003.
مع ذلك فإن لهذا الحدث، الذي هو نقطة في بحر المجازر العراقية، دلالات من الصعب العبور فوقها وعدم تفحّص معانيها، ترتبط بما حصل في العراق في الأسابيع الأخيرة من استعصاء سياسيّ كبير تحوّلت مدينة الصدر خلاله إلى مركز أساسيّ لثقل المرجعية الشعبية بشكل عرّض المرجعيّات الأخرى الكبرى في العراق إلى حالة من انخفاض الوزن وأضعف قوّتها ووضعها في مأزق سياسيّ حرج.
استطاع هذا الموقف الذي كان وراؤه الزعيم الشيعي البارز مقتدى الصدر وجماهيره الواسعة في بغداد وباقي المدن العراقية اختراق «حجاب» المنطقة الخضراء الأمني فانساحت الجماهير الفقيرة فيها لتكتشف أن تلك المنطقة التي تجسّد اجتماع القوّة السياسية والعسكرية والأمنية والمالية في العراق تعيش في «قارّة» وبلاد أخرى غير التي تعيش فيها الجماهير العراقية التي تُسفك أرواحها في التفجيرات والمعارك والسجون ومخيمات النزوح وبحار الهجرة، فيما ينعم الساسة فيها بالرواتب العالية وأموال النفط والرشاوى والحظوة التي توفّرها أصوات أولئك المُعدمين الانتخابية، من جهة، والولاءات الشخصية لزعماء محلّيين فاسدين والعمالة المباشرة لدول أجنبية، من جهة أخرى.
لقد وضع دخول الجماهير العراقية إلى البرلمان ورفعها شعارات ضد تحكّم إيران بالعراق ومطالبتها بمحاسبة الفاسدين أركان النظام السياسي والطائفيّ العراقي تحت تهديد كبير بخلخلة أسس اللعبة السياسية التي قام عليها العراق بعد سقوط نظام صدام حسين ونشوء التحالف الأمريكي ـ الإيراني الحاكم الذي ما زال مستمرّاً، وهو ما فرض على القوى الحاكمة المتحالفة أن تردّ بسرعة على مستويين، الأول، من خلال التعامل مع مقتدى الصدر نفسه، عبر استدعائه السريع إلى إيران، والثاني بإعادة «البوصلة» الطائفية العراقية إلى العمل، باعتبارها صمّام أمان النظام القادر دائماً على إعادة الجمهور الشعبي إلى «السكّة المطلوبة»: تكاره الضحايا بدل التوحّد ضد النظام السياسي.
يشكّل الصدر وجماهيره، على عكس جماهير المحافظات السنية، حرجاً كبيراً لإيران، فاشتغاله (المتواضع) على إحياء الهوية الوطنية العراقية لا ينفع معه اتهامه بالعمالة لنظام صدام حسين، فعائلته قدّمت أرفع التضحيات ضد النظام السابق، وكونه زعيماً شيعيّاً لا ينفع معه اتهامه بـ«التكفير» و«الإرهاب» و«الوهابية» وهي التهم الجاهزة لمن يعارض النظام من أبناء السنّة.
… وهنا لن يكون هناك أفضل من تنظيم «الدولة الإسلامية» لينفّذ ما يسعى إليه تحالف المنتفعين في العراق فيأتي تفجير السوق الشعبية في مدينة الصدر ليعيد العراقيين هناك إلى المعادلة الصفرية للنزاع السنّي ـ الشيعي والتي لا أفق سياسياً لها، وهي أكبر هديّة يمكن أن تقدّم للنظام السياسي العراقي الحالي.
بسبب كونها القناع الخفيّ الذي يمكن تنفيذ أي عمليّات بشعة تحت مسمّاه، فإن «الدولة الإسلامية»، هي الحليف الموضوعي والإنجاز الأكبر لإيران التي نجحت، عبر تحكّمها بتفاصيل الألعاب السياسية في بلاد الرافدين، في تفتيت الهوية الوطنية العراقية.
لقد اشتغل «زبائن» إيران من الساسة العراقيين من أمثال رئيس الوزراء السابق نوري المالكي على توفير كل الظروف المناسبة لاستقواء «الدولة الإسلامية»، فقد شهدنا في عهده هروباً مدبّراً لمئات من عناصر التنظيم، وشكّل الفساد الهائل في الجيش والأمن ووزارات الصفقات المليارية والاضطهاد الطائفيّ المبرمج للطائفة السنّية والمشاركة الفاعلة في دعم النظام السوري أدوات صناعة «الدولة الإسلامية» ما أدّى، في النهاية، إلى تقاسمها مع السلطة الراهنة أجزاء واسعة من البلاد.
بهذا المعنى فإن القضاء العسكريّ على «الدولة الإسلامية» مع تمكين إيران هو استمرار للمعادلة الصفريّة للنزاع الشيعي ـ السني.
لكن ما يدفع للتفاؤل قول مثل الذي سجّلته إحدى وكالات الأخبار لعراقي يدعى أبو علي شهد التفجير الأخير: «الدولة في صراع على الكراسي والناس هم الضحايا. السياسيون وراء الانفجار» |