shopify site analytics
بيان صادر عن القيادات القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي بشأن سوريا - ‏كيف يقدّم الحوثيون طوق نجاة أخلاقي لإسرائيل؟ - خروج مليوني بالعاصمة صنعاء في مسيرة "ثابتون مع غزة العزة - جامعة ذمار تنظم وقفة احتجاجية تنديداً بالجرائم الصهيونية - مسيرة طلابية لطلاب كلية الطب بجامعة ذمار - نزلاء الإصلاحية الاحتياطية بمحافظة صعدة ينفذون وقفة تضامنية مع غزة - تفقد وكيل مصلحة الجمارك سير العمل بمكتب ذمار - اليمنية تؤكد استمرار رحلاتها عبر مطار صنعاء - وزير النقل والأشغال بصنعاء: سيتم استئناف العمل بمطار صنعاء وميناء الحديدة اليوم - 7 شهدا حصيلة العدوان الصهيوني على اليمن -
ابحث عن:



صنعاء نيوز - صنعاء نيوز/ د. عبد العزيز المقالح

الإثنين, 18-يوليو-2016
صنعاء نيوز/ د. عبد العزيز المقالح -
صنعاء نيوز/ د. عبد العزيز المقالح



-الرواية الأولى للكاتب الذي كان قد حقق وجوده كسارد متميز من خلال أعماله القصصية التي ظهر بعض منها في مجموعتيه القصصية "الذبابة" و"ربما لا يقصدني"، وهو هنا لم يهاجر من القصة إلى الرواية، بل انتقل من السرد في مساحته المحدودة إلى السرد في مساحته الأوسع.

-1-
كل عمل روائي يستحق هذه الصفة لا مناص له من أن يتضافر على صناعته كلٌّ من الواقعي والمتخيل، وأن يتماهى مع أطياف من الماضي القريب والبعيد.

وفي رواية "جوهرة التَّعْكَر" للروائي القاص الشاعر همدان زيد دماج يتجلى هذا التضافر كأبدع ما يكون، سرداً ورؤية. كما يتجلى فيها الالتزام بالأسلوب الأحدث في كتابة الرواية المعاصرة، لغةً وبناءً. وهي (أي رواية "جوهر التَّعْكَر") تحملنا عبر أحاديث رواد "مقيل" العمدة، أحد أبطال الرواية البارزين، على أجنحة المتخيل من الواقع الراهن للقرية اليمانية كما هي الآن إلى أزمنة غابرة، لنقلّبَ معها صفحات تاريخ حاول النسيان أن يطويه لكنه استعصى على الطي، وبقي نابضاً في أذهان عدد من الرجال، كما على الأوراق التي حاول البعض دفنها والتخلص من محتوياتها؛ لكن رياح الزمن المتغير ساعدت على تعرية المكان، وأخرجتها من جوف الرمال سليمة غير منقوصة، لتضيء من جديد، وتذكِّر أبناء الوطن بما شهده أجدادهم الأوائل، وما شارك في تشكيل جزء من ملامح ما هو كائن، وربما من ملامح ما سوف يكون.

وقبل الحديث عن الرواية أود أن أشير باقتضاب شديد إلى أحدث عمل أدبي أنجزه همدان دماج منذ أيام، وهو قصة قصيرة أبكتني، وفي الوقت ذاته أدهشتني، وأثبتت لي –كما لم يحدث من قبل- أننا نتابع صعود مبدع شاب يكتب الشعر والقصة والرواية بموهبة عالية، وحرفية فنية لا تُتاح سوى لقلة من المبدعين المؤهلين لخوض التجارب الإبداعية، التي يكون معها النجاح واضحاً والفشل عارياً. عنوان القصة المشار إليها: "عندما يرحل الروائي...". والكاتب يسترجع من خلالها اللحظات الأخيرة من حياة والده الروائي المعروف زيد مطيع دماج، صاحب رواية "الرهينة"، الأشهر، والمترجمة إلى أكثر من لغة شرقية وغربية. تبدأ القصة بالأسطر الثلاثة الآتية: "بعد الظهيرة بقليل، في العشرين من أول مارس تعرفه الألفية الجديدة، نزل ملاكان من السماء ودخلا بهدوء إلى غرفة الرعاية الفائقة. لم يكونا مجنحين، وليس ما يميزهما سوى هالة ضياء تحيط بهما ممزوجة بنسمات باردة شعر بها البعض من رواد مستشفى ميدلسكس بلندن". كانت مهمة الملاكين -كما تقول القصة التي لا يزيد حجمها عن صفحة ونصف الصفحة- أن يحملا الروائي المحتضر إلى حيث يبدأ حياته الجديدة، وهناك في السماء، حيث يبدأ في استرجاع ملامح من حياته الأولى على الأرض. وكل ذلك يتم بإشارات عميقة مختزلة، وبلغة هي الأعذب، وأسلوب هو الأرقى في الكتابة، وفي كتابة القصة القصيرة خاصة.
وهنا يحلو لي أن أهمس في أذن الموهوب همدان ألَّا تأخذه الرواية بعيداً عن القصة القصيرة التي أجادها، واستوعب فنيتها، وأن عليه أن يتذكر دائماً أن القصة، وحتى الأقصر منها، هي رواية مختزلة في عدد من الكلمات أو السطور، وبعض كتّابها يستحوذون على مشاعر القراء أكثر من استحواذهم لها عن طريق الرواية.

ومع إعجابي اللامتناهي بروايته الأولى "جوهرة التَّعْكَر" موضوع هذا الحديث، فإنني أتمنى عليه ألا يتخلى عن كتابة القصة القصيرة، وألا يعطي وقته كله للرواية التي بدأ عالمها يشدّه ويستأثر باهتماماته، ويكاد يطيح بالشعر وبالقصة القصيرة معاً، كما حدث لكثير من المبدعين في الساحة العربية الذين هجروا الشعر وبقية الفنون الإبداعية، واتجهوا نحو هذا النوع من الإبداع السردي.

-2-

الرواية الحديثة كالشعر: لغةٌ بالدرجة الأولى، فإذا افتقدت هذا العنصر الأساس، وهو اللغة، فإنها تتحول إلى حكاية أو حدوتة. ورواية همدان زيد دماج "جوهرة التَّعْكَر"، كما تفيض بمخزون حكائي زاخر بالمفاجآت الراهنة والقديمة، فإنها تستمد حضورها الفني الأهم من لغتها التي ترتقي في بعض الصفحات إلى مستوى الإدهاش، كما هو حال هذه الفقرة الطويلة نسبياً، والتي وضعها الكاتب في مدخل الرواية: "تختبئ الأماكنُ والأزمنةُ في كهوفِ معطفٍ شتويٍّ مبتلٍّ، يتدثرُ فيه الماضي، وتتوارى في ثناياه الحكاياتُ والتفاصيل... يختفي بعضُها ويظهرُ بعضها الآخرُ دونَ إرادةٍ منا. لكأنَّ الذاكرةَ وعاءٌ مملوءٌ بأشياء كثيرة؛ لكننا لا نرى سوى ما يطفو على سطحهِ، أما ما غاصَ في قعرِه فهو لها وحدها، لا تشاركهُ أحداً إلا من أرادَ المجازفةَ والغوصَ في قعرِ الوعاء، دونَ أن يعرفَ أهميةَ ما غاصَ من أجلِهِ، ولا إمكانيةَ أن يطفو مرةً أخرى على السطح... حينها لن يكون، في مجازفتِهِ تلك، كمن لم يعرف شيئاً فحسب، بل كمن لم يكن على الإطلاق".

لا تعليق لي على ما تمثله هذه الفقرة بأسلوبها الراقي ولغتها الناصعة من انتقالة فارقة في لغة الرواية، ومن انسياب في الصياغة والمعنى، وهو ما ظلت الرواية العربية تفتقده وتبحث عنه منذ عشرينيات القرن الماضي، وأخيراً بدأ عدد من الروائيين العرب -والشبان منهم خاصة- يعثرون على ذلك الشيء المفقود، ويكتبون له أعمالهم الإبداعية الجديدة.

-3-

وإذا كان هناك عدد من النقاد العرب الذين يلومون كتّاب الروايات العربية على انشغالهم بالحاضر، والحاضر الراهن خاصة، والوقوف عنده دونما إطلالة على الماضي القريب والبعيد، ومحاولة تجاوز التاريخ أو تجاهله، فإن مؤلف "جوهرة التَّعْكَر" حاول بنجاح أن يجمع في وقائعها الموجزة والتفصيلية بين الماضي والحاضر، مؤكداً بطريقة غير مباشرة، ولا تدريسية، وجود جسور متينة بين هذين العاملين المؤثرين في بناء وعي الشعوب، وإثبات خطأ القطيعة بينهما تحت أي ظرف أو اعتبار، شريطة ألَّا يتمكن الماضي من سحب الحاضر إليه، لاستحالة العودة من ناحية، وتفادياً لإيقاف حركة التطور من ناحية ثانية. وهناك عدد من الروائيين يتجنبون التواصل مع الماضي في أعمالهم، أو التركيز على بعض جوانبه، بدافع أن ذلك قد يلحق بأعمالهم صفة التاريخية، وكأن هذه الصفة عيب يحاولون التخلص منها، وهو فهم مغلوط وقائم على وهم في فهم مهمة العمل الروائي ودوره في إيقاظ المشاعر وبناء الأجيال، والغوص في قعر الإناء الوطني، لا الوقوف عند ما يطفو على سطحه.

وقبل أن يبدأ شيخ الرواية العربية نجيب محفوظ في تشريح الواقع المصري الراهن كان قد غاص في أعماق تاريخ مصر، وكتب روايتين على درجة من الأهمية عن العصر الفرعوني، هما: "رادوبيس"، و"عبث الأقدار". ومن هنا فقد جاءت رواية همدان دماج مُعبرة عن هذا التلازم بين الوعي بالحاضر الذي نعيشه، والماضي الذي كان، وما يزال، مؤثراً في حياتنا بشكل من الأشكال، وحتى لا تحملنا رياح النسيان بعيداً فلا نعود نرى سوى جانب واحد من صورة التكوين الممتدة إلى أبعد مما في وسعنا إدراكه. وستقدم لنا الرواية نماذج من مواقف لا تخلو من الغرابة حين يحاول فيها بعض الأشخاص إخفاء المخطوطات حتى لا تتعرض للتلف، فتضيع معها ملامح من تاريخ مرحلة ما، أو دولة من الدول التي تصارعت على حكم البلاد، أو على مناطق منها، وكيف كان ذلك البعض يحرص على دفن تلك الوثائق في التراب أو الانتقال بها من مكان إلى آخر، ومن قرية إلى أخرى.

-4-

بما أن أحداث الرواية تتراوح بين ماضٍ وحاضر فإن شخوصها تتوزع بين هذا الثنائي الزمني، وتعطي الكاتب من خلال الاسترجاع مجالاً لكسر رتابة الوقوف عند مرحلة بعينها وشخوص بذواتهم، وإن كانت شخصيات الحاضر تبدو أكثر حضوراً، وتكاد شخصية العمدة تغدو محور الرواية الأبرز. والعمدة رجل على درجة من الذكاء، متابع للتاريخ القديم والحديث، وعلى دراية بالواقع السياسي وتقلباته. كما كان يجمع في شخصه، الذي يبدو بسيطاً وعادياً، بين الحكمة والطرافة، بين العمق والبساطة، وكان دائماً قادراً على التوفيق بين الجد والهزل، ويعرف كيف يتصرف مع مواطنيه بحزم وصرامة أحياناً، وكيف يأخذهم باللين والتسامح أحياناً أخرى. وبدون هذه الشخصية المحورية تفقد الرواية تماسكها ورابطها الدرامي الأساس. يضاف إلى ذلك أن شخصية بهذه الصفات، تجمع بين الجد والهزل، تخفف كثيراً من ردود أفعال المواقف المأساوية التي تحفل بها الرواية كعمل إبداعي يعكس واقع الناس في مراحل مختلفة غاية في القلق والاضطراب.

الشخصية المحورية الثانية في الرواية هي شخصية "كريم"، الشاب المثقف الغامض الواضح، والناشط السياسي، والعاشق المكتئب الذي استولت عليه الكآبة بعد وفاة زوجته المحبوبة، وقادته إلى العزلة وإلى إيقاف نشاطه الملحوظ في جمع الوثائق التاريخية الخاصة بمنطقة التَّعْكَر، التي كانت محل اهتمام منذ ما قبل الإسلام، واستمرت كذلك إلى ما بعد دخول الأتراك. فقد كان جبل التَّعْكَر، الذي تقع في أحد سفوحه الواسعة قرية العمدة وكريم، قلعة وحصناً، ما كان لحاكم أن تنجح دولته ما لم يسيطر على هذا الجبل المنيع. وقد استولى الحزن على القرية بعد وفاة كريم، أو بالأحرى اغتياله بصورة غامضة، فقد قيل أثناء التحقيق إنه انتحر ليتخلص من الكآبة التي رافقته في السنوات الأخيرة، كما قيل إن القاتل شخص آخر تسلل إلى المنزل وأطلق عليه الرصاص من البندقية التي كان يقتنيها.

هناك شخصيات ثانوية عديدة في الرواية، كشخصية الشيخ راجح العارض وزوجته كرامة، إلى جانب شخصية مصلح سعيد المغترب سابقاً وصاحب طاحون القرية، الذي يعرف الكثير عن المنطقة وما يعُرف باليمن الأوسط، كما يعرف الكثير من التاريخ القديم والحديث، والذي كان زميلاً لكريم وتربطه به صداقة متينة.

تلك شخصيات الحاضر كما تناولتها الرواية. أما شخصيات الماضي فزمانها التاريخي يشتمل على مرحلتين لكل مرحلة شخصياتها. وأقدم شخوص المرحلة الأولى تعود إلى ما قبل الإسلام، عبر شخصية الكاهن "سطيح" و"هند بنت عتبة" قبل الإسلام، مروراً بالملكة أروى بنت أحمد الصليحي وقائد جيوشها المفضل بن أبي البركات عام 492هـ، وصولاً إلى العهد الرسولي، نسبة إلى دولة بني رسول التي حكمت اليمن بعد الأيوبيين من عام 626هـ إلى عام 858هـ، وكانت من أفضل الدول التي تعاقبت على حكم اليمن. ومن أبرز شخصيات الرواية في هذه الحقبة شخصية الفقيه سعيد الحرازي، معلم أبناء الملوك، الذي اختاره الملك المظفر مدرساً لابنه الأشرف الذي تولى الحكم بعده، واختلف مع أخيه المؤيد ووضعه في السجن؛ لكن هذا الأخير استولى على الحكم بعد موت أخيه بفترة قصيرة، وطال حكمه للبلاد أكثر من بقية أفراد أسرته. وقد أودع الفقيه سعيد السجن بتهمة تعاطفه مع المؤيد للاستيلاء على الحكم، إذ كان يعتقد أن تلميذه الأشرف لا يصلح حاكماً فقد كان ميالاً إلى التأليف ويعتبر "من أهم علماء اليمن في ذلك العصر، فمؤلفاته التي تعددت مجالاتها، من الطب والبيطرة والفلك إلى الآداب والفلاحة، تركت بصماتها المهمة في مسيرة تطور العلوم والآداب، وتناقلتها الأجيال في ربوع العالم الإسلامي، الذي كان نجمه قد بدأ في الأفول" (الرواية، ص 203).



أما شخصيات المرحلة الثانية فتعود إلى القرن الخامس عشر، وترتبط بأفراد البعثة الدانماركية التي زارت اليمن في عام 1760م. وكان الروائي موفقاً في تتبعه لرحلة هذه البعثة وإنجازاتها. وكانت قد تألفت من عدد من المغامرين، على رأسهم عالم النبات الطموح فورسكال، الذي حظي باهتمام الروائي، فأفرد للحديث عنه وعن نشاطه السياسي والفكري في بلاده أكثر من صفحة، وما عبر عنه في كتابه "أفكار حول الحرية المدنية" الذي قوبل بالرفض والمصادرة، وصار معرضاً للقتل من القوى الجامدة. وقد نقلت الرواية فقرات من ذلك الكتاب يدعو فيها مؤلفه بوضوح "إلى حرية الرأي والصحافة التي من خلالها يستطيع الشعب أن يغيّر من كل ما يصيبه من ظلم وجور".

وزاد من تعاطفه مع فورسكال أنه قضى نحبه في اليمن شاباً لم يتجاوز الثالثة والثلاثين من العمر، ولم يكمل الرحلة إلى صنعاء كبقية أفراد البعثة الذين دفنوا جثمانه في مدينة "يريم"، وواصلوا رحلتهم إلى العاصمة وقابلوا إمامها، وشرحوا له مهمتهم وما وجدوه من صعوبات كادت توقف الرحلة في بدايتها، وذلك ما تقوله وتؤكده رحلتهم التي جاء ذكرها في كتاب "من كوبنهاجن إلى صنعاء" (ترجمة: الأستاذ محمد الرعدي)، والذي يشرح أنها كانت رحلة علمية زراعية بالدرجة الأولى تبحث في الأشجار والنباتات النادرة التي جمعت منها البعثة الكثير، والطبية منها على وجه الخصوص.

ومن الواضح أن هدف الروائي من تضمين روايته حكاية هذه البعثة، واسترجاع الصعوبات التي واجهت أفرادها في مهمتهم العلمية، إرسال تحية عرفان وتقدير لذلك النفر من الأوروبيين الذين هبطوا من سماء الأرض إلى قاعها حباً في المعرفة، وللإحاطة بأوضاع أشقاء لهم في الإنسانية، والشعور الآدمي المشترك، حيث كانوا يعيشون تحت أقسى الظروف بؤساً وتعاسة. وكان دماج –كما سبقت الإشارة- أكثر اهتماماً وتعاطفاً مع فورسكال، هذا الأكاديمي الشاب الذي أوقف طموحاته المحلية ودفعه حب المغامرة إلى المشاركة في الرحلة، وما جاء عنه في الرواية هذه الصفحة التي تضيء إنجازاته وتكشف عن جوانب من معاناته في بلده:

"في الطريق بين حقول الذرة المدرّجة تذكر "فورسكال" كيف قادته الأقدار إلى هذه البلاد البعيدة... سرح بصره نحو السحب المثقلة بالمطر، وعاودته ذكريات حياته القصيرة الغاصة بالأحداث... تذكر معركته قبل أربع سنوات مع إدارة جامعة "ابسلا"، وأعضاء مجلس العدلية، الذين جُنَّ جنونهم عندما علموا أنه قام بطباعة كتابه، رغم اعتراضهم عليه، وتوزيع نُسخه الخمسمائة على تلامذته في الجامعة. أصدر المجلس، وبسرعة، حكماً قضائياً بمنع الكتاب، وأمر مدير الجامعة بجمع كل النسخ التي طبعت؛ لكنهم لم يستطيعوا جمع سوى تسع وسبعين نسخة، تم إحراقها فوراً. كان منظر إحراق الكتب قد دمجه بانطباعات متناقضة امتزجت فيها مشاعر الحزن والهزيمة مع مشاعر الفخر والانتصار... حينها أدرك، وبزهو لا حدود له، أنه لم يعد ذلك الشاب الأكاديمي الطموح ذا الأفكار الجريئة وحسب، بل إنه في الطريق لأن يصبح واحداً من أولئك المفكرين الكبار الذين أُحرقت كتبهم عبر التاريخ خشية ما فيها من أفكار جديدة... التاريخ الذي أثبت لنا دائماً كيف رضخت الإنسانية في نهاية الأمر لهذه الأفكار بعد أن نجحت في تغيير مسارات الحياة والسلوك البشري، وما تزال... " (الرواية، ص169).

-5-

العمل الروائي مجهد لكاتبه، لاسيما حين يكون جديراً بذلك الوصف، فهو ليس حكاية يحاول الكاتب أن يغري القارئ بمتابعتها، ولا هو أسلوب نثري يمتاز بالبراعة والدقة في الوضوح، ولا هو تجميعٌ للذكريات، أو المذكرات. إنه فنٌ إبداعي قائم بذاته، تشف لغته التي قد لا تخلو من الشعرية في بعدها الفني الحديث ذلك الذي يتجدد معها ما هو أدبي، وما هو خارج هذا النطاق المتعارف عليه نقدياً. ورواية "جوهرة التَّعْكَر" تجسد هذا المستوى من الرواية الحديثة، وذلك ما رشحها للفوز في مسابقة أدبية لجائزة الشارقة للإبداع الأدبي، علماً بأنها الرواية الأولى للكاتب الذي كان قد حقق وجوده كسارد متميز من خلال أعماله القصصية التي ظهر بعض منها في مجموعتيه القصصية "الذبابة" و"ربما لا يقصدني"، وهو هنا لم يهاجر من القصة إلى الرواية، بل انتقل من السرد في مساحته المحدودة إلى السرد في مساحته الأوسع.

وربما لاحظ القارئ المتابع لأعمال همدان زيد دماج القصصية أن فكرة الرواية تطل عليه من خلال كتابته لأكثر من قصة طويلة. وبالنسبة لي فلم يكن لدي شك في أنه سينضم في أقرب وقت إلى قائمة الروائيين، وهذا ما حدث.

وقد وجدتني مشدوداً إلى روايته هذه عبر لغته البديعة الناعمة والمعاصرة، فهناك من الروائيين العرب من لا يزال يكتب الرواية بأسلوب المويلحي والمنفلوطي، أو مقلداً أساليب كتّاب الرواية في الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، وهي أساليب تجاوزها كتَّاب هذا الفن ابتداءً من ستينيات القرن نفسه، وزاد مستوى التجاوز في العقود الأخيرة إلى أن صار لكل من القصة القصيرة والرواية أسلوبهما الخاص، وصرنا نلمس في هذا الجيل الجديد من كتَّاب الرواية شغفاً غير محدود باللغة، وما تبدعه من صور وتعابير مترعة بالشعر وليست من الشعر، وغنية بالمجاز وليس فيها شيء من تعقيدات المجاز وغموضه.

ولعل أهم ما شدني إلى "جوهرة التَّعْكَر" اقتدار الكاتب على الغوص في التاريخ القديم والوسيط لإحياء بعض الحكايات التي كادت تنطمس، ومنها حكاية الكاهن "سطيح" و"هند بنت عتبة"، فقد كان هذا الكاهن الأشهر ذو الكرامات والقدرات الخارقة، يسكن في "جبل التَّعْكَر" أهم حصون اليمن، وكان سطيح الكاهن، أو الراهب، "يستقبل زواره من أماكن بعيدة، يأتون إليه رجالاً ونساء لشتى الأغراض، كالتداوي من أمراض استعصى علاجها، أو فك السحر والطلاسم، وطرد الجن من رؤوس الممسوسين، وصنع مختلف الرُّقى والتمائم، وقراءة الطالع والتنبؤ، وتحريك السحب الممطرة إلى مواطن القحط والجفاف... إلى آخر تلك الأمور التي كانت شائعة في ذلك الوقت، والتي ما يزال بعضها منتشراً حتى الآن.
يروي الإخباريون أن من أولئك الزوار كانت هند بنت عتبة، إحدى أشهر نساء العرب في ذلك الوقت، المرأة التي سيحتفظ التاريخ بصورتها كواحدة من أكثر عرب قريش عناداً ومحاربة لنبي الإسلام محمد. جاءت من مكة إلى سطيح مع أبيها وزوجها وبعض من أهلها لإثبات براءتها بعد أن رماها زوجها بالخيانة" (الرواية، ص32).

لقد اتسع صدر هذا العمل الروائي البديع ليستوعب الكثير من الشؤون والشجون المحلية، وتمتد بعض سطوره إلى الشأن العربي، كما هو الحال في وصفه لردود الأفعال أثناء ما عُرف بحرب الخليج الثانية. كما استطاع هذا العمل أن يقدم، في سياق روائي متنام، نماذج لبعض العادات والتقاليد اليمنية كالأعراس، وما يرافقها من أفراح عامة، وللموت وما يرافقه من أحزان خاصة وعامة. ولم تنسَ الرواية أن تقدم صورة طريفة عن مجانين القرية الذين يتتابع ظهورهم، وكلما اختفى أحدهم ظهر له بديل يمارس طقوس الجنون، التي تختلف من مجنون إلى آخر. واللافت أنهم لا يؤذون أحداً، فقد استغرقهم الرحيل إلى ملكوتهم الخاص، وليس في مقدور أحد التلصص على مكنوناتهم النفسية والذهنية، وكان ما يشد الناس إليهم أثوابهم الممزقة وحركاتهم الغريبة.

ولعل من أهم القضايا التي وقفت عندها الرواية كانت سلسلة الاغتيالات التي حدثت في التاريخ المعاصر لعدد من الشخصيات، منها اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي، واغتيال المناضل جار الله عمر، الذي تم اغتياله في حشد جمع كل السياسيين اليمنيين، بعد أن ألقى كلمة تدعو إلى التوافق والتسامح، وأهمية مشاركة كل القوى الفاعلة في بناء الوطن الذي هو ملك الجميع ويستوعب الجميع دون تهميش أو إقصاء.

كما أن الرواية عرّجت ولو بشيء من الاقتضاب على أفراح الأيام الأولى لإقامة الوحدة وإنهاء التشطير، وما خلقه ذلك التحول الوطني العظيم في نفوس اليمانيين من تفاؤل وشعور بتجاوز التخلف وانتهاء أزمنة الحروب الداخلية. وكان لا بد أن تلقي نظرة على حرب 1994م التي أعقبت الوحدة بأربع سنوات فقط، وتركت ندوباً في قلوب أبناء اليمن شمالاً وجنوباً، لما رافقها من نهب واستيلاء على المنازل والأراضي، وتقسيمها بين المتنفذين الذين كانوا يجهلون أثر ذلك على وحدة الوطن في الحاضر والمستقبل.

-6-

هكذا إذاً، وبين خطين متوازيين، هما الماضي والحاضر، تدور أحداث رواية "جوهرة التَّعْكَر"، التي هدفت -ضمن ما هدفت إليه عبر بنيتها الموضوعية- أن تتتبع سردياً رحلة الإنسان في صراعه الطويل مع الاستبداد، ونضاله المستمر من أجل الحرية، ليس في اليمن، وطن الروائي ومسرح الأحداث الأكثر شجوناً وسخونة وحسب، بل وحتى في أماكن أخرى. والحقيقة أنه قد يطول الحديث ويتشعب إذا ما حاولنا استقصاء كل ما تعرضت له الرواية من شخصيات وأحداث ووقائع، وما ألمت به من حكايات ومفارقات طريفة أو محزنة تعود إلى الماضي البعيد أو الحاضر القريب، والتي يصل مستوى بعضها دون مبالغة إلى مستوى الأساطير العالمية.

كما نجحت الرواية عبر بنيتها الفنية في إثبات أن العمل الإبداعي لا يكتفي برفد قارئه بالخبرات المعرفية والنفسية بعيداً عن جماليات البناء الفني الذي يعكس انتماء الروائي إلى زمنه الجديد، ويتمثل الكتابة الروائية في أحدث آلياتها وأشكالها.
أضف تعليقاً على هذا الخبر
ارسل هذا الخبر
تعليق
إرسل الخبر
إطبع الخبر
RSS
حول الخبر إلى وورد

ملخصات تغذية الموقع
جميع حقوق النشر محفوظة 2009 - (صنعاء نيوز)