صنعاء نيوز/ الدكتور عادل عامر - كيف تصنع النجوم في كافة مناحي الحياة ومن يحدد الإطار الذي يبدو فيه النجم سواء في مجال السياسة أو الفن أو الأدب أو الاقتصاد أو الطب أو العلم أو أوكار الجريمة سواء كان هذا النجم حقيقيا أو زائفا أو عابرا في ظروف عابرة
الكذب شيمة أهل النفاق وما أكثرهم بين السياسيين. لأنه يتنامى في ظل ظروف اجتماعية واقتصادية غير طبيعية فانه يتحول إلى ما درج على تسميته بداء العظمة الذي يتفاقم لدى السياسي الكذاب فيبدأ بمصادرة الآخرين في وعيهم وثقافتهم
فيتحول بعدها إلى ديكتاتور لا يتوقف عن الكذب لإيجاد المبررات لأفعاله المشينة بحق الجماهير لاسيما إذا ما نجح كذبه في توفير أسباب القوة والبطش التي يرهب بهما الآخرين لتحقيق ما يصبو إليه، ولو كانت حروبا طحنت كالتي لازالت تطحن النفوس البريئة في ليبيا على يد القذافي بحجج كاذبة أطلقها وصدقها أمثال الحرب على الإرهاب وحق العودة ومقاومة التطبيع والتوطين في الوقت الذي هو من يقترف كل ذلك
أن الكذب من اللوازم الذاتية لحقيقة الإنسان لا يعني فقط بـأنه عام في الجنس البشري وحسب، بل وأيضاً أنه ضروري لوجوده وحفظ حياته،"فحتى الكذب له قيمته" كما يقول فولتير. وفي هذا الصدد يذهب نيتشه، الفيلسوف الذي أسس لثقافة الكذب ما بعد الحداثي، بعيداً عندما يصرح أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة بأنه بدون المفاهيم الخاطئة
والصور الخيالية، والأوهام اللاواقعية، تبدو الحياة مستحيلة ومقرفة، بل حتى العلم نفسه غير قابل للتصور بدون أساطير واستعارات. فقول ما ليس حقاً، أو قول ما لا نؤمن به، أو قول ما ليس موجوداً، يُحدِث متعة للنفس، لاسيما وأنه يقنعها بأنها قادرة على الانفكاك من عالم الضرورة والإكراه، سعياً وراء الولوج إلى عالم الحرية والانعتاق، وبأنها قادرة على الخلق والإبداع وتجاوز ما هو كائن إلى ما هو قابل للإمكان
أو إلى ما ينبغي أن يكون. والغريب أن الجمهور، الذي هو مصدر قوة السياسي، لن يتبع السياسي مادامت الحقيقة لا تحرّك فيه سكون وجدانهم ولا تستثير خمول خيالهم أو تؤجج آمالهم. أما الكذب، بالقدرة على التحريك والاستنهاض إلى الفعل عن طريق إغراء الناس بوعوده المعسولة، ودغدغة أحلامهم بأوهامه المستحيلة، واستدراج قناعاتهم للالتفاف حول آرائه وتخيلاته سهلة التصديق.
وقد يبدو الكذب السياسي أحياناً فعلاً مجانياً لا معنى له، ولا منفعة سياسية أو اقتصادية مباشرة من ورائه. فقد لاحظت أرندت أن الولايات المتحدة لم تكن تعرف ماذا تريد من شنها الحرب على فيتنام، وأنها خاضت تلك الحرب بشعارات كاذبة من أجل فرض صورتها كأقوى دولة وحسب. ما يهم السياسي ليس صدق الحقائق والوقائع وإنما مدى نفعها عند استعمالها لتغيير الوقائع، وتعديل ميزان القوى لصالحه. فبما أن صانع للأحداث والأفعال، وخالق للأفكار والآراء المُعِدّة للأفعال، فهو بحاجة إلى الأوهام والخيالات، بحاجة إلى القفز على الحقائق والوقائع، وكأن هذه تشكل عوائق أمام طموحه السياسي، وفعله الخلاق. الفعل السياسي لم يعد اليوم مرتبطاً أساساً بالعقل، وبالتالي بالحقيقة، وإنما بالرأي الذي يقوم على الخيال، لثبت لدينا أن السياسة هي أكثر شيء كذباً، خصوصاً إذا كانت هذه الأخيرة مرتبطة بالأحداث والوقائع التي حدثت في الماضي، مما يجعله معرَّضاً للكذب باستمرار.
لان حسن الخلق يستر كثيراً من السيئات، كما أن سوء الخلق يغطّي كثيراً من الحسنات. التركيز على حقائق علاقة الكذب والسياسة، لا يعني أن نستسلم لمقولة "العالم كذب في كذب" كما قال أحد الشعراء، ولا أن نجعل هذه العبارة الشِّعْرية مرادفة للعبارة الصوفية القائلة بأن "العالم خيال في خيال"، فنسوّي بين الكذب والخيال، ونغرق القارئ في نزعة نسبية مبتذلة تدّعي أن كل شيء يمكن أن يكون حقا وباطلا في نفس الوقت حسب الزاوية التي يفضّل المرء أن ينظر من خلالها إليه، أو نجعله لا يقيم وزنا لأي قول أو شهادة أو معلومة بذريعة أن كل شيء يُداخِله قدر من الشك
ولا يمكن أن نكون مع من يدافع عن "الأكاذيب النبيلة" وقايةً للحضارة البشرية من "فظاعة" الحقيقة، و"جحيم" العدمية، واصفين الحقيقة بالظلامية والخسة، ومتهمين إياها بأنها تشكل تهديدا للنظام والاستقرار السياسي، كما كان يقول ليو شتراوس ؛ فالكذب مهما كان متقناً ونافعاً، فإنه سيظل أداة تحطيم الكرامة البشرية على المدى البعيد
وسيظل غير قادر على أن يصمد أمام العقل وأمام الرأي العام في المجال العمومي، ومن ثَم فإن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون حقيقة يعترف بها الجميع عن طريق التشاور والتوافق، لا عن طريق الإملاءات والضغوطات.
ليس في السياسة الدولية عواطف بل عقول، ولا مجاملات بل مصالح، والسياسي الإنساني هو الذي يعمل لمصالح قومه ضمن مبادئ الحق والخير والسلام. ليس في السياسة خصومة دائمة
ولا صداقة دائمة؛ فصديق اليوم قد يكون خصم الغد، وخصم الأمس قد يصبح صديق اليوم، ذلك شأنه في الأفراد والشعوب. أصعب شيء على السياسي المستقيم أن يرى الدجالين في السياسة يستهوون الغوغاء بكاذب القول ومعسول الوعود. بعض السياسيين في أمتنا يبدأون حياتهم السياسية كالعاشقة، وينتهون إلى أن يكونوا كبائعة الهوى.
كانت السياسة في بلادنا وطنية، ثم غدت استغلالاً، ثم حاولت أن تكون إصلاحاً، ثم أصبحت اليوم إما تضحية تجعل صاحبها من الأبطال وإما وصولية تجعل صاحبها من الأنذال. السياسي الذي يعتمد على الجماهير الجاهلة وحدها سياسي دجال، والسياسي الذي يعتمد على المثقفين وحدهم سياسي فاشل، والسياسي الناجح هو الذي يستطيع أن يجمع حوله المثقفين والجاهلين.
يحتل الكذب السياسي موقعا نوعيا في الممارسة السياسية إذ يتخذ أشكالا تداولية عديدة تتراوح بين التجلي عبر اللغة والتخفي في ثنايا الصيغ التواصلية، فتارة تبرز الأكاذيب السياسية دفعة واحدة قصد التهرب من تحمل المسؤولية السياسية اتجاه قضية شائكة أو نتيجة تسرع الفاعل السياسي وتراجعه في الآن نفسه، وأحيانا تظهر بشكل زمني تدريجي عبر الانفعالات السياسية اللفظية
إذ تأتي في مراحل متأخرة بعد عدم تمكن الفاعل السياسي من الحفاظ على انسجام لغته السياسية وتماسك موقفه وخطابه. ويتمثل العنصر الحاسم لإظهار الأكاذيب السياسية أو إضمارها في مدى تمكن السياسي أثناء استعمال اللغة المخادعة من امتلاك تقنيات تعبيرية مراوغة نصفها تجاوزا بمهارات الكذب.
فكلما كانت مهارات الفاعل السياسي قوية، كانت الأكاذيب السياسية خفية وغير معلنة على مستوى الموقف والخطاب؛ وكلما كانت المهارات ضعيفة، تطفو الأكاذيب السياسية على السطح ولا تجد سبيلا إلى التستر في ثنايا اللغة التواصلية السياسية.
وتحدد قوة هذه المهارات أو ضعفها في قدرة الفاعل السياسي على التفاعل مع الملابسات والتحولات التي يشهدها حدث سياسي معين مما يجعلها مقترنة بالسياق السياسي ومؤشراته الخطابية والتواصلية.
هاهنا وبصفة عامة، نذهب إلى أن بلورة نظرية للخطاب السياسي ذات كفاية وصفية وتحليلية متقدمة تستلزم استحضار المكون السياقي الذي يضمن المعالجة السليمة والشاملة لمختلف مستويات التفاعل الاجتماعي والتواصل السياسي. على أن الكشف عن أهمية السياق السياسي يقتضي إدراك الخلفيات المنهجية الكامنة خلف تبئير مفهوم السياق عموما ؛ كما أنه متى علمنا أن السياق السياسي فرع عن السياق الإنساني |