صنعاء نيوز- حبيب عيسى مصر -
لقد اعتاد النظام الحاكم في مصر على تنظيم الانتخابات والاستفتاءات المعروفة النتائج سلفاً ، فنتائج الاستفتاءات في حدود التسعين في المائة ، وفي المجالس التمثيلية كانت كذلك ، لكن النظام تواضع مؤخراً ، ليعطي نسبة يحددّها هو لما يسميه المستقلين ، ورجال الأعمال ، والمعارضات ، ويتفنن في توزيع تلك النسب ، فتارة يزيدها يميناً لضرب اليسار ، وتارة أخرى يجنح إلى العكس ، لضرب القوى السياسية بعضها بالبعض الآخر ... ، وهذا كله يتم في ظل معاهدة "كامب ديفد" التي تكبّل إرادة مصر ، وحرية الشعب العربي فيها ، وفي ظل التخويف والإرهاب حتى من مجرد محاولة مناقشتها ، لأن "إسرائيل" ، ودولة الولايات المتحدة الأمريكية ، ستفعل كذا ... وكذا ... ، والنظام يحاول اليوم تكرار التجارب السابقة في الانتخابات الحالية ، لكن الشعب العربي في مصر مدعو اليوم ، لوضع حد حاسم لتلك المهزلة ، وبالتالي ، فهو يسعى أولاً لوضع حد فاصل لتزوير إرادته : سواء بالمقاطعة ، أو بالمشاركة ، أو بالاعتصامات ، أو بالمظاهرات ، أو بالعصيان المدني ، أو بوسائل التعبير الأخرى ، وفي حال استمر النظام في غيّه ، فقد يطوّر الشعب أساليب مقاومته إلى ما لابد منه ، لأن الشعب قرر ، على ما يبدو ، وضع حد للتزوير ، مهما كلفه ذلك من ثمن ، طبعاً ، نحن نستثني أولئك الذين يشاركون باللعبة الانتخابية ، كلعبة متفق عليها مع النظام ، فهؤلاء زيل للنظام ، لا يستحقون الحديث عنهم ، أو أليهم ... ، وبالتالي ليس المهم من يفوز ، ومن لا يفوز ، لأن هذا المجلس ، وغيره ، في ظل الآليات الحالية لا قيمة فعلية له ، ولا قرار ، نجح من نجح وخسر من خسر ، فالمهم إذن ، هو تغيير آلية النظام الذي تتحكم فيه قوى غير مرئية أحياناً تنتج المافيات والفساد والإفساد والنهب والتبعية المطلقة لقوى الهيمنة الدولية ... والانتقال إلى دولة المؤسسات الديمقراطية والحريات العامة والعدالة الاجتماعية والسيادة الحقيقية ، والإقليم القاعدة للقومية العربية ، ومشروعها النهضوي التحرري التوحيدي التقدمي ... وإذا كان ما يجري في مصر اليوم سيقرّر ، ليس مصير مصر ، وحسب ، وإنما مصير الأمة العربية ، فإن صفقة معاهدة كامب ديفد التي عقدها نظام الردة والتزوير ، والتي توالدت منها : أوسلو ووادي عربة ، وينتظرون حملها بمواليد جديدة ، سيتقرر مصيرها في ساحة الصراع الدائر في مصر اليوم ، وبالتالي ، إما أن تدفن مع مواليدها ، وإما علينا أن ننتظر مواليدها القادمين بالتتابع .... ( 2 ) لهذا ، قلنا أن شعب مصر العربي يعيش اليوم سنوات الغضب ، وربما سنوات الثأر ، والثورة بمعانيها الشاملة ، ونحن مع اختلاف الظروف والأطراف والأساليب ، نشبّه ما يجري اليوم ، بما جرى قبيل ثورة 1952 عندما تصاعدت موجات الغضب الجماهيري ، واضطرت القصر والحكومة ، على مضد ، لإلغاء معاهدة 1936 وذلك قبيل الثورة ، عندها لم تقدم الحكومة على اتخاذ الإجراءات الضرورية لمواجهة الموقف ، لكن الشعب العربي في مصر ، وبدون إذن من أحد ، تقدّم يشكلّ كتائب الفداء التي اندفعت على الفور إلى منطقة القنال تهاجم معسكرات الجيش البريطاني الذي لم يعد عاجزاً عن التدخل لفرض المعاهدة ، وحسب ، وإنما بات محاصراً ، وعاجزاً عن مواجهة ثورة يوليو 1952 بعد ذلك ...( 3 ) ونحن هنا سنعود إلى وثائق نشرها صبري أبو المجد في مجلة المصور القاهرية في ثمانينات القرن المنصرم ، وأهمية تلك الوثائق أن ناشرها ، ومكان نشرها ، وزمانه ، تمّ في ظل الردة ، وفي أوج سطوتها وسيطرتها على الأعلام ، يقول صبري أبو المجد : أن المستشار الأستاذ محمد عبد الرحمن حسين أباظة قد أودع عنده أوراقاً ووثائق فائقة الأهمية عن معارك الفدائيين في منطقة القنال عام 1951 ضد الجيش البريطاني ... ينقل صبري أبو المجد عن تلك الوثائق ، أن المستشار محمد عبد الرحمن أباظة قد كتب يقول : كان من المفترض أن تكون الحكومة التي قررت إلغاء معاهدة 1936 قد اتخذت الإجراءات ، والتدابير لمواجهة الحالة ، وكان من المفترض أن تكون الحكومة قد استعدّت لحماية الشعب من اعتداءات القوات البريطانية ، وكان من المفروض أن تكون الحكومة قد رتبّت احتياجات الشعب في نضاله ضد قوات الاحتلال ، خاصة ، وأن النحاس باشا كان قد صرّح أن الحكومة قد أعدّت لكل شيء عدّته ، لكن الشعب الذي كان مستعداً لمواجهة كافة الاحتمالات أنتظر إشارة الحكومة لبدء النضال ضد القوات البريطانية الغاصبة ، ولكن الانتظار امتدت ساعاته ، وطالت أيامه ، والحكومة لا تزال تصطاف في الإسكندرية ، ولم تقم بأي إجراء لتهيئة الجو للكفاح أو لدفع حركة المقاومة ، أو حتى لاتخاذ أي إجراء لوقف اعتداء القوات البريطانية على أفراد الشعب في منطقة القنال ... ويضيف المستشار محمد عبد الرحمن حسين أباظة في تلك الوثائق قائلاً : لكن الشعب لم ينتظر خطوة الحكومة التالية بعد إلغاء المعاهدة ، وإنما هبّ من تلقاء نفسه ، وبوحي من وجدانه وضميره لأداء الواجب ، ومواجهة الاحتلال ، ويقول صبري أبو المجد أنه عثر بين الأوراق والوثائق الخاصة بالمستشار محمد عبد الرحمن حسين أباظة على أوراق هامة وخطيرة عن "كتيبة محمد فريد" كتبها في حينه قائد تلك الكتيبة عصمت سيف الدولة ، التي تميّزت بأنها كانت الكتيبة الوحيدة التي حملت معها إلى القناة مكتبة ضخمة تضم الكثير من الكتب إلى جانب الأسلحة ، والمعدات ، والمؤن ، ما يعنينا ، الآن ، أن الذين يعرفون عصمت سيف الدولة مفكراً ومناضلاً قومياً تقدمياً وفيلسوفاً منظراً للثورة العربية ، عليهم أن يضيفوا إلى تلك المواصفات أنه كان مقاتلاً فدائياً يحمل السلاح بيد والكتاب باليد الأخرى ، ويتضح ذلك حتى من نظرته النقدية للعمل الفدائي من داخل ساحة الفداء ذاتها في تلك الأيام الحافلة بالنضال ...( 4 ) لقد تقدّم الشعب العربي في مصر بعد إلغاء معاهدة 1936 إلى ساحات الفداء ، ففاجأ القصر والحكومة والمستعمر ، وحتى قيادات الكثير من الأحزاب ، الذين كانوا على قناعة أن الشعب "غلبان" ، وعاجز عن الفعل ، وبالتالي فإن الحكومة ذهبت إلى المصيف في الإسكندرية على أمل أن القوات البريطانية ستتحّرك لتفرض العودة عن قرار إلغاء معاهدة 1936 ، وعندها تعود الحكومة لتتراجع عن قرار الإلغاء تحت حجة أنها مرغمة على ذلك ، والعين لا تقاوم المخرز ... لكن الشعب قلب الطاولة على رؤوس الجميع ، واندفعت طلائع الفدائيين إلى منطقة القناة تحاصر معسكرات الاحتلال ...( 5 ) لقد جاء في أوراق عصمت سيف الدولة ، كما عرضها صبري أبو المجد عن وثائق محمد عبد الرحمن حسين أباظة ، ما يلي : إن شباب الحزب الوطني لم يكن في حاجة إلى من يقول له ، ما يجب أن يفعله بعد إلغاء معاهدة 1936 ، ففي يوم الجمعة التالي ليوم إلغاء المعاهدة توجّه نفر منهم إلى الجامع الأزهر حيث اعتلوا المنبر بعد الصلاة ، وألقوا خطباً حماسية بالناس معلنين البدء بتشكيل كتائب التحرير الفدائية ، ووزعّوا مناشير تحمل هذا الاسم ، وتدعوا للتطوع فوراً ، وتعلن أن الحزب الوطني قد أعد العدة لتلقي طلبات التطوع في مقره بالدور الخامس من العمارة رقم 35 شارع قصر النيل ... ولم يكن مقره هذا سوى خمس حجرات تضيق بشبابه أنفسهم ، غير أن الدعوة انتشرت كاللهب ، وتبنتهّا جميع الهيئات والأحزاب ... ولم يلبث كل حزب ، أو هيئة أن أنشأ لنفسه كتائب للتحرير ، وتولى تدريبها ، وهذا ما باشره الحزب الوطني على الفور ، والذي ضاقت حجراته الخمس بالجموع المتدفقة من أبناء الشعب ، فلجأ الحزب إلى أحد ضباط الجيش وهو - سيد جاد – فأقام الحزب معسكراً في صحراء الهرم ، واستطاع أن يجمع من المال ما يكفي لشراء خمسة مدافع نوع "ستن" ، ويتابع عصمت سيف الدولة بيان ما حصل في تلك الأيام ، حيث يقول : كان طبيعياً جداً أمام هذا الحماس الدافق للشعب أن يختلط الحابل بالنابل ، ويتوه الجاد في زمرة المدعين ... وأن تندّس عناصر فاسدة ، ومغرضة في صفوف المتطوعين، لكن رغم ذلك كان من الطبيعي جداً ، أن لا يؤثر ذلك على حماس المتطوعين الذين كان اهتمامهم منصّباً على الفداء ، وأن لا يهم المتطوعين أنفسهم من الأمر كله إلا ما يتعلق برغبتهم الأكيدة في مقاتلة الإنكليز ... أما كيف ؟ ، وبأي سلاح ؟ ، وبأي مال ؟ ، وأين يقيمون ؟ ، وكيف ينفذوّن ؟ ... فتلك أسئلة لم يكن حماس الشعب هادئاً إلى الدرجة التي تسمح بالتفكير في هذا كله ، والواقع أن تلك كانت مهمة التنظيمات التي دعت على التطوع ، ولكن الفشل كان أكثر بكثير من النجاح ... فلقد قدمّت الأحزاب والهيئات آلافاً مؤلفة من المتطوعين في كتائب التحرير ، وألقت بهم على حدود المعسكرات الإنكليزية في مديرية الشرقية ومنطقة القناة ... وألقى الحزب الوطني بكتيبة مصطفى كامل في مستنقعات بحر البقر شمالي الإسماعيلية برغبة منه في أن تستطيع تلك الكتيبة أن تقطع الاتصال البري بين بور سعيد والإسماعيلية ، غير أن هذا كله كان أكثر مما تتحمله الحقيقة ، وأكثر مما أعد له ... التنظيم الحزبي : كانت الرغبات جامحة يذكيها حقد مرّكز على الإنكليز والعملاء ... كان للحزب الوطني فضل تأجيج ذلك الشعور ، ولكن الإمكانيات كانت محدودة ، أو تكاد ، وقد رأت منطقة القناة آلافاً من الشباب لا يملكون إلا أرواحهم القومية المتأججّة ، وأقل القليل من الأسلحة ، ولا شيء من التدريب الجدّي ... لكن هذا لا يقللّ من أهمية ما حصل ، فحتى تلك الفوضى كانت قد أزعجت الأعداء ، إزعاجاً شديداً ، فلم يكن يدور في خلد الإنكليز ، أو بخلد أي أحد ، أنه ليس وراء هذه الآلاف المؤلفة تنظيم قادر على الاستمرار ... وإمكانيات هائلة ، وقد عبرّت عن هذا الهلع إذاعات لندن ، والدول الأخرى التي كان واضحاً عليها الارتباك ، وسيطرّ عليها مزيجاً من الفزع والرهبة من جموع الفدائيين ، وكانت أضعف الحركات من قبل الفدائيين ، يتم تفسيرها من قبل تلك الإذاعات المعادية على أنها تدبيّر منظم وراءه قيادة موحدة قادرة على التعبئة والتنظيم ، وكان الخطر كله يكمن في أن تستمر تلك الحركة الفدائية دون أن تستكمل أوضاعها التنظيمية لتوفير عناصر الصلابة والاستمرار ، لأن ذلك سيكشف ضعف إمكانيات الفدائيين ، وبالتالي يقللّ من رعب المستعمرين ، وكانت تلك العناصر الضرورية للاستمرار ، تتمثل في :1 – التدريب الجاد على أيدي أخصائيين .2 – توفير القيادة العسكرية للمتطوعين .3 – توفير الأسلحة ، والإقامة الدائمة للفدائيين ، ووسائل الإنفاق .4 – حملة كبيرة لتوعية المتطوعين الفدائيين ، وتأهيلهم لصلابة الاستمرار الذي كان لازماً لمدة طويلة .( 6 ) هكذا نلاحظ إدراك عصمت سيف الدولة المبكر لخطر عدم وجود التنظيم المؤسساتي ، الكامل الأوصاف ، والذي قضى حياته ، بعد ذلك ، للإعداد للتنظيم القومي العربي التقدمي . نعود إلى الوثائق كما نشرها صبري أبو المجد نقلاً عن أوراق المستشار محمد عبد الرحمن حسين أباظة حيث تضمنت اليوميات التي كتبها عصمت سيف الدولة عن تأسيس "كتيبة محمد فريد الفدائية" التي قادها عصمت سيف الدولة ذاته ، ويوضح فيها علاقة الكتيبة الفدائية مع الضباط الأحرار ، يقول عصمت سيف الدولة : في شهر ديسمبر 1951 عرضت – أي عصمت سيف الدولة – رأيي في ضرورة توفير مستلزمات التنظيم على أحد ضباط الجيش – عبد المجيد فريد "ضباط أحرار" – ، وركزّت على ضرورة الإعداد للاستمرار في قتال الإنكليز ، لأن الاستمرار في قتال الإنكليز ، والاستمرار وحده ، ولو بأقل الأسلحة ، وأقل عدد ، وأقل عمليات ، وأقل تضحيات ، هو العنصر الحاسم في المعركة ، وأوضحت له ، أنني – أي عصمت سيف الدولة – لا أعتقد أن للمعركة مدلولاً عسكرياً مهماً ، وأن مدلولها سياسي ، فلن يستطيع المتطوعين الفدائيين أن يدخلوا معركة مكشوفة ضد 80 ألف جندي بريطاني في قاعدة القنال ، ولكن الفدائيين يستطيعون أن يجعلوا حياة أولئك الجنود المستعمرين لا تطاق بالعمليات المستمرة ، والمتلاحقة ، لأن ذلك وحده ، سيحيل القاعدة البريطانية إلى سجن لثمانين ألف جندي بريطاني ، ويفقدها بالتالي أية قيمة عسكرية ، كما سيفتقد الجنود البريطانيين ، للأمن ، وهذا وحده كفيل بتحقيق الجلاء ، ويضيف عصمت سيف الدولة ، فيقول : لقد وافقني عبد المجيد فريد الرأي ، وقال أنه سيعرّفني بمن يستطيع أن يضع كل هذا موضع التنفيذ ، وبعد يومين قدم إلي عبد المجيد فريد ، وبصحبته ضابط كبير هو – رشاد مهنا – فأعدت عليهما رأيي ، وبعد تمعّن طلب إليّ رشاد مهنا ، أن أقدّم حلاً تطبيقياً ، فاقترحت أن نبدأ بتشكيل وحدة مختارة من متطوعي ، وأبناء الحزب الوطني في حدود خمسة عشر شخصاً ، وأن يتولى الجيش نفسه تدريبهم النظري على أعمال النسف والتفجير ، وتدريبهم في معسكرات الجيش ذاتها ، وأن يتم تعيين قائداً عسكرياً للمجموعة ، وان توّفر لها الإمكانيات المادية ، للإقامة المستمرة ، وأن تنظمّ لها محاضرات سياسية في قلب المعركة ، وقد كان ...( 7 ) لقد اخترت – أي عصمت سيف الدولة – من بين شباب الحزب الوطني 11فدائياً جذبني إليهم أن رأيهم كان ضد كثرة المتطوعين وقلة التدريب ، وأنهم كانوا على قدر من الثقافة يضمن أن يكون حماسهم للمعركة شاملاً لإدراكهم حقيقة المعركة ومقتضياتها ، واتفقت معهم على تشكيل كتيبة خاصة ، وأن يتكتمّوا الأمر ... حتى لا تعتبر هذه الكتيبة دعوة ضد الحركات التي كانت قائمة ، والتي كانت تؤدي – على وجه أو آخر - دوراً في إزعاج القوات المحتلة ، وهكذا تم تشكيل نواة كتيبة محمد فريد في مكتبي – أي مكتب عصمت سيف الدولة – بميدان المبتديان في القاهرة ، وحضر رشاد مهنا الاجتماع التأسيسي ، وألقى كلمة ، وقام بتعيين مدرب نظري على استعمال المفرقعات يلقي عليهم دروسه مساء كل يوم في ذات المكتب ، وطبعنا الدروس ووزعناها عليهم ، وأصبحت الدراسة النظرية جادة ومنتظمة ، ثم فتحت لنا أبواب ساحات التدريب في سلاح المدفعية ، ثم في سلاح المهندسين ، وأصبح التدريب النظري والعملي يتمان يومياً : العملي في الصباح ، والنظري في المساء ، وبعد اختبار أخير ، سألت رشاد مهنا : وماذا بعد ؟ .( 8 ) يتابع عصمت سيف الدولة وصف ما حدث ، فيقول : لقد أعطاني رشاد مهنا عنواناً لأحد المحامين في شارع إبراهيم وسط القاهرة ، للاتصال به ، فعنده الجواب على السؤال الذي طرحته عليه ... وذهبت إلى العنوان فإذ بي أمام مكتب المحامي الأستاذ المستشار محمد عبد الرحمن حسين أباظة ، وهناك عرفت أن ما كان يجول بخاطري ، كان يجول بخواطر الكثيرين ، وأن كتيبة محمد فريد المنظمة ، ليست الكتيبة المنظمة الوحيدة ، وأن مكتب المستشار محمد عبد الرحمن حسين أباظة ، كان مركزاً للاتصال بين جميع المناضلين الجادين الذين يرون في المعركة أكثر من مجرد مظاهر ، والمحامي محمد عبد الرحمن حسين أباظة هو من أبناء الحزب الوطني ، أيضاً ، ومن تلاميذه ... وهناك أيضاً – يقول عصمت سيف الدولة - تعرّفت على الضابط وجيه أباظة "ضباط احرار" ، حيث أبلغنا أنه القائد العسكري لكتيبتنا ، كتيبة محمد فريد ...( 9 ) ونتابع القراءة في أوراق عصمت سيف الدولة ، حيث انتقلت كتيبة محمد فريد من مرحلة التدريب والإعداد ، إلى مرحلة العمليات الفدائية المباشرة ضد قوات الاحتلال ، فنجده يوصّف ما جرى حيث يقول : في أحدى الأمسيات حملنا القطار إلى الشرقية ، لقد كانت لحظة مفعمة بالعاطفة الجياشة ... ثم توجهنا من الزقازيق إلى أبو حماد ، ومنها إلى قرية صغيرة على حدود المعسكرات البريطانية ، وكانت في الأجواء طائرة استكشاف تراقبنا من أعلى ، لكن على ما يبدو أن طاقم الطائرة ظنّ أن سيارة الجيب التي كان يركبها وجيه أباظة ، وأنا معه تابعة للقوات المسلحة ، فلم تتعرّض لنا ، لكن ما أن استقر بنا المقام ، وفي حوالي الساعة الحادية عشرة مساء ، حتى وجدنا سيارة "بوكس" للبوليس قادمة باتجاهنا مسرعة ، وفيها ضابط بوليس تابع لمركز أبو حماد ، حيث ترّجل الضابط ، وطلب إلينا الصعود فوراً إلى "البوكس" ، وتم الانطلاق بنا – كالخطف – إلى أبو حماد نفسها ، حيث تم وضعنا في أحد المنازل ، وُطلب إلينا عدم الظهور ، وفي الصباح عرفنا أن المكان الذي تمّ نقلنا منه في المساء السابق ، قد اقتحمه الأنكليز في الفجر بقوات كبيرة ، وأننا نجونا بأعجوبة ، وكان هذا مثيراً ، فقد اعتبرناه – ونحن في شوق إلى المعارك – أول معركة لنا ، وعرفنا ما هو أكثر إثارة ، أن الذي أنقذنا كان ضابط بوليس ، والسيارة التي حملتنا سيارة حكومية ، والضابط نفسه الذي قام بتهريبنا ، كان يقوم بدور ضابط اتصال بين السلطات المصرية وبين القوات البريطانية ، وعن هذا الطريق عرف أن الأنكليز سيقتحمون المنزل الذي كنا نقيم فيه ، فقام على الفور ، وبمبادرة ذاتية ، بتهريبنا بسيارته قبل اقتحام المكان بساعات قليلة من قبل القوات البريطانية ، إلى مكان آخر ، إذن ، ففي المعركة ليس رشاد مهنا قائد المدفعية وضباطه ، وليس أبناء الحزب الوطني ، وحسب ، بل أن كل مواطن أتيحت له الفرصة للإسهام في المعركة يسهم فيها بكل طاقته ، وبمبادرة ذاتية ، ودون أن يطلب منه أحد ... ، إن هذا الشعور بأننا لسنا وحدنا قد أزال نهائياً تهّيب الموقف ، وهنا ، يقول عصمت سيف الدولة ، اقترحت على وجيه أباظة أن ننتقل إلى خارج أبو حماد ، فقد كان وجودنا في بلدة عامرة بالسكان والمقاهي وغيرها ، أدعى إلى إفساد كل شيء ، وكشف تحركاتنا ، فانتقلنا إلى منزل في "الهرية" قرب الزقازيق مملوك لأحد أعيان المنطقة "أحمد أبو الذهب" ، وهناك عشنا عيشة قاسية ، وممتعة معاً ، قاسية لأننا كنا في عزلة تامة لا يعرف عنا أحد شيئاً ، وليس مسموحاً لأحد منا أن يذهب إلى الزقازيق ... وقاسية لأن المعيشة كانت غير متوافرة في أول الأمر ، وقاسية لأننا قضينا فترة لم نحاول فيها ، ولو مجرد محاولة أن نخوض معركة من أي نوع ، وقد انتهزت الفرصة وقمت بالشيء الوحيد الذي أتقنه ، وفتحت صناديق مكتبة كتيبة محمد فريد ، فقد كانت كتيبة محمد فريد ، فيما أعلم ، هي الكتيبة الوحيدة التي حملت معها إضافة إلى الأسلحة والذخائر والمؤن ، مكتبة سياسية ، وهناك قضينا أغلب الوقت في القراءة ، والمناقشات ، وتفتحّت أذهاننا على الأكثر من مجرد المعرفة البسيطة للقضية الوطنية ، وامتدت بنا الآمال النظرية إلى أن نفعل كما فعل غيرنا في بلاد كثيرة : فنطهّر القنال ، ثم نطهّر القاهرة ، و .... ، إلى أن يقول عصمت سيف الدولة : أن حضورنا إلى الشرقية ما هو إلا جزء من خطة موجهّة ضد الفساد في القاهرة ، وأن أمثال رشاد مهنا ، والضباط الذين نتعاون معهم ، وكل الناس الكبار الذين قابلناهم ، من هذا الرأي ، ويميلون إليه ... فارتفعت الروح المعنوية إلى الذروة ، وأصبحت الإقامة متعة حقيقية – هكذا اقتنعنا – أننا في بداية آمال وطنية عريضة تتجاوز معركة القنال بكثير .... هكذا زرع الفدائيون أرض القنال بالشهداء ، وباتت المعسكرات البريطانية تحت الحصار ، وانطلقت الملاحم البطولية عمليات فدائية تدمي العدو في كل مكان من السويس إلى بور سعيد ، ثم بعد أشهر قليلة تقوم ثورة 23 يوليو 1952 ولم يكن أمام العدو المستعمر إلا أن يسعى لعقد اتفاقية الجلاء ، والمغادرة ، وعندما فكرّ بالعودة عام 1956 لاقى ما يستحق ...( 10 ) نعم ، إن مصر اليوم في أيام الغضب ذاتها من جديد ، الظروف الموضوعية مختلفة ، الأطراف متعدّدة ، السفارة الأمريكية أخذت مكان السفارة البريطانية ، وحسني أقل شأناً بما لا يقاس من فاروق ، والأساطيل الأمريكية حلتّ مكان القواعد البريطانية ، وأعيان الفساد والمافيات هذه الأيام أكثر قذارة وتوحش بما لا يقاس من أعيان وفساد الحاشية الملكية ، وكامب ديفد أكثر خطراً بما لا يقاس من معاهدة 1936 ، ولهذا كله فإن الشعب العربي في مصر أمام ذات المهام ، ويناضل في سبيل ذات الهداف ، فالغائية هي ، هي ، تحرير مصر من التبعية ، ومن الفساد ، ومن الهيمنة ، ومن الاستبداد ، ومن كامب ديفد ، لتعود مصر منارة مركزية للحرية والنهوض والتنوير في الوطن العربي ، وما تمكن منه 18 مليون عربي في مصر خلال خمسينات القرن المنصرم ، لن يعجز عنه 80 مليوناً من العرب المصريين يتشوقون ، لتحرير أرض الكنانة اليوم ....حبيب عيسىE-mial:
[email protected]