صنعاءنيوز - شماعة النوايا
كان الناس في عصر النبوة وصدراً من زمن الخلافة الراشدة يعيشون في ظلال المنهج الرباني والسيرة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم. فكانت أعمالهم مثالاً لما تكنه صدورهم من إيمان ويقين وكانوا يتلقفون النص الشرعي وكأنه نور الشمس وضياءها فلا يرون في مقابله حاجة لأن ينظروا في أهمية التطبيق فالأمر مهما كانت درجته بين الوجوب والسنية يُعمل والنهي مهما تفاوت بين الكراهة والحرمة يُترك. حتى قال أنس بن مالك رضي الله عنه مبيناً بدهية هذه الفكرة في نفوس الصحابة وهو يخاطب الجيل الثاني من أجيال الخيرية في هذه الأمة " إنكم لتعملون أعمالا ، هي أدق في أعينكم من الشعر ، إن كنا لنعدها على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من الموبقات ".
فما زال الزمان يطلعنا على من يفرق بين النص والعمل به حتى أصبحَت كثيراً من النصوص محط جدل ونظر. وأصبحنا نقرأ ونرى ممن لا يعرفون قراءة قصار السور الجدل والنقاش في تنزيل هذه النصوص وكأنهم في لباس الأئمة الأعلام من أمثال أحمد والشافعي ومالك وأبو حنيفة. حتى أثمر هذا النقاش تركاً للعمل فأصبح الكثيرون يسألون لما يصل لأسماعهم نص أمر هل هذا أمر للوجوب أو السنية؟ وإذا سمعوا نص التحريم صعد النقاش بأن النص للكراهة لا لتحريم. فظهر لنا أناسٌ قد استباحوا كثيراً من النواهي بحجة الكراهة وآخرين تركوا كثيراً من الأوامر بحجة السنية. وما علموا أنهم وإن لم يتجاوزوا الحكم الشرعي إلا أنهم تجاوزوا النصيحة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم حينما قال " الحلال بين ، والحرام بين ، وبينهما مشبهات لا يعلمها كثير من الناس ، فمن اتقى المشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات : كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه " ونسوا في أوامر أن الإنسان قد يحتاج في يوم العرض لحسنة ترجح ميزان أعماله فينتقل بها من أهل النار إلا أهل الجنة.
وقد أثمر هذا الفكر مع تطور انحرافه عودة الكثيرين لما كان عليه الإرجاء القديم فقالوا بألسنتهم بعد أن قالت جوارحهم أن الإيمان في القلب وأن المهم صلاح النية وصفاؤها أما العمل فهو تبع ويكفي لدخول الجنة أن يكن المرء في قلبه حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وإن فعل ما فعل من الموبقات. ونسي أن النية في عقيدتنا لا تكفي لصلاح العمل وقبوله وإلا لكان كثير من أهل الأهواء والبدع في منزلة الصحابة الأخيار فكلهم يريدون القرب من الله وكلهم يريدون النجاة من الجنة. ولكن هؤلاء سلكوا ما سلكه بعض الصحابة جهلاً بأن حرموا على أنفسهم ما لم يحرمه الله وكلفوا أنفسهم ما لا يطيقون فما كان من المربي الأول صلى الله عليه وسلم أن عالج هذا الأمر من أوله حتى قال مهدداً لمن تبع هذا السبيل " فمن رغب عن سنتي فليس مني" لأن شرطي العمل في عقيدتنا نية صالحة تتبعها عمل سليم على منهج النبي صلى الله عليه وسلم.
فخرج لنا من يصوم الاثنين والخميس ويسهر في ليلتيهما على الأغاني الهابطة والأفلام الوضيعة. وسمعنا عن من يتعامل بالربا وهو يقرأ في القرآن في وقت استراحة الظهيرة "الّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاّ كَمَا يَقُومُ الّذِييَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنّهُمْ قَالُوَاْ إِنّمَاالْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَا وَأَحَلّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرّمَ الرّبَا فَمَنجَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رّبّهِ فَانْتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَىاللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـَئِكَ أَصْحَابُ النّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ" ورأينا آخرين يدعون العمل للدين وهم في عملهم يمارسون المحرمات من الاختلاط والتمايل بين الجنسين.
فما هي نتائج هذا الانحراف على أفراد الأمة؟
إن من أكبر الأمور التي نالتها الأمة بسبب هذا الفكر المنحرف أن شاعت أمارات الفجور والعصيان وأصبح الكثير من شباب وشابات الأمة يمارسون المعصية من غير ألم يصيب القلب بل أصبح كثيرون ممن قد غرق في المعاصي يرى نفسه أن بينه وبين الجنة أن تخرج الروح من الجسد. ولو فتشت في أعماق هؤلاء لوجدت أن بها نية وحب للخير ولكن للأسف من دون عمل وتطبيق وإن حصل عمل فلا تجد له أثر في القلب والله عز وجل يقول في أثر العمل على القلب والجوارح " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر".
ومما حل بالأمة جراء هذا الفكر أن ضعفت الرغبة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك إما بسبب قناعة المنكِر أو المنكَر عليه بهذه الفكرة. فالمنكر لا ينكر لأنه يقول بأن الرجل صحيح أنه وقع في الخطأ ولكن القصد صالح وشريف ولم يرد إلا الخير والنفع وخدمة الدين وأنه قد يكون وقع في هذه المعصية لكي يحبب الخير للناس فنقول له كما قال الشاعر
أمطعمةَ الأيتام من كدِّ فرجها *** لكِ الويلُ لا تزني ولا تتصدقي
فآيات الله وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم التي ذكرت فيها الفضائل العظام لمن عمل الخير وقدمه كفيلة لأن تحبب من في قلبه حب للدين والعمل له. وما كان الله لينصر الدين بما نهى الأمة عنه وإلا لكن هذا عين التناقض وعلامته.
أما المنكر عليه فإن جاءه من ينكر فإنه يسارع بإلقاء مقطوعة مؤثر في أن قلبه أبيض وهدفه صالح وأن نيته طيبة وأن الإيمان في القلب وأن الأهم اللب ولا تلتفت للمظهر. فهذا يرد عليه بأن الحب الله ورسوله لم يكن شافعاً لمن شرب الخمر من أن يجلد ويقام عليه الحد ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال "أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله ، وكان يلقب حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب ، فأتي به يوما فأمر به فجلد ، فقال رجل من القوم : اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( لا تلعنوه ، فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله )"
ومما لقيت الأمة من هذه الفكرة أن أصبح كثير ممن يدعون إلى الله يطبقون قاعدة الغاية تبرر الوسيلة. فشذبت اللحى فيما هو أكثر من القبضة وتوسع في السماع للمعازف وأصبحت مصادقة المنافقين علامة للانفتاح وتقبل الرأي الآخر. بل والأسوأ من هذا كله أن أصبحت سهام بعضهم تصوب على أهل الخير وأخطاءهم أكثر من أهل الباطل وفظائعهم وذلك بحجة النقد المنفتح وتصحيح الأوضاع الداخلية للصحوة وما علم بأنه أصبح بهذا الأمر أداة هدم لما قد ساهم في بناءه فيما مضى.
هذا غيض من فيض وإلا فويلات هذه الفكرة أكثر من تسعها هذه المقالة ولكن يكفي للدلالة على الطريق أثر المسير ويكفي عن رؤية الرياحين شم الشذا.
نسأل الله أن يثبتنا على الحق ويدلنا عليه وأن يصلح نياتنا وأعمالنا وأن يختم بالصالحات آجالن |