صنعاء نيوز/ بقلم: عمر دغوغي الإدريسي صحفي وفاعل جمعوي -
هناك وحدات تكميلية لابد للمتعلم من التعرف عليها ، وهي بمثابة علوم عقلية تأتي بعد تحصيل العلوم النقلية، كالإلمام بالمنطق والتوقيت والحساب والفلسفة.
ومن ثم تتميز هذه المدارس العتيقة بأصالة المحتويات، وجدية التعلم، والعمق في الاستيعاب، ومناقشة المسائل، والتنوع في الوحدات الدراسية، والنزعة الموسوعية في تحصيل مجموعة من الفنون والعلوم والمعارف، والاعتماد على الشرح والحفظ والتلقين والإفهام. وبالتالي، ترتكز برامج هذه المدارس بصفة عامة على " الحوم حول الدين: قرآنا وحديثا وفقها وأصولا وعقيدة، والعناية بعلوم اللغة العربية، باعتبارها وسائل ضرورية لفهم الدين، وإدراك مقاصد مصدريه الأصليين: القرآن الكريم، والحديث الشريف، والتركيز على الأخلاق وتطهير النفس من الرعونة والأدران.
وتتمثل منهجية التدريس في المدارس العتيقة في شرح المسائل الشرعية واللغوية والكونية شرحا مستفيضا، مع تفريعها استنباطا واستطرادا وإسهابا وتقعيدا، بالاعتماد على الشواهد القرآنية والحديثية واللغوية، واستقراء الوقائع التاريخية والدينية والواقعية والعقلية والإخبارية والسردية والعرفانية لتوضيح الدرس وتعميقه، ولا ينتهي العالم من باب معرفي حتى ينتقل إلى باب آخر، ليشبعه درسا وفحصا وتمحيصا إلى أن يمل طلبة العلم، ويوشكون على الانصراف.
وإليكم منهجية موسى العبدوسي في التدريس والإقراء والتعليم بجوامع فاس ، وهو من كبار علماء العصر المريني، ومن جهابذة رجال الفكر وفطاحل الفقه وعلوم العربية، وكان له صيت كبير في المغرب والمشرق على حد سواء" إذا قرأ المدونة فاستمع لما يوحى : يبتدئ في المسألة من كبار أصحاب مالك، ثم ينزل طبقة طبقة حتى يصل إلى علماء الأقطار من المصريين والأفريقيين والمغاربة والأندلسيين وأئمة الإسلام وأهل الوثائق والأحكام حتى يكل السامع وينقطع عن تحصيله الطامع، وكذا إذا انتقل إلى الثانية وما بعدها، هذا بعض طريقته في المدونة.
وأما إذا ارتقى الكرسي، يعني كرسي التفسير، فترى أمرا معجزا ينتفع به من قدر له نفعه من الخاصة والعامة، يبتدئ بأذكار وأدعية مرتبة، يكررها كل صباح ومساء يحفظها الناس ويأتونها من كل فج عميق، وبعد ذلك، يقرأ القارئ آية فلا يتكلم شيء منها إلا قليلا، ثم يفتتح فيما يناسبها من الأحاديث النبوية، وأخبار السلف وحكايات الصوفية وسير النبي وأصحابه والتابعين ثم بعدها، يرجع إلى الآية وربما أخذ في نقل الأحاديث فيقول الحديث الأول كذا والثاني كذا والثالث كذا إلى المائة فأزيد، ثم كذلك في المائة الثانية، والشك في الثالثة.
ثم قال:" وكذلك فعل في إقرائه للعربية، فبدأ بأصحاب سيبويه، ثم نزل إلى السيرافي وشراح الكتاب وطبقات النحويين حتى مل الحاضرون وكلوا،ومازال كذلك حتى ذهبوا ولم يراجع في ذلك، وقد كان قصدهم اختباره وامتحانه.
وكان العلماء المغاربة يتتبعون عدة طرائق تربوية في التدريس، يمكن حصرها في الطرائق البيداغوجية السبع التالية:
الطريقة المعجمية الاصطلاحية التي تعتمد على شرح النصوص، وفك غموضها ومبهماتها دون زيادة؛ لأن الزيادة تضر بالمتعلم كما هي طريقة محمد بن عرفة (توفي سنة803هـ) في القرن الثامن الهجري ، وكان يترك للمتمدرس حرية استنتاج ما يمكن استنتاجه.
الطريقة العراقية التي تتكئ على المنهج العقلي في مناقشة النص، وتصنيف معلوماته، والبحث في الأدلة والقياس والبراهين الحجاجية، دون الاهتمام بتصحيح الروايات أو الوقوف عند معاني الألفاظ على طريقة القيروانيين في تدريس المدونة.
الطريقة القيروانية التي تستند إلى المنهج النقلي في التعامل مع النص، إذ تهتم بالدراسة النحوية الإعرابية والمعجمية، ثم تطبيق منهج الجرح والتعديل في نقد الروايات سندا ومتنا، و التعرض لرجال السند وأخبارهم.
الطريقة المغربية المعروفة لدى القاضي عياض في القرنين الخامس والسادس الهجريين، وكانت تجمع بين الطريقتين العراقية والقيروانية أي: بين المنهج العقلي والمنهج النقلي
الطريقة الفاسية نجدها في القرن السابع الهجري مع عبد العزيز العبدوسي (توفي سنة 937هـ) الذي كان ينطلق من المدونة أساسا للدرس، وإثرائه مما قيل في الموضوع المدروس من المؤلفات الفقهية الأخرى.
وقد طبق هذه المنهجية في تدريس ألفية بن مالك التي جعلها منطلقا لدراسته اللغوية، فيستعرض آراء النحاة طبقة طبقة إلى أن يصل إلى العلماء المتأخرين، سواء أكانوا في المشرق أم في المغرب.
وممن اشتهر بهذه الطريقة الشيخ ابن غازي محمد القوري(توفي سنة782هـ). يقول أحد تلاميذه عن مجلسه:" بأنه كثير الفوائد مليح الحكايات، لازمته في المدونة أعواما، ينقل عنها كلام المتقدمين والمتأخرين من الفقهاء والموثقين، ويطرز ذلك بذكر موالدهم ووفياتهم وحكاياتهم وضبط أسمائهم والبحث في الأحاديث المستدل بها في نصرة آرائهم فمجلسه نزهة للسامعين.
الطريقة الأندلسية التي تنبني بشكل واضح على التقييدات والشروح والاختصارات، وتسمى هذه الكتب بالطر أو التقييد على المدونة، وقد قيدها الطلبة في حلقات أشهر الأساتذة كأبي الحسن الصغير(ت719هـ)، وأبي زيد عبد الرحمن الجزولي (ت714هـ)، وغيرهما، وكانت هذه الطريقة معروفة لدى الأندلسيين في القرن السادس الهجري، وانتقدها ابن العربي بشدة، وهي طريقة مناقضة لفكرة المختصرات، وهذا ما يفسر معارضة بعض المغاربة في القرن 8هـ للمؤلفات المختصرة في عدة علوم كمختصر خليل في الفقه مثلا.
الطريقة الحديثة التي تجمع بين مواصفات المدرسة السلفية العتيقة من جهة (المدرسة في العهود المغربية الماضية)، ومواصفات المدرسة العصرية من جهة أخرى، من خلال الانفتاح على اللغات الأجنبية والعلوم الحديثة.
وعلى العموم، فقد كانت الطريقة المغربية والطريقة الأندلسية في التدريس تتطلبان من المتعلمين سنوات عديدة من عمره للتحصيل والإحاطة بجميع آراء العلماء مهما كانت طبقاتهم ومستوى معارفهم.
ويقول محمد أسكان في كتابه( تاريخ التعليم بالمغرب خلال العصر الوسيط):" غير أن طريقة استعراض كل ما ذكر في المسائل الفقهية من أقوال الفقهاء المتقدمين والمتأخرين وفي مختلف الأقطار الإسلامية يجعل استيعابها على الطلاب صعبا ويتطلب وقتا طويلا، وهذا ما يفسر جزئيا طول المدة الدراسية التي يقضيها الطلاب، في القرن 8هــ، بسكنى المدارس بفاس التي كانت تصل في المعدل إلى 16 سنة، وهي مدة أطول بكثير من المدة التي يقضيها الطلاب بمدارس تونس التي كانت لا تتعدى خمس سنوات، وإن كانت قد تقلصت إلى مثل هذه المدة في بداية القرن 10هـ حسب شهادة الوزان.
أما على مستوى لغات التدريس والتلقين، فكان الفقهاء يستعملون الفصحى والعامية المغربية واللغة الأمازيغية في قبائل سوس والريف والأطلس المتوسط، كما كانت بعض الكتب الدراسية تؤلف أو تترجم إلى الأمازيغية وتدرس بها، مثل: كتب الفقه كرسالة أبي زيد القيرواني، ومختصر خليل، وشرح البردة وغيرها.
يتبع...
[email protected] https://www.facebook.com/dghoughi.idrissi.officiel/