صنعاء نيوزم بقلم / أحمد عبدالله الشاوش -
-
وأخيراً رحل شيخ مدينة العلم وجفت روافد الفقه وجداول الفكر وبحار المعرفة ومحيط مكارم الاخلاق ، برحيل العلامة الجليل والمجاهد الكبير المجتهد ، نقي السريرة ، المؤمن ، الزاهد ، التقي ، الورع ، السيد حمود بن عباس المؤيد ، زينة علماء اليمن ، المولود سنة 1336 ه عن عمر ناهز الثالثة بعد المائة ، منتقلاً الى الفردوس الأعلى بين الأنبياء والصديقين والشهداء .
رحل العلامة حمود عباس المؤيد الى الرفيق الأعلى بعد ان سلك الطريق القويم بالحجة الدامغة والدليل القاطع والكلمة الطيبة والنصيحة الهادفة والغاية السامية ، مكملاً الأمانة في نشر تعاليم الإسلام الفاضلة التي مثلت غذاء الروح وبوصلة الحق بعد ان تخرجت على يديه كتائب القرآن وقوافل السنة ، جيلاً بعد جيل حاملة مشاعل الثقافة القرآنية وسيرة المصطفى عليه السلام ، بعد أن عمت الفوضى وتفرق العلماء وصار الناس فرقاً وشيعاً وجماعات بافتقاد الحكمة وغياب العقل وكثرة الهرج والمرج ، وتاه اليمانيون والعرب والمسلمين في الدينار والدولار والجدل السياسي والفكري العقيم .
ورغم الفراق المؤلم والمصاب الجلل والخسارة الفادحة والقلوب الحزينة المعتصرة ألماً وكمداً والغياب الكبير الذي أحدثه حجة الإسلام في الساحة المحلية والإقليمية والدولية ، إلا ان ايماننا القوي بقضاء الله وقدره يجعلنا أكثر الناس رضاء بالخاتمة الحسنة التي أرتقى فيها عالمنا الجليل الى جنات النعيم بإذن الله تعالى.
غياب هذا الشيخ الجليل الذي نهل من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم وجسد نهج الامام علي بن ابي طالب كرم الله وجهة بالجنة وريحانتي رسول الله الحسن والحسين رضوان الله عليهم ، وصحابته أجمعين والتابعين وغيرهم من العلماء الاجلاء ، الذين حافظوا على أصول الدين ومنظومة القيم الإسلامية وساهموا في هداية الامة وتهذيبها وتوجييها الى الرشاد ، أحدث لنا خسارة فادحة ، لاسيما بعد ان تحول السواد الأعظم من العلماء إلى سياسيين ومجرد ببغاوات ناطقة لإصدار فتاوى الفتنة بثمن بخس .. ورغم ذلك الغياب الكبير نسأل الله تعالى ان يعوض الامة الإسلامية برجل يحبه الله ويرضاه وعلى ذلك النهج من طلبته الذي تشربوا من علمه الغزير لسد الفجوة ووأد الفتنة وهداية الناس بالعلم النافع .
ولكل تلك السجايا العظيمة لانزال وسنظل نتذكر تلك السيرة العطرة التي رواها لنا بعض العلماء والرجال الصالحين الذين لازموا السيد حمود عباس المؤيد منذ نشأته الأولى بصنعاء وتلقيه العلم على يد أخيه عبدالله بن عباس المؤيد المشهود له بالعلم والتقوى والسيد هاشم مرغم ووالده حسين ، ثم انتقل في التاسعة من عمره الى عالم في ظليمة حاشد السيد محمد أبو راويه ، و قرأ لديه القرآن، وتغيبا ملحة الإعراب، ومتن ابن الحاجب وبعد ثلاث سنوات عاد الى صنعاء وأستمر يشق مسيرته العلمية الى الجامع الكبير بصنعاء لتلقي العلوم الشرعية وحفظ القرآن والتفسير والفقه والفرائض والحديث وعلم الكلام والفصحى وكل مايتعلق بالعبادات والمعاملات والحديث والعلوم الشرعية ، حتى ذاع صيته في الافاق ، وأصبح متفرداً في فنون الخطابة والالقاء والإرشاد و البيان والافتاء ، كما تميز بطهارة القلب ، وغنى النفس ، وحسن النية ، ولباس التقوى ، والتواضع ورجاحة العقل والحُلم النبيل والتواضع الجم والصبر الكبير والموعظة الحسنة والحياة البسيطة والبعد عن التكلف والغرور ، ونزوات الشياطين ، ورغم أملاكه الكبيرة ، إلا انه انفق جلها في بناء المساجد وتوزيعها على الفقراء والمساكين وطلاب العلم .
مازلت أتذكر أنا وأخوتي أيام الطفولة عندما سكنا في حارة الطبري بصنعاء منذ مايقرب 35 عاماً أو يزيد ، كنا نذهب الى مسجد النهرين لأداء الصلوات الخمس وملازمة الدروس الدينية التي كان يلقيها على طلبة العلم وغيرهم في حلقات بصورة يومية صباحاً عند الأستاذ أحمد الثور ثم الأستاذ يحي العمراني ، ومن الساعة الخامسة عصراً الى قبل اذان المغرب مع السيد حمود عباس المؤيد وكان من يحفظ شيء من القرآن او الحديث يعطى جائزة بعض الشكليت والمليم المعسل الذي يشتريه بعض الخيرين من دكان هاجر أمام المسجد لتشجيع طلبة العلم ، ومابين صلاة المغرب والعشاء حلقة أخرى لتلاوة القرآن ،، ومن بعد صلاة الفجر مع الشيخ محمد حسين عامر والأستاذ سعيد حتى شروق الشمس في قراءة القرآن والتلاوة والتجويد وبعض العلوم الشرعية في شكل حلقة بعيدة كل البعد عن السياسة والمذهبية والحزبية والتغرير والتدليس ، ولا ننسى فضل العالم الجليل في علم الكلام السيد محمد المنصور.
سنظل نتذكر تلك الشخصية العظيمة وذلك الملاك الأبيض الذي يشع نور من أثر السجود ، وزينته عند كل مسجد بالعمامة البيضاء والثوب الأبيض والكوت الأبيض والسواك الذي لا يفارق فيه ، ومازلنا نتعجب من الذاكرة القوية وقوة البصر والبصيرة ، وقراءته للمصحف الشريف الذي لا يتجاوز الكف الصغير دون نظارة ، وكلامة المتزن وابتسامته الهادئة وتفقده للأسر الفقيرة سراً وتقسيم الصدقات والزكاة والمسح على رؤوس الايتام والسؤال عن الغائب وزيارة المريض والوقوف مع المعسر ، وتشجيع الأطفال الالتحاق بالمدارس الحكومية ومجالسة العلماء.
وتمر الأيام والشهور والسنين وينتقل العلامة حمود عباس المؤيد الى مسجد الشوكاني بشارع القيادة في صنعاء خطيباً ليوم الجمعة ويؤم بالمصلين ويلقي الدروس لطلاب العلم ، ويزدهر الجامع ويزداد المصلين وطلبة العلم ، ثم ينتقل شيخنا الجليل الى منزله في حي الجراف شمال صنعاء لإكمال رسالته الدينية والعلمية والأخلاقية والوطنية والإنسانية، وأحياء مسجد عرهب بإقامة الصلوات والقاء الدروس وارشاد الناس .
وفي ظل خطب بعض علماء الإسلام السياسي التي شحنت المجتمع بالبغضاء والعداوة نتيجة للخطاب الديني الغير معتدل ، حافظ شيخنا الجليل على الاستمرار في أداء الرسالة السامية والالتزام بالخطاب الديني الأكثر استقامة ، فكانت خطب يوم الجمعة هادفة ومؤثرة يُخيل لمن حظرها انه يعيش عبق الصدر الأول للإسلام لبلاغتها وصدقها ونفحاتها الايمانية ودعوتها الى التسامح والتعايش والتكافل والصدق والأمانة والتآخي والتآزر والاعتدال والتذكير برعاية الايتام وزيارة المريض واحترام الجوار ونصرة الحق والحفاظ على مكارم الاخلاق والتذكير بالموت والعمل قبل الموت والاخلاص واخذ العبر والبعد عن الشقاق والنفاق والكذب والفجور والتطرف والوفاء والعقود والعهود وحب الوطن ...
لازلت أتذكر القناعة والزهد والايثار وطيبة القلب والغرفة الصغيرة والفردة الزعل التي يجلس عليها شيخنا الجليل في منزله بحارة الطبري بكل تواضع ورضاء وبشاشة لاستقبال الناس وإصدار الفتاوى الشرعية والرد على أسئلتهم برحابة صدر، وكم كنت اتلمس تلك البساطة كلما سنحت لي الفرصة للدخول مع أخي وصديقي العزيز "عبدالخالق " نجل العلامة حمود عباس المؤيد عندما كنا ندرس في الابتدائية بمدرسة الطبري المقابلة لمنزل العلامة ، كما لا أنسى فضل الدكتور علي المؤيد واخلاقه السامية عندما كان يراجع لنا دروس التقوية في مادة الرياضيات للصف السادس الابتدائي قبل الاختبارات تطوعاً.
أخيراً .. ماكان العلامة حمود عباس المؤيد محسوباً على أي حزب حتى لوكان ظيف شرف في أحد المؤتمرات من وجهة نظري وحسب معرفتي ، ولم يلتفت يوماً ما لقراءة صحيفة حكومية او حزبية أوغيرها ، سوى كتاب الله وسنة نبية محمد صلى الله عليه واله وسلم والصوات الخمس والادعية المأثورة والتنقل في حدائق الفقة وكافة العلوم الشرعية ....
ان العين لتدمع والقلب ليحزن وانا لفراقك ياشيخنا الجليل لمحزونين ..
نم قرير العين في جنة الخلد ياعلم الامة ، لان الموت حق وكل نفس ذائقة الموت ولكل أجل كتاب.