صنعاءنيوزد. نضير الخزرجي -
دلت التجارب البشرية أن الفكرة أو النظرية أو المعتقد لا يمكن فرضها على مجتمع أو أمة تحت أسنة الرماح وبمخالب العنف، لأن القبول بأي معتقد وبالإكراه وفي مقطع زمني سيؤول بعد فترة ولو طالت إلى ردة ربما أشد من صدمة القبول الأولي المرغم، فالإنسان لا يمكن قسره على الإيمان بشيء إذا لم يتقبله طواعية حتى وإن كانت الغلبة العددية لأصحاب الفكرة، ولذلك امتنع الرسول محمد (ص) على إدخال الناس في دين الله تحت حد السيف رغم الضغوطات التي مارسها بعض الصحابة بعد أن ازدادوا عدةً وعدداً لإعمال القوة وجر الناس إلى الدين الجديد، فما لم يقدره الخالق لنفسه رغم خالقيته للبشر فمن باب أولى لا يقدِّره لنبي أو مرسل أو إمام، فشعار الجميع هو الإصلاح، والإصلاح لا يأتي بالقهر وإن أتى فهو إيمان مهزوز قابل للتبخر عند رفع غطاء القهر.
ودلت التجربة أيضا أن المجتمع الذي يتقبل فكرة وإن أتته من خارج محيطه الجغرافي والبيئي، يكون شديد الحرص على التمسك بها والدفاع عنها والترويج لها، لان القناعة بالفكرة والإيمان بها من أقوى الدفاعات الأمامية في حرب الأفكار والمعتقدات التي يشنها الآخر العقيدي، فربما أصاب الترهل المجتمع الذي انبثقت فيه العقيدة ولكن تبقى مجتمعات الأطراف أو المتوزعة هنا وهناك والمتوحدة عقيديا مع المركز هي الحارسة له لا بالتبع والعمالة كما هو في المفهوم السياسي السائد وإنما لإيمان متجذر في النفوس تقبلته المجتمعات البعيدة عن وعي وإدراك، ومن يؤمن بعقيدة يدافع عنها وإن كانت الممارسات في جانب منها لا تتوافق مع أصل المعتقد.
وحينما يتم الحديث عن الوجود الإسلامي في الأميركيتين الشمالية واللاتينية تتوضح بجلاء صورة الإسلام الذي غزا القلوب تحت سنابك خيل الإيمان الطوعي، وكلما تعرفت الشعوب الأميركية على حقيقة الإسلام انشرح صدرها له، لأن الإنسان بطبعه ميال إلى القوة التي تنتشله من واقعه المرير ممزوجا بإحساس دفين إلى التكامل والرقي ونيل أعلى مثل وقيم مكارم الأخلاق، وهذه المثل المتصلة بسبب بين الأرض والسماء يجدها المرء في تعاليم الإسلام.
ولا شك أن لحركة هجرة المسلمين نحو الأميركيتين في القرون الماضية الأثر الكبير في نشوء مجموعة مسلمة زحفت عقائدياً وسلمياً على السكان الأصليين، وهذه الحركة نجد بعض تفاصيلها في الكتاب الذي صدر حديثا عن "بيت العلم للنابهين" ببيروت في 64 صفحة من القطع المتوسط للدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي بعنوان "الإسلام في الأرجنتين".
هجرات قسرية وطوعية
يعود وجود المسلمين في الأرجنتين (بلاد الفضة) إلى العهود الأولى لاكتشاف القارة الأميركية، ويرى البعض أن الأندلسيين المسلمين الذين تنصَّروا قهرا بعد سقوط الأندلس عام 1493 م والذين يسميهم الإسبان بالمورسكين هم أول المهاجرين المسلمين إلى الأرجنتين، وتعرضوا فيها لما تعرض له إخوانهم في الأندلس ولاسيما وأن الأرجنتين كانت واقعة تحت سلطة الإسبان، وفيما بعد جرت هجرات لمسلمين وعلى مراحل وبخاصة من بلاد الشام كان أصحابها في معظمها يبحث عن الأمن والإستقرار، وشهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي هجرة كبيرة للعرب من سوريا وأعقبتها هجرة ثانية في النصف الأول من القرن العشرين الميلادي وازدادت أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها على أن معظم المهاجرين هم من العرب المسيحيين.
ولا شك أن بعض المهاجرين ذهبوا بحثا عن الأمن الإقتصادي، وبشكل عام فإنه ووفق احصاءات سنة 1960 م كما أشار الدكتور الكرباسي، فإن: (10% من الأرجنتينيين العرب هم مسلمون، وتذكر المصادر نفسها أن 60% من الشباب من الجيل الثاني لم يعد يمكنهم التكلم باللغة العربية، وإن 10% من الجيل الثالث يمكنهم التحدث باللغة العربية، واختفت الصحف العربية من الساحة الأرجنتينية بعدما كانت رائجة وانحصرت الهوية الإسلامية بالبيوت).
وليس هناك إحصائية ثابتة حول عدد المسلمين في الأرجنتين، فبعض المصادر تقدرها بنحو 900 ألف مسلم أي 2,5% من مجموع السكان البالغ عددهم أكثر من 37 مليون، يعيش الكثير منهم في العاصمة، لكن بعض المراجع الإسلامية المهتمة تقدر عدد العرب من المسيحيين والمسلمين بنحو مليون معظمهم من سوريا، وبعضهم يصل بالعدد إلى 3,5 مليون خُمسهم يعيش في العاصمة بوينس آيرس ومنهم 200 ألف من المسلمين، ولكن من الثابت أن حركة إقامة بناء المساجد والجمعيات بدأت تزداد ولكن ببطئ.
ومن الملاحظ في حركة المهاجرين إلى الأرجنتين أن هجرة العرب مسلمين ومسيحيين من بلاد الشام انقطعت بشكل عام، وفي المقابل كما يقول المؤلف: (تدفقت أعداد كبيرة من المسلمين الباكستانيين والبنغال والهنود إلى هذه البلاد فقلبت الموازين فأصبحت نسبة المسلمين غير العرب بالنسبة إلى العرب 55%)، وكان للوجود الإسلامي الكبير دافعه في حمل السلطات الأرجنتينية المستندة في قواعد الحكم إلى الديانة الكاثوليكية على إصدار قانون يتيح للمسلمين الحصول على عطل رسمية لعيدي الفطر والأضحى والسنة الهجرية، كما سمحت الحكومة بتقييد الأسماء الإسلامية للمواليد الجدد في سجلات الدوائر الرسمية، وهنا يصرح الداعية محمد يوسف هاجر رئيس المنظمة الإسلامية لأميركا اللاتينية والبحر الكاريبي التي تضم 33 دولة انه تحمل المشاق كي يختار لوليده اسم "حسين"، وقد تمكن من ذلك بعد بذل الجهود المضنية. وقد سمحت السلطات ابتداءاً لخمسة عشر اسماً إسلاميا ثم ارتفع العدد إلى ثلاثين إسماً.
ومن الواضح أن الرئيس الأرجنتيني الأسبق السوري الأصل والمسلم الأصل والكاثوليكي فيما بعد الرئيس كارلوس منعم المولود عام 1930 م ساهم في توطيد العلاقات الأرجنتينية والعربية وفتح المجال أمام المهاجرين وبخاصة العرب وفي عهده (1989- 1999 م) تم وضع حجر الأساس لأكبر مسجد في العاصمة وافتتح عام 1999 م. ويُذكر أن الدستور الأرجنتيني نص عام 1853 م على أن مرشح رئاسة الجمهورية ينبغي أن يكون مسيحيا من المذهب الكاثوليكي، ولكن الفقرة تم تعديلها عام 1994 وأُسقط شرط المذهبية.
لمَ التحول؟
تعد الأندلس بعد السقوط أبرز حالة شهدتها البشرية تم فيها قسر الناس على تغيير دينهم تحت مطرقة محاكم التفتيش، ولو تركت الجيوش الأوروبية مسلمي الأندلس وشأنهم لآختلف الأمر كليا، لأن الناس بشكل عام تقبلت الإسلام طواعية وبخاصة وأنه جاء مكملاً للأديان السماوية ولم يكن ملغياً لها أو معاديا، بل ترك أصحاب الأديان وشأنهم تحت قاعدة قرآنية مُحكَمة (لا إكراه في الدين) سورة البقرة: 256.
من هنا فإن التعرف على الإسلام وقراءته من جديد يفتح الآفاق لدى الآخر تقبلا أو إيمانا، وينقل الدكتور الكرباسي عن استبيان أعدته جامعة جورج تاون (georgetown university) الأميركية عام 1998 م لمجموعة شباب تتراوح أعمارهم بين سن 9 و20 سنة خلصت فيه أن 8% من مواطني أميركا اللاتينية ومن ضمنها الأرجنتين اعتنقوا دينا آخر غير دين عائلاتهم الأصلي، ومن ضمن المتحولين فيهم نسبة عالية اختاروا الإسلام.
ولكن لماذا نشهد التحول من المسيحية إلى الإسلام في القارتين الأميركيتين؟
يعزو الدكتور الكرباسي ذلك إلى أسباب عدة أهمها:
أولا: إن الإسلام لا يعترف بالفوارق العرقية.
ثانيا: إن الإسلام يؤمن بالأنبياء السابقين على الرسول (ص) وبخاصة النبي موسى (ع) والنبي عيسى (ع) ويحترمهم.
ثالثا: إن أصولهم إسلامية اعتنقوا الإسلام بملء إرادتهم، وتخلى الأحفاد عن الإسلام بالإكراه والعنف.
رابعا: إن الإسلام يربط الإنسان بخالقه مباشرة دون الحاجة إلى اللجوء إلى وساطة الكنيسة.
خامسا: إن المسيحية ترى بأن المسيح إله وهذا أمر يعتبرونه غير معقول.
سادسا: إن المسيحية تقول بالتثليث وهو أمر لا يصدق.
سابعا: إن القوانين الإسلامية أقرب إلى الفطرة والعقل.
ثامنا: إن الإسلام يرفض فرض العقيدة على الإنسان.
تاسعا: إن الإسلام سنَّ قانون المساواة ورفض كل الفوارق الإجتماعية.
عاشرا: إن الإسلام يفتح باب الحوار والمناقشة دون حدود.
شاهد من الواقع
ولكن لماذا هذا التحول من دين سماوي إلى آخر؟
هذا التساؤل يجيب عليه النائب السابق في المجلس النيابي الأرجنتيني عن حزب الحركة الإشتراكية ممن كان يبحث عن الحقيقة الضائعة منذ عام 1979 م وأسلم عام 1982 م، وهو الأستاذ سانتياغو پاز بولرج (Santiago Paz Bullrich) المولود عام 1962 م في منطقة نورت (Barrie Norte) شمال العاصمة بوينس آيريس، الذي أصبح فيما بعد الشيخ عبد الكريم پاز، يقول في بيان سبب تحوله إلى الديانة الإسلامية: (التحقت بكلية الفلسفة بجامعة الأرجنتين لهذه الغاية، وذلك لأتعلم حكم الكون (الحكم الإلهي)، وفي السنة الثانية درست الفلسفة اليونانية وتعرفت على معنى التوحيد، وبعد ذلك التقيت بمدرس سوري لديه مركز إسلامي صوفي ونظرة عن الشيعة، هو في الأصل كان علوياً، وبعد أن تعرفت على الفرق بين التشيع والتصوف، بان لي أن التشيع هو طريق الإسلام الصحيح).
ويضيف الشيخ پاز المولود في أسرة كاثوليكية أمًّا وأباً: (في السنة الثانية من دراستي الجامعية توجهت للغرض ذاته إلى مسجد التوحيد في العاصمة وهناك التقيت بالمسلمين الشيعة والذين كانوا من أصول أرجنتينية ومن مهاجرين لبنانيين وسوريين من العلوية والإثني عشرية بالإضافة إلى إيرانيين، وهنا توضحت لي الصورة، وحتى تكتمل سافرت إلى مدينة قم بعدما حصلت على شهادة الماجستير، فاكتملت الصورة عندي بشكل واضح ومقنع، فالتحقت بالحوزة العلمية لكسب المعارف ولازلت).
ولقد عوّد البحاثة الدكتور الكرباسي قرّاءه على إشراك أعلام آخرين فيما يكتب وبخاصة في سلسلة كتب "الإسلام في .." وكما فعل في الصادر من هذه السلسلة على التوالي: "الإسلام في إسبانيا" من إعداد الفنان التشكيلي العراقي المقيم في مدريد الدكتور كاظم بن شمهود طاهر، "الإسلام في إثيوبيا" من إعداد الداعية الإثيوبي محمد سعيد بن إبراهيم آل أبي إمام، "الإسلام في بريطانيا" من إعداد الطبيب الإخصائي العراقي المقيم في لندن الدكتور علاء بن صاحب الحسيني، و"الإسلام في آذربايجان" من إعداد الداعية الآذربايجاني المقيم في دمشق الشيخ لطيف بن عاكف لطيف أف، فإنه عرض كتيب "الإسلام في الأرجنتين" على الشيخ عبد الكريم پاز مقدما ومعلقا ومعداً، إذ جاء في المقدمة في بيان أسباب التحول إلى الدين الإسلامي: (إن الإسلام هو النور الإلهي الذي يدخل قلب المرء دون استئذان إذا وجده مؤهلاً لذلك، هذا ما يشعره كل من استبصر بالإسلام حيث يجده دين الفطرة فليس فيه ما يخالف الفطرة أو العمل، ومن هنا فإنه يتماشى مع كل زمان ويمكن تطبيقه في كل مكان مهما اختلفت المفاهيم والعادات وبالتالي القوميات، ويصل لكل الأعمار والفئات).
ويقارن الشيخ پاز بين إسلام أهل المدينة وإسلام أهل الأرجنتين، فيرى أنه: (ما كان دخول الإسلام إلى الأرجنتين إلا كدخوله مكة والمدينة، فما أن عرف الآخرون فلسفة الحياة في الإسلام وبالأخص عن طريق الرسول (ص) وأهل بيته الأطهار (ع) إلا وانجذبوا لتلك الأفكار ذات الحيوية والفاعلية على جميع المستويات)، معبرا في الوقت نفسه عن أسفه لأن: (الإشكال يبقى مع الذي يجهل الإسلام وتعاليمه، وما على المسلم إلا العمل على إيصال الكلمة إلى غير المسلمين بل إلى المسلم الجاهل غير العامل بتعاليم دينه والذي أصبح كلاًّ على الإسلام والمسلمين).
وهذه حقيقة لمسها المستبصر الأستاذ سانتياغو پاز بولرج (Santiago Paz Bullrich) (الشيخ عبد الكريم پاز) المتزوج من الناشطة اللبنانية في المجالات الثقافية والإعلامية السيدة معصومة الأسعد، فالمسلم الذي يعيش في بلدان غير إسلامية ينبغي أن يظهر الإسلام بسلوكه قبل لسانه، كما فعل المهاجرون الأوائل الحبشة ومن بعد في اندونيسيا وماليزيا وغيرها، لأن الناس بشكل عام عقولهم في عيونهم، ولذلك فليس من الغريب أن يقر الأرجنتيني الأستاذ غارسيا المولود عام 1971 م والذي أسلم عام 1989 م واتخذ لنفسه اسم محمد عيسى، أن 60 في المائة من الأرجنتينيين الذين أسلموا تعرفوا على الإسلام من خلال مواقع وصفحات الشبكة البينية الدولية (الإنترنيت)، أي من خلال قراءة الإسلام قراءة فكرية وعقائدية.
إعلامي وباحث وأكاديمي عراقي، الرأي الآخر للدراسات بلندن
[email protected]