صنعاء نيوز/بقلم الشيخ: عبد الغني العمري الحسني. -
إن إدراك الأشياء على حقيقتها، لا يكون إلا للربانيين؛ لأن معرفة الحقيقة لا تكون إلا بالإذن. ولما جهل أهل الكفر وأهل الغفلة من المسلمين هذا، فإنهم أسلموا الرأي لحواسهم وعقولهم، وظنوا أنهم قادرون على ما يرومون؛ وهيهات!...
وإن من أصعب الأمور إدراكا، وأشدها غموضا، أقربها إلى العباد وألصقها بهم؛ ومن ذلك المكان والزمان. فالمكان (من المـَكِنَة)، وهو الأصل الذي يستند إليه المخلوق في الحس. وأثره على الإدراك لا يخفى، لأنه محيط مكتنف؛ لا يمكن الخروج عن حكمه إلا لأفراد هم أهل الإطلاق. والإطلاق لا يُتصوّر، ولا يُعلم إلا ذوقا.
ثم إن حقيقة المكان، التي تكاد تبلغ درجة الوجوب في نظر العقول الضعيفة، لا تخرج عن الإمكان. ومن هذا الباب نُطق السياسيين الكاذبين بعبارة "البقاء للوطن"... والإمكان مصحوب بالعدم على الدوام. ومع أن هذه الحقيقة مقررة لدى جل العقول نظريا، إلا أننا سنجد الأمر مخالفا لما هو عليه عمليا. ولا يشهد إمكان المكان (العالم)، إلا من كان ينظر بالله من العباد؛ وأما غيرهم، فإنهم لا يطيقون ذلك؛ وربما قد تذهب عقولهم، لو لاحت لهم لائحة منه.
إن كل ما ذكرنا، نريد منه أن القياسات العلمية والاستنتاجات، والتجربة والملاحظة، المعتمدة في معرفة العالم، وفي أحيان كثيرة في معرفة حقيقة العالم، كما يزعم الفيزيائيون وأهل الفلك وغيرهم، ليست إلا إمكانا في إمكان. والممكن حقيقته غير ثابتة، ولا يعطي إلا إمكانا علميا من سنخه؛ إذا توهم المرء يقينيته، فإنه يكون مجانبا للصواب، وواقعا تحت تحكم الوهم. وإن الإمكان الذي نتكلم عنه هنا، ليس الإمكان العقلي الذي قد تستوعبه العقول المحجوبة؛ وإنما هو الإمكان الشهودي، الذي تعده هذه العقول حقا وحقيقة.
وإذا كان إدراك المكان لا يتأتى لكل أحد، فكيف بالزمان الذي هو ألطف منه. والزمان ألطف من المكان، لأنه نسبة عدمية، ناشئة عنه؛ فكأنه بهذا إمكان الإمكان. ومع أن الزمان بهذا الغموض لدى العقول المحجوبة، فإنه يدخل في جل حساباتها، وكأنه أمر وجودي ثابت. وحتى الذين قالوا بعدمية الزمان، أو أشاروا إليها من الفيزيائيين، فإنهم يفعلون ذلك في عالم التجريد العقلي، ولا يتمكنون من مشاهدة ذلك في الواقع الحسي؛ لشدة غلبة ظلمة النشأة الطبيعية عليهم.
والنسبية التي يدخل الزمان في تعقلها، لم تكن لتصح لولا عدمية الزمان الأصلية. ومن يتأمل النسبية بجميع معانيها، لن يجدها تخرج عن الإمكان ذاته بوجه ما، والقابل أحيانا للتشعب والتسلسل والتعدد. وأما من يجعلها أساسا ثابتا، للعالم في ذهنه، فإنه سيكون كمن يريد أن يجعل الإمكان أساسا لإمكان ثان؛ وهذا من أشد الأمور مشقة على العقول. ولقد نبه الله تعالى إلى هذا، عبر مثلين ذكرهما لأعمال الكفار (الكفار هنا، هم من لا علم لهم بالحقيقة؛ والأعمال، يدخل ضمنها عمل عقولهم)، فقال سبحانه: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39]. والمعنى هو أن من لا علم له بالإمكان، فإنه يظنه وجودا تاما، ويبني على ذلك معتقداته (ومنها حساباته العلمية المجردة)، فإذا أماط الله له الحجاب، شاهد الوجه العدمي الذي للإمكان، وميزه عن الوجه الوجودي منه، والذي ليس إلا الله. فإذا صح منه هذا العلم، فإنه يعيد حسابه، ليعطي كل ذي حق حقه: الوجود لله، والعدم للصورة الإمكانية. ثم يقول الله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور: 40]، ليدل على أن معرفة الإمكان عن طريق التوغل فيه، لا يزداد المرء معها إلا بعدا. والسحاب المذكور، هو التجريد الذي يغلب على العقول، إن هي تمادت في النظر إلى الإمكان بنفسها؛ لأن العقل ذاته إمكان؛ والإمكان لا يُعلم من الإمكان، وإنما من الوجود؛ وهو الذي سماه الله نورا. فمن كان من الناس وجوديا، ذا نور، فإنه سيعلم ما ذُكر؛ وإلا فإنه سيُبعد في الظلمة، إلى حد تنكُّرِه لنفسه، من شدة الحيرة. وهذا هو ما يشير إليه قول الله تعالى: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]. فهل بقي لمن لا يرى يده، كلام عما هو أبعد منها؟!...
وأما القول بتقدم العقل في اتجاه خط الزمان حتما، فلا يصح؛ لأن من العقول التي سبقت في الزمان، ما يشهد بتقدمه في المرتبة، الخاص والعام. والكلام ليس مقصورا هنا على الأنبياء، الذين يُعدون طبقة لوحدهم عليهم السلام؛ وإنما يتجاوزه إلى من هم دونهم. وأما التقدم التقني الذي يتزايد مع الزمان، فإن له صلة بالمظاهر العامة المعاشية، لا بالعقول وحدها. وهذه المظاهر تعود إلى أصل في التجليات الإلهية، يخص عقولا بعينها من هذا الوجه، لا كل العقول.
وبما أن إدراك الواقع المحسوس، منوط في معظمه بإدراك المكان والزمان، فإنه بانحجاب العقل عن حقيقتيهما، سيُحجب تبعا لذلك عن حقيقة الحس نفسه؛ وهذا بخلاف ما تعتقده العامة من سهولة إدراكه. وهذا يعني في النهاية أن قليلا من العقول من تدرك العالم المحسوس على حقيقته؛ ويعني أيضا، أن الإدراك العقلي نفسه، لا بد أن يعود على الحس؛ وإلا فإنه يكون مقطوعا، لا فائدة منه.
ومن ينظر إلى مسيرة العقل المفكر، عند الكافرين، فإنه سيجده -رغم إنجازاته التي يتوهم أنها له حقيقة- لا يتمكن من التحكم في مآلات الأمور؛ وأنى له!... وإن العقل العربي المسلم، بسبب انهزامه المرحلي أمام العقل الغربي، لم يخن نفسه فحسب، وإنما هو قد خان نظيره الآخر أيضا، لإقراره له على ما هو عليه، من غير تبيين للشروط وللنتائج، كما هي بالتفصيل.
ورغم أن العقل العربي -كما كان زمن الغزالي- قد كان منارة يُهتدى بها؛ إلا أنه في الأزمنة المتأخرة، قد تخلف حتى عاد يستهدي بالعقل الكافر، من غير تحرج؛ {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22].
|