صنعاء نيوز/ عادل الأحمدي - أيقظت أحداث السنوات الأربع عقب استيلاء الحوثيين على السلطة في اليمن عام 2014، نعرات عديدة كانت نائمة منذ أكثر من خمسة عقود، كالمذهبية، والسُلالية، والمناطقية. وقد أثار ظهور تيار شبابي باسم القومية اليمنية (أقيال) سجالاتٍ صاخبةً بين المؤيدين والمناوئين، تبدّت معركة رديفة للمعركة الحربية القائمة؛ حيث تصدر صفوفها باحثون، وكتّاب، وإعلاميون، وناشطون سياسيون.
من بين أكثر هذه السجالات تجرؤا إنكار مشاركين فيها الانتماء الوطني لهاشميي اليمن، الحامل الاجتماعي للمشروع الحوثي، ودمغهم بـ"المتورّدين"، أي الدخلاء، في مقابل تأكيد القوميين اليمنيين على عمق جذورهم وارتباطهم التاريخي باليمن، ووصفهم أنفسهم بالأقْيال (جمع قَيْل، وهي مفردة سبئية تعني: الملك أو سيد قومه)، مرادفا لوصف "السيد" عند الهاشميين. ثم انبروا في استحضار خصائص اليمانية، ومآثرها، ورموزها، مثل طرح التقويم السنوي الحِمْيري، تقويما بديلا للتقويمين الميلادي والهجري، والدعوة إلى التخاطب باللغة الحميرية، بأبجديتها الخاصة التي لا تزال لغةً قوميةً في محافظة المَهْرة وأرخبيل سقطرى.
إلى جانب ذلك، تصاعدت دعواتٌ تنادي بإعادة النظر في الصورة السائدة عن عبهلة بن قيس، المعروف بالأسود العنسي، الذي تقول المصادر الإسلامية إنه ارتدّ عن الإسلام، وادعى النبوة، بينما ينظر إليه تيار العباهلة في حراك الأقيال أنه ثائر وطني، قاوم الوجود الفارسي في اليمن، آنذاك، ودُمغ بادّعاء النبوّة. وتوِّجت هذه الدعوات بالمطالبة بتجريم أو حظر ما اصطلح على تسميتها "الهاشمية السياسية"، دستوراً وقانوناً؛ لتجنيب الأجيال اليمنية المقبلة دورات العنف السياسي التي تسببت فيها.
وعلى الرغم مما شغله حراك القومية اليمنية من حيّز في الأزمة اليمنية القائمة، إلا أن هنالك من يقلل من شأنه، وتداعياته المستقبلية؛ حيث يوصف بالأمر العارض الذي سيزول بانقضاء الحرب، وعودة الحياة إلى سابق عهدها. فيما يعتقد بعضهم أنها قفز على الواقع، وأن الحوثيين، بوصفهم الواجهة السلطوية للهاشمية السياسية، لا يزالون يسيطرون على مناطق الثقل الجغرافي والبشري في البلاد، وأنه مهما تكن نتائج الحرب، فإنهم سيظلون قوةً اجتماعيةً وسياسيةً ذات وزن.
وتذهب آراء إلى أن ما استدعته الإمامة الهادوية من نبشٍ لدفائن العنف وتجريف الهوية اليمنية، خلال حكم الأئمة عدة قرون، وربط ما جرى بالأمس بما يجري اليوم، في ظل سيطرة الحوثيين على السلطة، يجعل من تجاوز دعوات القومية اليمنية أمراً عسيراً، وقد يزداد ذلك تعقيداً، إذا ما توسّعت رقعة العداء إلى بقية من يمكن أن يطلق عليهم "المتورّدين" الذين استوطنوا أرجاء من البلاد، خلال مراحل تاريخية مختلفة، ولعبوا دوراً كبيراً في إحداث فجوات كثيرة حاصلة في الوعي اليمني وتعميقها. وهنا، يحسُن الاقتراب أكثر من بعض هذه الفجوات بمثالٍ بسيط، يجسّده تناوب الغزاة والمتورّدين ونحوهم، على عرش اليمن، كالأحباش، والفُرس، وحكام دولة الخلفاء، والأئمة الهاشميين، والأتراك، والبريطانيين. وقد مثّل الهاشميون أبرز فواعل هذه الفجوات التي لم تُردم إلا فوق أنقاض سلطتهم، بقيام ثورة "26 سبتمبر" في العام 1962 في الشمال، واكتمال ذلك بقيام ثورة "14 أكتوبر" في العام 1963 على المحتل البريطاني في الجنوب. ولولا ذلك لما تمكّن اليمني من إدارة دولته، وقيادة الجيش، وتولي القضاء، بصرف النظر عن إخفاقه في تحصين هذا المنجز، ومنع تكرار وقوع مثل هذه الفجوات.
بدأت دعوات القومية اليمنية عبر ناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي، "فيسبوك" و"تويتر"، منذ نحو عامين. وخصصت صفحات لمجموعات تحمل عدة مسميات، مثل: الأقيال، والأذواء، والمكاربة، والعباهلة. وسرعان ما استقطبت هذه الدعوات عشرات آلاف من المتابعين. فعلى سبيل المثال: بلغ عدد متابعي صفحة التيار الأوساني 106 آلاف، بينما تضم صفحة العباهلة 37 ألف عضو، على الرغم من تشدّدها في شروط العضوية. وقد أصبحت أغلب هذه الصفحات منتديات للنقاش الساخن بين مؤيدي حراك القومية اليمنية ومناوئيه. وامتدت سجالات أولئك إلى مجموعات في "واتساب"، و"إنستغرام"، لكن هذه الظاهرة، على الرغم من أهميتها، لم تحظ بالبحث والدراسة.
عمد أنصار القومية اليمنية إلى نبش الزوايا المهجورة في التاريخ اليمني خلال فترة ما قبل الإسلام وفتوحاته، وتعرية سجل الأئمة الهادويين الذين حكموا أجزاء واسعة من مناطق الشمال، بالحديد والنار، قرونا طويلة. كما منح كثيرون من ناشطي حركة الأقيال أنفسهم صفة "القَيْل"، وإضافتها إلى أسمائهم في صفحات التواصل الاجتماعي، وكتابة ذلك بحروف خط المُسنَد إلى جانب المسمى العربي.
يرى وكيل وزارة الثقافة اليمنية، زايد جابر، أن ظهور حركة الأقيال "رد فعل طبيعي لتوسع وهيمنة الحركة الحوثية ذات النزعة السلالية والعنصرية، وسعيها إلى نشر وإحياء وفرض فكر وتراث الإمامة الهادوية، المتمثل بمزاعم الاصطفاء الإلهي للسلالة الهاشمية، واحتقار وتسفيه تاريخ اليمن وإرثه الحضاري، وحركته الوطنية ضد الإمامة عبر التاريخ. وهو أمر تكرّر كثيراً في التاريخ اليمني، كإحدى الوسائل الهامة لإحياء روح المقاومة لدى اليمنيين، في مواجهة الإمامة، بدءاً من رائد الحركة الوطنية الأولى، أبي محمد الحسن الهمداني، في القرن الرابع الهجري، وانتهاء بالحركة الوطنية المعاصرة". وقال جابر لـ"العربي الجديد": "مهما بدا من تطرّف في طرح بعض المنتسبين إلى هذه الحركة الوليدة (الأقيال)، والذي لم يتجاوز حتى الآن منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن الزمن كفيل بترشيد هذه الحركة. ونصيحتي لمنتسبي هذا التيار التركيز على الأهداف التي يجتمع حولها اليمنيون اليوم، وهو الرفض الحاسم والجازم لدعاوى الاصطفاء الإلهي، وغير المتسامح معها، ومع الإمامة رموزا وفكرا، وإحياء تراث الحركة الوطنية اليمنية التي قاومت هذا الفكر الكهنوتي، فكرياً وعسكرياً، منذ أن وطأ أرض اليمن مع يحيى حسين الرسي عام 284هـ، بالإضافة إلى إحياء ارث اليمن الحضاري والتمسك بمبادئ وأهداف ثورة 26 سبتمبر في 1962، وفي مقدمتها المواطنة المتساوية، وإزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات".
صوت غاضب
"ليست حركة منظمة".. هكذا يصفها محمد العمراني، رئيس المركز الوطني للمعلومات، والذي قال لـ"العربي الجديد"، إن حراك الأقيال "صوت غاضب يحاول الاحتماء بتاريخه. وأضاف "في ظل اختفاء الدولة، تظهر الهويات الأصغر، والمسؤول عن ظهور أية حالات نزوع نحو الماضي أو انقسام في المجتمع، هم أولئك الذين أسقطوا الدولة وأقاموا مكانها العِرق". ويرى العمراني أنه "في مواجهة الدعوات السلالية، قد يرفع الناس دعواتٍ تُشبههم، وهذا حق طبيعي للناس، يحتمون بما يرون أنه يحميهم من غلواء الفجور، الذي أظهرته هذه الجماعة التي لم تعد تقيم وزناً إلا لعرقها، والذي تراه مفضلاً على الناس". لكن العمراني قلّل من آثار هذه الدعوات مستقبلاً، مبيناً أن "حالة التوحش التي أظهرها الحوثيون لم تُقابل، حتى الآن، بتوحش مقابل؛ فلم يجرِ تصنيف الهاشمية، مثلاً، حركة عنصرية، ولم تقم ضدها حركات عنيفة متطرّفة تقتل بالهوية والعرق والسلالة، فما زالت تتمتع بوجود مؤثر في صفوف مؤيدي الحكومة الشرعية، وهو أمر يُحسب للشعب اليمني الذي لا يزال يؤطر الصراع القائم بعيداً عن العرقية والطائفية، باعتبار أن المعركة متعلقة بمفاهيم الدولة والقانون والمساواة والعدالة الاجتماعية".
ويرجح العمراني أن إصرار الحوثي على تطييف المعركة، وإظهار النزعة العنصرية، بصورة تكبر كلما امتد الصراع، سينعكس سلباً على الهاشميين، خصوصا أنهم قد أظهروا، حسب رأيه، حالة من التآزر مع الحوثي، بما يوحي بأن الأمر "يتجاوز أن يكون مصادفةً أو حالة تعاطف طبيعية إلى كونه مؤامرة عرقية سلالية مدروسة، تعمل منذ سنين طويلة على غرس نفسها في كل المفاصل، وتسعى إلى تقويض الدولة لصالحها. فالهاشمي الذي درس في أفضل جامعات العالم نسي كل قيم الحضارة المعاصرة، وبدأ ينتمي روحياً ومادياً إلى هذه الحركة (الحوثية). والرجل الحزبي والناشط الحقوقي وشخصيات كانت لها سمعة جيدة في النشاط المدني، كلهم دفعة واحدة إلا القليل منهم، تحولوا إلى حالةٍ من النفير العام ضد المجتمع، وتناسوا التعايش الاجتماعي عقودا، والقيم المعاصرة".
بين مؤيد ومناوئ
ينفر يمنيون من نزعة التطرف التي يبديها أنصار تيار القومية اليمنية تجاه الهاشميين؛ حيث ينظرون إلى الانقسام الحاصل بوصفه انقساماً سياسياً، لا عصبوياً سُلاليا، فمثلما انحاز هاشميون عديدون إلى جانب الحوثيين، انحاز آخرون منهم إلى الطرف المناوئ لهم، فيما لزم آخرون جانب الحياد. وإلى ذلك، يبدي أحد الناشطين الهاشميين من مؤيدي الشرعية (فضل عدم الإفصاح عن اسمه)، توجسا شديدا من حراك الأقيال، ويرى أن تيار العباهلة مشروع فكري موجَّه يتمثل، حسب رأيه، في "شتم الصحابة والإساءة الى الإمام علي، رضي الله عنه، وفاطمة والحسن والحسين وذرياتهم، بل مشروع سياسي يقدم خدمة مجانية للحركة الحوثية النازية، ولا نستبعد أن يكون لها دور في تشجيعه ودعمه؛ لأن هذه الأطروحات العمياء تخدم الحوثي، وتدفعه إلى رفد جبهاته بالمجنّدين الجدد من الأسر الهاشمية"، حسب قوله.
يتهم آخرون حراك الأقيال بأنه مخترقٌ من فئاتٍ تستهدف تشويه المجهود الفكري الموجه ضد فكر الإمامة، وأن هنالك خلافات تعصف بأنصار هذا الحراك، أدت إلى الحؤول دون اختيار قيادة له. وفي مقابل ذلك، يدافع علي البكالي عن هذا الحراك، وهو أحد الناشطين ضمنه، مبيناً أن القومية اليمنية ليست عدة تيارات، وإنما "حراك وطني واحد، متعدّد النوافذ والمنابر، فتيار الأقيال هو ذاته تيار العباهلة، وهو ذاته التيار الأوساني، وهو ذاته المكربي، وجماع ذلك كله، القومية اليمنية التي هي حراك الهوية والثقافة والوعي بالذات الحضارية الوطنية اليمنية حلا جذريا شاملا للمشكلة اليمنية، المتمثلة في صراعات الإمامة والبطنين، المحملة بنزعة العنف والإرهاب والفساد".
وقال البكالي لـ"العربي الجديد"، إنه "ليست للقومية رموز معروفة، ولا قيادات سياسية، كون القومية اليمنية، بكل تياراتها ونوافذها، حراك وطني تاريخي ثقافي وسياسي، يعمل دعاته ومنظروه كفريق عمل واحد متسق، كلهم قادة وكلهم جنود، ليس فيهم من يرى نفسه أكبر من الآخر". وأكد أن حراك القومية اليمنية "لا يعادي أحداً، ولا يطعن في أحد، سوى أنه يحمل على عاتقه إسقاط خرافة البطنين والسلالة المقدسة، ويعمل على إنهاء الفكر الطائفي السلالي في اليمن، وإعادة بعث الهوية اليمنية، والذات الوطنية التي تحمي اليمن وتحترم جيرانه". ويعزو البكالي الشطط الموجود في أطروحات بعض مؤيدي الحركة إلى منابرها المفتوحة لكل من يطلب الانضمام إليها "من دون فحص نواياهم وعقائدهم وتوجهاتهم، ولا شك أن بينهم من يسعى إلى تشويه القومية وتوجهها الوطني، ومن هؤلاء وعنهم، تصدر بعض الكتابات النزقة والمغرضة، بقصد تشويه الحراك القومي، الذي، في الأصل، لا يستهدف سوى أصحاب فكرة البطنين، والحق الإلهي، والعنف المقدس، وحلفاء الفرس في اليمن".
محاولة للبحث عن الذات
تبدو ظاهرة حراك الأقيال التي نراها اليوم ملفتة، لكنها، في الوقت نفسه، محاولة للبحث عن الذات، مثلما كان ظهورها في الماضي، عبر الكتابات والقصائد، مع كل مرحلةٍ يتعرّض فيها اليمن للتمزق والتفتت، بسبب الدعوات المذهبية والمناطقية؛ إلا أن الفارق كان في نوعية الكتابة، فقد كان كتاب الأمس مشبعين بالتاريخ، وأكثر معرفة واطلاعاً من كتبَة اللحظة الراهنة. وذلك بحسب ما يرى الباحث المتخصص في التاريخ اليمني، محمد صلاح، والذي قال لـ"العربي الجديد"، إن الانتقاد الذي يوجهه لبعض الكتاب والمنضوين في هذا التيار، يركّز على توجيه الصراع والتناقض السياسي على أسس عرقية، وهذا ما لم يعرفه اليمن في تاريخه، ويعود السبب في ذلك إلى أن الغالبية العظمى منهم مدفوعون بردة الفعل. فهناك محاولة تشكيك في بعض الشخصيات الجمهورية التي انخرطت في ثورة سبتمبر منذ لحظاتها الأولى، مع ما كان لها من دور فاعل في الإعداد لها وإنجاحها، خصوصاً الهاشميين. وتتبدّى هذه المحاولة في صورةٍ عبثيةٍ، وتعميم مختل، وهي تحاول وسم كل منتسب للهاشميين بأنه دخيل على العمل الوطني. ولا يسهم هذا التشكيك في تعزيز حجة دعاته، لأنه لا يستند إلى دليل، بل يعمل على تعزيز فقدان المجتمع ثقته بنفسه وبقدرته على إيجاد إجماع وطني على القضايا المصيرية، خصوصاً في الظرف الراهن الذي يحتاج اليمن فيه إلى جميع أبنائه.
يستدل صلاح بنماذج وطنية من فئة الهاشميين، قاومت الفكر الإمامي، أمثال أحمد عبدالوهاب الوريث، وأحمد المطاع. مختتماً بالقول إن "تفكيك الإمامة وملحقاتها السلالية والمذهبية والطائفية والمناطقية، لن يتأتّى إلا بصياغة مشروع وطني جامع، يقوم على المشتركات الوطنية التي تعزّز من شعورنا جميعاً بأننا يمنيون. كما أود التنبيه إلى أن "النزعة" القحطانية منذ بدايتها لم تكن نبتة للتربة اليمنية، وإنما نبتت خارج اليمن، وتم استدعاؤها إلى الداخل اليمني على يد لسان اليمن وباعث مجدها، أبي محمد الحسن الهمداني، لمواجهة الأطروحات والدعوات المذهبية والسلالية التي دخلت البلاد على يد أتباع الإمامة، وغدت وقوداً للتصارع على السلطة والحكم. ولم يؤصل الهمداني هذه الفكرة على أساس عرقي، بل بناها على قاعدةٍ سياسية؛ بحيث تحدث عن قحطانيين تنزّروا، ونزاريين تقحطنوا، أي: تبنّوا الموقف السياسي لهذا الطرف أو ذاك.
العربي الجديد |