صنعاء نيوز/ كفاح محمود كريم -
في كل دول العالم وتجاربها السياسية هناك خدمة عامة يقوم بها المواطن لدفع ضريبة مواطنته وانتمائه لدولته ووطنه، وإزاء تلك الخدمة يتقاضى ما يسد مصاريفه بالحد الأدنى أو المتوسط واقصد بالخدمة العامة تحديدا الجندية حيث أنها تمثل ارفع أنواع الخدمة الوطنية العامة، ونتذكر جميعا مقدار مرتباتها وامتيازاتها وهي بالتالي رمزية لا تتعدى مصاريف جيب لأنها في الأصل ضريبة وطنية سواء كانت تطوعية أو إلزامية، وبالتالي فهي تقدم في أي وقت أو ساعة اعلي مستويات الخدمة وهي الدفاع حتى الموت عن الوطن ومصالحه العليا.
بعد إسقاط نظام حزب البعث في العراق وبعض أنظمة الحزب والقائد الأوحد في ما سمي ببلدان الربيع العربي، تعرضت هذه المفاهيم والمصطلحات إلى تغييرات حادة أفقدتها معانيها الأصلية، وتحولت مؤسسات الخدمة الوطنية إما إلى ميليشيات مناطقية أو حزبية أو دينية أو مذهبية، وتلاشى أي مفهوم جامع للمواطنة وخدماتها الرفيعة، أو إلى قيادات لا يجمعها إلا التكسب ونهش المال العام تحت مسميات الامتيازات الواقية والحمايات القبلية، التي أدت إلى تفكك المجتمعات وتباعد الارتباطات بين مكونات وطبقات تلك الشعوب والدول.
وبتحول الخدمة الوطنية إلى ارتزاق أو احتراف، لم يعد هناك رابط أو جامع غير المال الذي أصبح الطرف الثاني في معادلة العمل الوطني، وبذلك نمت طبقة من المتكالبين على المراكز القيادية في النظم السياسية البديلة، وأصبحت مؤسسات الدولة وسلطاته بازار أو سوق لبيع المناصب كما يحدث في العراق وأقرانه من دول الديمقراطيات العرجاء، حيث تحولت السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى مصادر للإثراء والصفقات التجارية والاستحواذ على المال العام تحت مسميات عديدة اقلها الامتيازات وأبشعها بيع وشراء المناصب، بينما نرى في معظم البلدان المتحضرة منح الامتيازات والتكريم للفنانين والأدباء والعلماء والمتميزين في إبداعاتهم ومواهبهم، حيث يتدافع الجميع من أجل توفير أرقى المستويات والفرص للناجحين في أعمالهم ودفعهم إلى الأمام، في الوقت الذي يتنافس في بلداننا الكثير من أجل إرباك الناجحين والمتميزين ومحاولة كبح جماحهم وتقدمهم وإفشالهم.
وفي الانتخابات الاخيرة التي جرت في 12 مايو 2018م سألت أحد المرشحين لعضوية مجلس النواب عن دوافع ترشيحه فرد متألماً ومتعجباً من سؤالي، قائلا بعد أن سرد لي حالة البلاد، وكيف لا يرشح نفسه وهو أمام هذا الكم الهائل من الفساد، وبالتأكيد كان يعني ٲنه المنقذ والمخلص وٲنه سيفعل كذا ويستدعي الفاسدين ويحاسبهم في البرلمان، على غرار الاستدعاءات التي حصلت للوزراء والمسؤولين في الدورات السابقة، والتي أنتجت أجيالا من الحيتان لا مثيل لها في العالم، وبعد التي واللتان اعترف الأخ بأن وضعه تعبان، وبأن آخر ملجأ له هو البرلمان لتحسين أحواله بامتيازات حرامية الوطنية ومتسلقي سلم الديمقراطية العرجاء.
هذه الامتيازات التي تجاوزت مثيلاتها في كل بلدان العالم قياسا بالمستوى المعاشي لتلك البلدان، بل أصبحت هدفاً لكل مُتاجر ومُغامر للحصول على كنز علي بابا ولصوصه الثلاثمائة وملحقاتهم من وزراء الغفلة وتُجار الصفقات القذرة، حتى أصبح البلد واحداً من أفشل البلدان وأفسدها في العالم، وأصبحت مدنه بما فيها العاصمة بقايا مدن كانت ذات يوم حواضر، ترتع فيها اليوم عصابات وميليشيات ونكرات اعتلت منصات الحكم والإدارة في أبشع حقب التاريخ التي تمر فيها الشعوب.
تلك الامتيازات والسحت الحرام أو مغارة علي بابا ( مجلس النواب والحكومة والرئاسات الثلاث ) التي أصبحت بيد مجاميع من اللصوص والمتاجرين وأصحاب القومسيونات السياسية بعد استحواذها على كلمة السر في دخولها والهيمنة على معظم مفاصلها، حتى ليكاد المرء لا يفرق بين أولئك الذين يحملون على أكتافهم أعباء وطن جريح وبين طوفان الفاسدين الذين تجاوزوا أصحاب القضية بمزايداتهم وتقمصهم لشخصيات الوطنيين والمناضلين والمصلحين، بل إن أغلبهم فبرك له قصة نضالية على أيام حكم حزب البعث مُدعياً بأنه ٲحد أبطال المقاومة والمعارضة، وتبين بعد ذلك ٲنه مفصول لأسباب أخلاقية تتعلق بذمته في الاختلاس أو خيانة الأمانة أو الهروب من الخدمة الإلزامية أو القيام بالٲعمال الدنيئة، وقصص هؤلاء يعرفها العراقيون جيداً.
وحينما تسأل ٲحد القائمين على الحكم لماذا كل هذه الامتيازات لموظفين بالخدمة العامة؟ يٲتیك الجواب بكل تفاهة وصفاقة بأنها تحمي صاحبها من الانحراف أو الاختراق من الأجنبي، حيث يجب أن يتمتع برفاهية لا مثيل لها لكي لا يخون وطنه ويصبح جاسوساً أو عميلاً لدولة أجنبية.
أي منطق أو مبدأ وطني هذا وأي أخلاق تلك التي تدفع القائمين على السلطة والمال والتشريع بالربط بين الوطنية والانتماء والشرف الشخصي والمال وامتيازاته للنواب والوزراء وكبار المسؤولين؟
بالله عليكم أية وطنية هذه التي تشترى بالامتيازات، وأي شرف تصونه الأموال؟
هُزلت ورب الأكوان والأديان!
وعلى هذه الأسس المخجلة وبالمقارنة تحت ذات المبدأ لن تبقى علاقة طاهرة ولا شرف مُصان ولا غيرة، لأنها وضمن هذا السياق سيتم حمايتها بالامتيازات ابتداءً بالزوجة والٲم والأخت وهكذا دواليك في عرف فاسد وسلوك منحرف لتبرير واحدة من أخزى السرقات واللصوصية باسم حماية المسؤول والنائب من الانحراف والجاسوسية.
ولكي نستطيع أن نجعل الأهالي تحترم البرلمان وأعضائه والحكومة ووزرائها وكبار المسؤولين ولا ترتعب منهم وتحقد عليهم بسبب ليس امتيازاتهم غير العادلة وحماياتهم من عصابات العشائر والميليشيات، علينا أن نعمل من اجل رفع الامتيازات لكي يُصان الشرف والوطن، دونما ذلك ستبقى طبقة المسؤولين الكبار سلعة تُباع وتُشترى، حالها حال أي بضاعة يتم تداولها في الدكاكين!
علينا أن نذهب إلى تشريع قوانين حديثة للخدمة الوطنية تلغي كافة الامتيازات الحالية وفي كل المستويات معتمدة على تشريعات قانون الخدمة المدنية أو تعديلاته بما يتوافق مع وضع البلاد وتجارب الشعوب الأخرى، واعتبار تلك الوظائف خدمة عامة حالها حال الجندية وبرواتب تقع ضمن سلم الرواتب ودرجات الوظائف مع مخصصات الموظفين التي كانت سائدة مثل بدل السكن والإيفاد وبشكل معقول لا يستفز الأهالي ووضعهم، واستبدال الحمايات بأفراد من الشرطة المحلية وبعدد معقول يتم تحديده حسب الحاجة الحقيقية مع مراعاة الوضع الأمني سلبا وإيجابا.
[email protected]