صنعاء نيوز - لدايوكسين والبيئة حوار علمي للأستاذ الدكتور محمد سعد عبد اللطيف أستاذ الكيمياء الحيوية بجامعة القاهرة
الدايوكسين هو إحدى المواد الكيميائية التي صنعها الإنسان والمعروفة على أنها الأكثر سمية حتى الآن. والدايوكسين هي تسمية غالباً ما تستخدم للدلالة على ثلاث مجموعات سامة وخطيرة جداً وهي :- الدايوكسينات الأصلية true dioxins ، الفوران furans (سوائل ملتهبة عديمة اللون) ، بفينيلات متعددة الكَلوَرة polychlorinated biphenyls (PCBs) وهي الهيدروكربونات البيضاء المتبلورة . وتشترك هذه المجموعات الثلاث بحلقتين من البنزين وذرتين من الكلور . وأخطر الأنواع المعروفة والتي عليها يتم قياس سمية المجموعات الأخرى هي 2,3,7,8tetrachlorodebinzo-p-dioxin (TCDD)
وحتى هذا اليوم يوجد 75 دايوكسين و 135 فوران و 209 بيفينيلات (عن وكالة حماية البيئة الأمريكية) والعديد منها له نفس سمية وخطورة الدايوكسين .
وما أن تظهر هذه المادة في البيئة تتثبت بها بقوة ، لأن البكتيريا الموجودة في الطبيعة لا تستطيع تحطيمها تماماً . كما أن الدايوكسبن يستفحل في السلسلة الغذائية ويتزايد تركيزه في أنسجة الحيوانات وخصوصاً الدهنية منها ، ثم تصل إلى أعلى الهرم في السلسلة وهو الإنسان . وما أن تدخل هذه المواد الكيميائية جسم الإنسان حتى تبقى فيه لأمد طويل مسببة له أضراراً جسيمة .
أما منذ متى أصبح خطر التلوث بالدايوكسين يغزو مجتمعاتنا - فمنذ بداية هذا القرن . إن الاختبارات على الدايوكسين ، والتي أجريت على رسوبيات البحيرات وعلى أنسجة الإنسان القديم تدل إلى أنها تحتوي على نسب أقل من الدايوكسين الموجود في أجسام الأجيال المتعاقبة . ودخل الدايوكسين بيئتنا بكميات معنوية مع التوسع الصناعي وبعد الحرب العالمية الثانية ونشوء الصناعات البتروكيميائية وصناعة الكلور .
إن هذا لشيء مروّع . ويظهر أن الإنسان قد قام بتشويه عقر داره بنفسه وتخريب حياته المستقبلية ، معرضاً بذلك للخطر حياة النظام الحيوي كله .
وكان بداية حوارى مع د . سعد بهذا السؤال
كيف يدخل الدايوكسين إلى أجسامنا ؟
كون الدايوكسين مادة لا تتحلل في الطبيعة بسهولة ، فهي عندما تنتهي في التربة أو في الماء أو على أسطح أوراق النباتات تدخل ضمناً في السلسلة الغذائية وتتراكم في دهون الأسماك والدواجن واللحوم وفي الحليب البقرى ومشتقاته. وفي الحقيقة إن أكثر من 90% من الدايوكسين الموجود في أجسامنا آت من الأغذية بالذات .
ويوجد الدايوكسين في جميع أنواع الأغذية التي نتناولها تقريباً ، وفي المقام الأول في دهن الحيوانات وخصوصاً تلك التي تقع في أعلى السلسلة الغذائية . وتظهر في الشكل رقم 5 الفروق في كميات الدايوكسين المتراكمة في أنواع مختلفة من الأغذية في عينات تم جمعها من أنحاء متفرقة من الولايات المتحدة الأمريكية (وحدة القياس المستخدمة في الدراسة هي جزء بالتريليون) . ويمكن من الشكل استخدام أطوال الأعمدة للمقارنة، والتي تشير إلى أنواع الأغذية ونسبة احتوائها على الدايوكسين .
كذلك فإن الدايوكسين أكثر ما يوجد في مزارع الأسماك وفي دواجن المزارع ومشتقات الثروة الحيوانية وأقل ما يوجد في المحاصيل الزراعية . ويعود السبب في ذلك إلى ارتباطه السريع مع الدهنيات ومشتقات الألبان ، ولهذا السبب يتركز في أجسام الحيوانات قبل غيرها . كما نلاحظ أيضاُ ارتفاع تركيزه في الزبد المستورد. أما وجوده في الأسماك غير الدسمة فيعود إلى أنها تتغذى بشكل مستمر على أسماك أخرى وعلى اللافقاريات ، التي تحتوي أجسامها على الدايوكسين . وبهذه الطريقة يزداد تركيز هذه المادة في أجسامها خلال فترة حياتها بشكل أكثر مما هو في الحيوانات المجترة والتي تعيش بشكل رئيس على النباتات .
ومما يجدر ذكره أن تركيز الدايوكسين يقاس بكميات ضئيلة جداُ (جزء بالتريليون ) ، والتي تعادل أجزاء من البليون من الغرام من الدايوكسين لكل 1 كغم من الجسم . وتعد هذه الكمية أقل بمئات المرات أو حتى بآلاف المرات من تركيز المواد الكيميائية الأخرى ذات العلاقة بالبيئة . وعلى الرغم من ذلك فإن الدايوكسين ذو مخاطر جدية . .
ما هو مصدر الدايوكسين ؟
يتكون الدايوكسين من عملية احتراق المركبات الكيميائية المحتوية على الكلور كعنصر رئيس فيها مع مركبات الهيدروكربونات العضوية . وأهم مصدر للدايوكسين في الطبيعة ، والذي يشكل 95 % يأتي من مواقد حرق فضلات وبقايا عمليات المعالجة بالكلور ، إضافة إلى مصانع البلاستيك المختلفةpolyvinyl chloride plastics (PVC) التي تعتبر من أكبر مصادر التلوث به . وكذلك من مصانع المواد الكيميائية كالمبيدات الزراعية ومعامل العجين الورقي ومصانع صهر المعادن .. الخ .
من الذي يتعرض أكثر من غيره لأخطار الدايوكسين ؟
بالنسبة للإنسان- فالبشر يتفاوتون من حيث تعرضهم للدايوكسين ومن حيث درجة تركيزه في أجسامهم .
إن الأشخاص المعرضون أكثر من غيرهم إلى زيادة مستوى الدايوكسين في أجسامهم، هم أولئك الذين يتناولون أسماك المزارع والدواجن بكثرة وخصوصاً الملوثة منها ، والعمال الذين يعملون في مصانع توجد فيها مواقد حرق المواد وكذلك العمال الذين يتعاملون مع المبيدات الزراعية ، وأولئك الذين يعملون في مصانع الأخشاب ويتعاملون مع البنتاكلور فينول pentachlorophenol . كما أن الأشخاص العاملين في مصانع التقصير (التبييض) وفي صناعة عجين الورق وآلات طحن الورق معرضون أيضاً لأخطار الدايوكسين ، إضافة إلى الناس المعرضين لمخاطر وحوادث المصانع والمخلفات الصناعية السامة وعمال إطفاء الحريق والأطفال الرضع ، وكذلك كل من تعرض لمبيد الأعشاب - العامل البرتقالي Agent Orange والذي استخدم في حرب فيتنام .
تأثير الدايوكسين على الصحة والبيئة
الدايوكسينات موجودة في كل مكان . وهي مواد سامة قاتلة . وما أن تدخل البيئة تبقى فيها لأمد طويل . فهي تتراكم في أنسجة الكائنات الحية ، ويزيد مستوى تراكمها زيادة مطردة مع الارتفاع في السلسلة الغذائية التي يستقر على قمة هرمها الإنسان .
وعندما يصل الدايوكسين إلى الجسم يلصق بمُستقبِلات الخلايا cell receptors الموجودة من أجل تنظيم عمل الهرمونات والإنزيمات (الخمائر) . والنتيجة هي أن تنقلب وظائف الخلايا الطبيعية ومن ضمنها الحمض النووي DNA (المسؤول عن الصفات الوراثية للكائنات الحية) وتندفع محطّمة كل شيء تصادفه في طريقها .
تسبب الدايوكسينات مدى واسع من الأمراض والمشاكل الصحية للإنسان والحيوان ومن ضمنها :
* السرطان ( تضاعفت إصابة الناس بسرطان الخُصية والبروستاتة بمقدار ثلاث مرات مقارنة مع الخمسين سنة الماضية ، وزادت احتمالية إصابة المرأة بسرطان الثدي حتى وصلت إلى 1 من 6 ، بينما كانت الإصابة عام 1960م 1 من 20 )
* تأثيرات على سلوكيات وتصرفات الكائنات الحية واضطرابات تعليمية
* انخفاض استجابة جهاز المناعة
* ضعف في الهرمونات الجنسية الذكرية
* مرض السكري
* الكلورآكن chloracne (مرض يصيب الجلد ويؤدي إلى ظهور طفح جلدي وأكياس وبثرات على الجلد ، وتظهر تقرحات في سائر أنحاء الجسم)
* فقد الحيوانات المنوية (انخفضت أعداد الحيوانات المنوية لدى الرجال إلى 50 % عما كانت عليه قبل 50 عام)
* التهاب بطانة الرحم endometriosis (وتعاني منه في الوقت الحاضر 10 ملايين امرأة أمريكية ، بينما كان هذا الأمر نادر الحدوث في السابق)
* أضرار في الجلد وفي الكبد وفي الكليتين
إن الحالات المرضية المذكورة آنفاً موثقة وذات دلالة معنوية من الناحية الإحصائية (دراسات جديدة لوكالة وقاية البيئة EPA ) .
وماذا أيضاً عن الدايوكسين في حياتنا العملية ؟!
في كثير من الأحيان يعتقد المواطن أو المستهلك بأن الشيء الأبيض يرمز إلى النظافة. وبأنه كلما كانت المادة أنصع بياضاً كلما كان أفضل !! وبأن مستحضرات الكلور المبيَّضة ليست آمنة فقط وإنما عملية أيضاً . لا شيء يدعو للدهشة ! فمتاجرنا مليئة ليس بالمواد الاستهلاكية اليومية المختلفة فحسب ، ولكن أيضاً بالأغذية العجيبة وباللحوم الحمراء والدواجن المجهزة بطرق جذابة خالية من العظام والدهن وما شابه . . وجميعها موضع تساؤل !!. وإذ كان الشيء الذي يدخل أجسامنا عن طريق الأكل لا نهتم به كثيراً ، فكيف الأمر حينئذ إذا تعلق بالملابس والأوراق ومحارم الورق والفوط وغيرها من المواد المبيضة السامة . فمن وجهة نظر المواطن العادي - كل شيء أبيض هو أنظف وأفضل وكل لحم أحمر خال من الدهن وكذلك لحم الدجاج هو آمن ومضمون .. وهكذا ..
لا نريد أن نخوض في موضوع الغذاء ، فمواضيعنا السابقة واللاحقة تشير إلى ذلك .
إن الكلور مادة سامة جداً كونها ترتبط بالمادة العضوية لتنتج مواد كيميائية تسمى مواد كلور عضوية غريبة عن الطبيعة ومنتشرة في جميع . ومعظم هذه المواد ثابتة ودائمة وبعبارة أخرى فهي لا تتحلل ولا تتحطم في البيئة لمئات السنين . وهي بذلك يتعزز وجودها ويستفحل في الأماكن الدهنية لجسم الإنسان والحيوان .
غير آمنة.
الأضرار الناجمة عن الحشوات أو الفوط البلاستيكية plastic applicators
إن استخدام التامبون tampon أو الحشوات القطنية كالفوط النسائية بإمكانه أن يسبب أضراراً جسيمة على الصحة وخصوصاً على صحة النساء اللواتي لا تشكين من أية مشاكل في الحالات العادية . وقد دلت الدراسات بأن استخدام الفوط يؤدي إلى تخدش وتمزق جدار المهبل نتيجة استخدام الحافظات الورقية ، وتمزق في الأوردة جراء استخدام الحافظات البلاستيكية "flower petal soft " .
ومن المعروف بأن النسيج المهبلي هو واحد من أكثر الأنسجة الماصة absorptive في جسم الإنسان . وقد أثبت أحد الباحثين عام 1918م بأن هذه الأنسجة هي أكثر الأنسجة امتصاصاُ وحساسية للمواد الضارة والسّامة ماذا يمكن أن يحصل عندما تستخدم المرأة الفوط النسائية ؟ لقد توصل علماء سويديون إلى إيجاد علاقة ما بين الفوط التي تحتوي على الدايوكسين وغيرها من منتجات الكلور ، وما بين زيادة احتمالية إصابة الجهاز التناسلي الأنثوي بالأمراض السرطانية وخصوصاً سرطان الرحم والمبيض وكذلك سرطان المثانة .
ومما يجدر ذكره أيضاُ أنه ثبت من وجهة نظر علمية بان الألياف الاصطناعية (الفوط الحريرية ) تسبب وبشكل عال مرض مهم من أعراضه الحمّى والتهاب الحلق Toxic Shock Syndrome Toxin (TSST) وغير ذلك من المشاكل . وتشجع هذه الألياف على نمو البكتيريا . وإذا حصل تسمم لدى المرأة في الفترة التي تستخدم فيها الفوط الحريرية ، فستعمل هذه الأخيرة على إيجاد بيئة ملائمة لنمو السُّمِّين toxin مؤديا في النهاية إلى ظهور أعراض مرض toxic shock syndrome . إن الحرير الذي تصنع منه الفوط تتم معالجته عادة بمواد كيميائية لرفع سعته الامتصاصية ، وأن هذه الألياف السوبر امتصاصية تمتص ليس فقط دم الحيض وإنما أيضاً الإفرازات المهبلية مسببة الجفاف ومن ثم التقرحات المختلفة في أنسجة المهبل . كما ومن الممكن أن تتحول هذه الألياف الاصطناعية إلى جزء من المهبل نفسه مطوّقة جدرانه أو منطمرة فيها .
وتشير الدراسات بان عملية الامتصاص غير الصحية هذه تؤدي إلى نضوب احتياطي المغنيسيوم Mg في الجسم مؤدياً بذلك إلى إخماد أو إضعاف جهاز المناعة ، مما يسهل انتشار بكتيريا TSS وعملها الضار في جسم المرأة . ودراسات أخرى تشير إلى علاقة ما بين استخدام الفوط النسائية المحتوية على الدايوكسين وإصابة أعضائهن التناسلية بأمراض سرطانية .
وشيء مهم آخر نود التنويه إليه أيضاً وهو أن المناديل ومحارم الورق ومحارم التواليت وفلاتر القهوة.. الخ . هي من ضمن الأشياء التي لا تذكر من المنتجات المبيَّضة بمادة الكلور السامة بهدف جعلها بيضاء كالثلج. كما أن المصانع تقوم بتبييض لب الخشب للحصول على شكل يظهر أنظف ومقبول أكثر ، وعلى اعتقاد بأنه سيكون صحي أكثر . ولكن في واقع الحال هي ليست بأنظف ولا بصحية مقارنة مع تلك غير المبيَّضة .
ما هي الخيارات ؟!
يقول بيتر مونتاغ Peter Montague - بهذا القدر من سرد المعطيات عن الدايوكسين نقوم بتخديش الأخبار والمعلومات السيئة المتراكمة عن هذه المادة السامة . فالدايوكسين هو اسم متعدد الجوانب بشكل مذهل . لقد تلاعبت المؤسسات ذات العلاقة بتلويث البيئة بالدايوكسين لأكثر من عشرين عاماً . وأن حل هذه المشكلة المتفاقمة واضحة ولو لم تكن يسيرة : " علينا خلال السنوات العشرين القادمة أن ندعو بشكل متكاثف وقوي إلى تحريم مادة الكلور كعنصر استخدام رئيس في الصناعة والتخلص منه بشكل نهائي ، كي لا يعود مصدر أساس لإنتاج المواد السامة كالدايوكسينات..". هل لدينا يا ترى خيارات أخرى ؟؟!! .
ما العمل ؟
هذا هو السؤال المهم - ماذا علينا فعله وماذا نستطيع أن نفعل تجاه هذا التلوث الهائل من الدايوكسين ومشتقاته السامة ؟ علينا قبل كل شيء كمستهلكين ومواطنين مسؤولين عن صحتنا وصحة أطفالنا :
* الامتناع عن شراء المواد المبيَّضة أي كانت سواء بشاكير أو مناديل ورق أو أوراق التواليت وفلاتر القهوة . وابتياع الأوراق غير المبيَّضة قدر الإمكان .
* الامتناع عن شراء الملابس المبيَّضة سواء الفساتين أو القمصان أو الجرابات أو الملابس الداخلية ، والاعتماد على المواد التي لم تخضع لعمليات التبييض الكيميائية .
* استخدام الفوط غير المبيَّضة بالكلور ، واستخدام ضمادات طبيعية قابلة للاستخدام لأكثر من مرة .
* يجب أن يكون هناك إعلام مناسب لمقاطعة المواد المبيضة على اختلاف أنواعها ، وإخبار المؤسسات والشركات والمصانع والمستشفيات والمطاعم وغيرها بعدم التعامل مع أية مواد خضعت للتبييض بالكلور.
* أما بالنسبة إلى الأغذية الملوثة بالدايوكسينات فلا حول ولا ! فالأمر يعود إلى الجهات المعنية والمختصة بالرقابة وغيرها من المنظمات والهيئات ذات العلاقة على ما يتم إنتاجه داخل البلد وعلى ما يدخل إليه من شتى المواد الغذائية وعلى نزاهة عملها واهتمامها بصحة أبنائها وأبناء الوطن جميعاً .
إذن فالفرصة لا تزال سانحة لتصحيح الأمور . ففي واقع الأمر ممكن إيقاف كل ما يبثه الدايوكسين من سموم .. إن الأمر يحتاج إلى اتخاذ قرار من مجتمع دولي يدعو إلى عدم قبول ما يحصل حولنا من انتشار للمواد المنبعثة من الدايوكسين ومن تصنيع الدايوكسين نفسه . إننا كبشر نستطيع أن نعيش ونحيا دون الحاجة لتصنيع مواد هي في حقيقة الأمر غير ضرورية ويمكن العيش بدونها . . لا ، بل علينا أن نعيش بدونها |