صنعاء نيوز/ يونس الحكيم - من البديهيات أن تصدر مواقف مناوئة ومعارضة للأنظمة الشمولية من أناس أو أشخاص تبنّوا أفكاراً يسارية ومارسوا منذ نعومة أظافرهم أنشطة معادية لها، كالنشطاء السياسين والمعارضين والحقوقيين.
ومن غير المقبول أيضاً، أن تكون المواقف المعادية والتصريحات النارية حيال المركزية وأنظمة الحكم الشمولية صادرة من أناس كانوا منذ وقت مضى أحد أعمدة المركزية، وأحد رجالات الدولة فيها، كأمثال الدكتور ياسين سعيد نعمان، الذي شغل منصب رئيس الحكومة وأحد أعضاء اللجنة المركزية لـ"الحزب الإشتراكي"، الذي حكم جنوب اليمن ما قبل الوحدة بقبضة حديدية.
وإليكم ما قاله الدكتور ياسين عن المركزية، والذي حمل عنوان "المركزية والمشروع الوطني"، حيث تناول المقال مساوئ المركزية الحاكمة، وصراعاتها ومعاركها القمعية مع أجزاء واسعة في البلاد، وافتتح مقاله بالقول "لم تكن المركزية السياسية والإدارية في كلّ تجاربها التاريخية لكلّ البلدان حاملاً أميناً أو ناجحاً للمشروع الوطني... لم تفشل في حمله فقط، ولكنها قادت إلى تدميره أيضاً في تلك البلدان، ومنها اليمن..."، واستطرد قائلاً "بدأت المركزية في كلّ هذه التجارب برفع شعارات وطنية عامّة شاملة، وأخذت تمارس الشمولية السياسية والأيديولوجية مع قمع الهويات الثقافية والإجتماعية والسياسية الصغرى، بدلاً من الإعتراف بها وتنميتها وتطوير مضامينها بروح المشروع الوطني، حتّى انتهى بها المطاف عندما فشلت اقتصادياً وسياسياً إلى الاستعانة بمكوّنات ما قبل الدولة، المناطقية والطائفية، وإعادة بعث وتعبئة تلك الهويات المقموعة، لدعم مشروعها المركزي...إلخ".
إذاً، هذا الكلام ليس لناشط سياسي أو حقوقي، وإنّما لرجل كان يُعتبر من "عظام رقبة" النظام الشمولي في جنوب اليمن آنذاك، وعنصر المفارقة هنا أن الدكتور ياسين إلى قبل عام تقريباً، وهو يشغل منصب الأمين العام لـ"الحزب الإشتراكي"، ذلك الحزب الذي مارس الشمولية وحكم بالمركزية الخانقة التي ينبذها حاليّاً "العم ياسين"! فكيف ينبذ المركزية وما زال متمسّكاً بالوسيلة التي كانت سبباً في ممارسته للشمولية؟! وأنا هنا لست بصدد ممارسة الدراما الإنتقادية بحقّ شخص له تاريخه النضالي والسياسي، وله مكانته في الأوساط السياسية والمجتمعية، بقدر ما أودّ، وبكل موضوعية، أن أعرّج على ما قاله الدكتور ياسين، حول نظام الحكم الذي يراه حاملاً أميناً للمشروع الوطني بديلاً من المركزية والشمولية.
الدكتور ياسين، ومن مواقفه السابقة، لا يرى في المركزية، ولا في الحكم المحلّي كامل الصلاحيّات، حاملاً أميناً للمشروع الوطني، ولا يرى أيضاً في الصيغة المطروحة حاليّاً للدولة الإتّحادية بأقاليمها الستّة حاملاً أمينا وناجحاً للمشروع الوطني، ليس لأن الأقلمة تهدف إلى تقسيم اليمن، وإنّما لأنّها قسّمت الجنوب إلى إقليمين، مبرّراً رفض ذلك بأن تقسيم الجنوب إلى إقليمين هو إعادة للحالة الإستعمارية التي كانت سائدة ما قبل 67م، حيث كان الجنوب آنذاك إقليمين إلى أن جاء حزبه ووحّد الجنوب في إقليم واحد ودولة مركزية واحدة، وبالتالي لا يرى "العمّ ياسين" في الأقاليم حاملاً أميناً أو ناجحاً للمشروع الوطني، وهو يرى في الفدرالية من إقليمين، كما أفصح عن ذلك أكثر من مرّة، الخيار الأسلم لنجاح المشروع الوطني، وأنا هنا أودّ، وبكلّ موضوعية، أن أطرح على الدكتور ياسين بعض الأسئلة:
يا دكتور ياسين، أنت ترفض تقسيم الجنوب إلى إقليمين تحت ذريعة عودته للحالة الإستعمارية، وترغب، بل وتلحّ، في تقسيم اليمن إلى إقليمين، فكيف تخشى على الجنوب العودة إلى ما قبل الإستعمار، ولم تخش على اليمن، ليس العودة إلى ما قبل الإستعمار فحسب، بل وإلى ما قبل الإستبداد أيضاً؟! هذا أوّلاً.
ثانياً، أنت يا دكتور تناقض نفسك تماماً، وتخلق لنفسك حالة من "الشيزوفرينيا" السياسية، والتي تعني انفصام الشخصية وظهورها بشخصيتين متناقضتين، عندما لا تريد أن يكون الجنوب إقليمين وتريد أن يكون إقليماً واحداً وسلطة مركزية واحدة! ألم تذكر في مقالك السابق كلّ مساوئ وشرور المركزية!؟ أم أن مشروعك الوطني يجرّم المركزية في صنعاء ويجيزها في عدن؟! فلماذا هذا التناقض؟ وإذا كنت ترغب في أن تكون عدن بعيدة ومستقلّة عن مركزية صنعاء فغيرك يرغب في أن تكون حضرموت، مثلاً، بعيدة ومستقلّة عن مركزية عدن، وإذا كنت لا ترغب أيضاً في تقسيم الجنوب، وهذا من حقّك، فهناك من لا يرغب بتقسيم الشمال، أو بتقسيم اليمن.
ولا ندري هل يتغيّر موقف الدكتور ياسين عن المركزية بعد نقل العاصمة والبنك المركزي من صنعاء إلى عدن، وتصبح السلطات المركزية في عدن؟ وهل بهذا القرار ستنتهي مساوئ المركزية لأنها غادرت صنعاء وتحوّلت إلى عدن؟ أم أن الدكتور ياسين سيظلّ حاملاً العداء للمركزية أينما ذهبت؟ حتّى يرى حزبه يمسك في تلابيب السلطة فيها، ويعيد أمجاده من جديد، وبالتالي هو يرى في الفدرالية من إقليمين الفرصة الوحيدة لإعادة الحلم السلطوي الملفوف بعباءة الحزب العتيق، الذي سلبتة رديكالية الوحدة الإندماجية، وحوّلتة بين عشية وضحاها إلى طائر بلا جناح يغرّد خارج السرب. لكن يبدو أن حلم ياسين ورفاقه قد تبخّر وانصهر مؤخّراً في بوتقة الإنتقالي ككيان سياسي جنوبي موحّد"، والذي قد يكون كما يراه البعض منهم بديلاً للقيادات التاريخية وأحزابها التقليدية في الجنوب، وهو ما فسّره البعض بالسرّ الحقيقي وراء عدم مباركة "الحزب الإشتراكي"، إلى اللحظة، لهذا الكيان وباركتها العديد من القوى والمكوّنات السياسية والإجتماعية في الجنوب.
فهل تكون هذه التطوّرات المتسارعة في الجنوب بمثابة جرس إنذار لـ"الحزب الإشتراكي" وقيادته التاريخية، وفرصة كبيرة لهم للإنخراط والمحافظة على المشروع الوطني الكبير والجامع، والمتمثّل في المحافظة على اليمن الواحد والموحّد، الذي كانوا هم أحد صنّاع فجره وشركاء أساسيّين في وضع لبناته، ولا ينكر ذلك إلّا جاحد أو مكابر، ما يعني أن بقاءهم من بقائه، والعكس صحيح. |